خاشقجي والسعودية والتعددية القطبية


هل كانت مصادفة أن تتزامن زيارة وفد يضم مسؤولين رفيعي المستوى من الخارجية والدفاع الروسية، إلى السعودية، ولقاء ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في الوقت الذي كان فيه الأخير، يلوّح للأمريكيين بانعطافة محتملة باتجاه منافسيهم في روسيا والصين؟

الخبر الذي مرّ مقتضباً عبر وكالات أنباء، قالت فيه الخارجية الروسية إن هدف الزيارة هو مناقشة الأزمة السورية، مع ولي العهد السعودي. لكن، هل كان هذا هو الوقت المناسب لبحث الأزمة السورية، فيما كانت أزمة اختفاء جمال خاشقجي، تتفاعل دولياً؟

بطبيعة الحال، الجواب لا. فروسيا التقطت سريعاً فرصة لاحت في الأفق، لحصول شقاق سعودي – أمريكي، بعد أن هدد الرئيس الأمريكي بعقوبات قاسية على خلفية اختفاء خاشقجي. وكان رد ولي العهد السعودي، الذي مرره إعلاميون مقرّبون منه، هو التلويح بالانتقال إلى ضفة دولية أخرى. وربما حتى أيضاً، ضفة إقليمية أخرى.

يعتقد مراقبون كُثر أن انتقال السعودية إلى ضفة دولية وإقليمية منافسة، أمر غير معقول. ولهم الحق بالفعل في هكذا تصور، إذ أن عوامل عديدة، ربما أبرزها، مكونات القدرة العسكرية الدفاعية السعودية، مرتبطة بصورة كبيرة بالولايات المتحدة الأمريكية. لنتصور مثلاً، أن ينفذ ولي العهد السعودي وعيده، وأن ينتقل إلى استيراد مجمل الأسلحة السعودية من روسيا والصين، حينها فإن عقبة نوعية ستقف في طريقه، تتمثل في أن معظم معدات الجيش السعودي، هي أمريكية، وبالتالي، سينقصها قطع غيار، مما يهدد قدرة السعودية على الدفاع عن نفسها في تلك الفترة الانتقالية من السلاح الأمريكي إلى الروسي أو الصيني. بل يذهب مراقبون إلى أبعد من ذلك، ويعتقدون أن لدى الأمريكيين القدرة على إحداث انقلاب داخل الأسرة الحاكمة، تطيح بـ "بن سلمان".

لكن، رغم وجاهة المعطيات التي يبني عليها من يقول بعجز السعودية عن الانتقال إلى ضفة دولية وإقليمية مختلفة، يبقى أن هذه القدرة على الانتقال، واردة، لو تمت بصورة هادئة وتدريجية، بعيداً عن الطرح الدراماتيكي الذي نقله إعلاميو "بن سلمان". وقد يكون هذا هو أبرز ما ميّز قضية اختفاء خاشقجي، مقارنة بحالات اختطاف واختفاء لشخصيات سعودية، في تجارب سابقة، إلى جانب كذلك، سمة الثقة المفرطة بالنفس إلى حد التهور، التي ميزت متخذ القرار السعودي الذي أصدر الأمر في إخفاء خاشقجي بهذه الطريقة.

فإذا وضعنا سمة التهور جانباً، يبقى جلياً أن الابتزاز الأمريكي العلني، والتركي الصامت، للسعوديين، ما كان ليحصل لو كان اختفاء خاشقجي حدث قبل عقدين من الزمان، مثلاً. لأنه حينها كانت نواظم العلاقات بين القوى الإقليمية والدولية، مختلفة، في ظل نظام دولي مختلف تماماً عما نعيشه اليوم. كانت تلك النواظم مستقرة، بحيث تعرف كل قوة حجمها، والطريقة الواجب التصرف من خلالها، بشكل واضح وجلّي. قبل الثمانينات، كنا في نظام دولي ثنائي القطبية. ولاحقاً، بتنا في نظام أحادي القطبية، تتعامل فيه الولايات المتحدة الأمريكية، بثقة مفرطة بالنفس، ناتجة عن هيمنتها المطلقة. أما اليوم، فنحن في حالة انتقالية، من النظام أحادي القطبية، إلى نظام دولي متعدد الأقطاب. وتقاوم الولايات المتحدة الأمريكية، بكل ما تملك، كي لا يتم هذا الانتقال. لكن المشاكل الاقتصادية النوعية التي تواجهها، تعيق قدرتها على المقاومة، وتتيح للقوى الصاعدة فرصاً متزايدة لمتابعة طريقها نحو تشكيل أقطاب دولية وإقليمية وازنة.

دونالد ترامب، الذي يصفه البعض بأنه شخصية لا تتمتع بالخبرة السياسية، بدا في أزمة اختفاء خاشقجي، مدركاً ما سبق توضيحه بشكل جلّي. بل وصرّح بالأمر بشكل مباشر، وأشار إلى أنه في حال وضع قيود على صفقات السلاح الأمريكية للسعوديين، فإنهم سيتجهون إلى الصين وروسيا.

لن تكون الانتقالة السعودية إلى الضفة الدولية والإقليمية المنافسة، دراماتيكياً. وإن تم بهذه الصورة، بدفعٍ من تهور متخذ القرار السعودي، فإنه سيكون بالفعل كارثة على السعودية، قد يهدد مصير متخذ القرار هذا، وقد يهدد حكم العائلة بأكمله. لكن، إن تم هذا الانتقال في سياق استراتيجية هادئة وتدريجية، فإنه أمر ممكن وبشدة، وقد يكون على المدى البعيد أفضل لمصالح السعودية، كدولة.

يدرك متخذ القرار الأمريكي ذلك. فها هي تركيا في طريقها لتحقيق هذا الانتقال. أو على الأقل، للوقوف في المنتصف بين الضفتين، وتحقيق المكاسب من احتياجات الطرفين للطرف التركي. ذلك متاح في ظل التعددية القطبية، التي تزداد عمقاً، سنةً تلو الأخرى. 

في تعليقات المراقبين، على ابتزاز ترامب العلني للسعوديين، في حملات انتخابية قبل أيام، قال الكثير منهم إنها سابقة أن يتم ابتزاز الحلفاء بهذه الطريقة العلنية. وأرجع الكثيرون ذلك إلى رعونة ترامب. ذلك قد يكون صحيح نسبياً، لكنه في الوقت نفسه، تعبير عن ضعف اقتصادي ألمّ بالقوة الأمريكية، وتستشعره النخبة في واشنطن، وهذا بالتحديد سرّ صعود ترامب إلى سدّة الرئاسة، فالرجل تعبير عن تيار يدرك أن القوة الأمريكية تسير في مسار تنازلي، وأنه يجب مقاومة ذلك المسار، بطرق غير تقليدية، تختلف عن الطرق التي اعتمدها سلفَي ترامب، بوش الابن، وأوباما.

قبل سنتين، كان هناك تصريح لافت لرئيس الاستخبارات السعودية السابق، الأمير تركي الفيصل، قال فيه إن "الأيام الخوالي" بين المملكة والولايات المتحدة انتهت إلى غير رجعة، وأنه يجب أن يتم "إعادة تقييم" للعلاقات بين البلدين. تزامن هذا التعليق مع زيارة للرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، إلى الرياض، خيّمت عليها خلافات بين الطرفين في ملف العلاقة مع إيران وكذلك في الملف السوري واليمني وملفات أخرى في المنطقة. بعد أشهر من هذا التصريح، أعلن أوباما قيوداً على صفقات السلاح الأمريكية للسعودية، على خلفية وقوع ضحايا مدنيين في اليمن. وبدأت السعودية، بعد ذلك، العمل على تنويع مصادر تسليحها، وتوجهت إلى روسيا. وهو ما أكدته تصريحات سابقة لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لوكالة بلومبرغ. لكن، بعد وصول ترامب إلى سدة الرئاسة، خصص الأخير أولى زياراته الخارجية للسعودية، في تدشين لعهد جديد، مميز، من العلاقات بين البلدين. كان ذلك بالضبط، تعبيراً عن خشية أمريكا من انتقالة سعودية هادئة إلى ضفة دولية وإقليمية أخرى. وتلك السابقة، تؤكد أن هذه الانتقالة ممكنة إن تمت في سياق سياسة استراتيجية هادئة وتدريجية.

اليوم، تعمل أمريكا، حسبما يبدو، على لفلفة قضية اختفاء خاشقجي، وحصر تداعياتها على العلاقات مع الرياض، في أدنى الحدود. لكن لا نعرف بعد إن كانت تداعيات العاصفة الإعلامية والدبلوماسية التي أثارتها هذه القضية، ستمر دون نتائج في الرياض نفسها. فهل تبقى السعودية على رهانها الأمريكي؟، أم تتحرك بهدوء، نحو قطب آخر، أو على الأقل، بعيداً بمسافة ملحوظة عن القطب الأمريكي؟.. تبقى تلك التساؤلات واردة بشدة. وتتضح العِبرة التي يمكن أن نستنتجها من أزمة اختفاء خاشقجي، أننا أصبحنا أقرب إلى حالة التعددية القطبية، وأبعد من حالة الأحادية القطبية، وأن مساعي واشنطن للجم هذا المسار، تتضاءل فاعليتها أكثر فأكثر.

ترك تعليق

التعليق