"الرحمون – حربة".. وحكومة الأسد التسعينية


تحدث الكثيرون عن السجل الإجرامي لوزير داخلية الأسد الجديد. لكن غاب عن معظمهم وجه الشبه بين حكومة خميس الثالثة، وبين حكومات محمود الزعبي، العتيدة. ويكمن وجه الشبه هذا في وزير الداخلية بصورة رئيسية. فهو سُني، لكنه مخلص للنظام بصورة جعلته أشد وطأة على أبناء جلدته، ربما من بعض القيادات العلوية. لذا كانت مكافأته أن يرتقي لأن يكون وزير داخلية.

في عام 1982، كان محمد حربة، ابن مدينة حماة، محافظاً لها. وقد عاصر واحدة من أسوأ المجازر في تاريخ سوريا المعاصر، ولعب دوراً بارزاً في المساعدة بإتمامها. كان مخلصاً إلى أقصى الحدود، لآل الأسد. وأظهر إخلاصه في أحلك الأوقات، حتى على أبناء جلدته.

في عام 1987، بدا أن حافظ الأسد تخلص من كل التهديدات التي كادت تطيح بحكمه خلال العقد السابق. سواء "التمرد الأخواني"، أو الحراك اليساري المعارض، أو الصراع مع شقيقه رفعت. استقر الأمر لـ حافظ، فشهد خريف 1987، ولادة أولى حكومات محمود الزعبي، التي اعتمد فيها الأسد الأب استراتيجية مكافأة الشخصيات التي أثبتت ولائها له، خلال سنوات "المحنة". كان من بين الشخصيات التي تمت مكافأتها، محمد حربة، الذي ترقى ليصبح وزيراً للداخلية، وبقي في منصبه حتى العام 2001. وخلال السنوات الـ 13 التالية، حتى وفاة حافظ الأسد، كان هاجسه، توريث كرسي الحكم لأحد أبنائه، وتدعيم حكم عائلته. فكان أداء حكومات الزعبي المتتالية، يخدم ذلك الهاجس، بصورة رئيسية. فهي ضمت شخصيات أثبتت ولائها للنظام، في أحلك الأوقات. وكنتيجة لذلك، أتيح لها هامش غير مسبوق من الفساد، والنفوذ، على حساب مقدرات البلاد.

اليوم، يتكرر شيء من هذا المشهد، في شخصية محمد خالد رحمون، "الإدلبي" المخلص للنظام، الذي وُصف بأنه كان "جلاد الغوطة" وأحد المؤثرين في جرائم الكيماوي التي رتبها النظام هناك. فكان "رحمون" العلامة الفارقة في التعديل الأخير على حكومة عماد خميس. وكما كان "حربة" "الحموي – السني" المخلص للنظام، وزير داخلية عتيد للأسد الأب، لأكثر من 13 عاماً، تم خلالها الترتيب لتوريث الحكم، يبدو "رحمون" نسخة أخرى يأمل بشار الأسد من خلالها إعادة ترميم نفوذه داخل النظام، ربما تمهيداً لسيناريو توريث آخر، خلال العقد القادم.

فإن كنت تريد أن تتوقع مشهد سوريا الاقتصادي، خلال العقد القادم، لو كُتب لنظام الأسد البقاء، تستطيع أن تسترجع ذكريات حكومات "محمود الزعبي" العتيدة. لا أكثر. حتى خاتمة تلك الحقبة، التي انتهت بانتحار الزعبي، وسجن وزير ونائب رئيس وزراء، تم إخراجها خدمةً لترتيبات توريث الحكم.

أما بالنسبة للاقتصاد، فقد يُضطر النظام لمرسوم استثمار جديد، ولتسهيلات للمستثمرين العرب والمحليين، بعد بضع سنوات، حينما يضيق عليه الخناق المالي، والتدهور الاقتصادي، كما حدث مع حافظ الأسد عام 1991. لكن، سيبقى تركيز النظام الرئيسي، كما في عقد التسعينات، هو الترتيب لتوريث الحكم، الذي شمل في مطلع التسعينات، تهريب أكثر من 13 مليار دولار إلى النمسا وإيداعها باسم باسل الأسد، الذي كان مرشحاً لخلافة والده، لولا حادث السيارة الذي قضى فيه.

نحن ببساطة مقبلين على استجرار جديد، لاستراتيجيات الأسد الأب. وسنشهد استنساخاً لتجارب نهاية الثمانينات وعقد التسعينات الاقتصادية، التي عززت حينها من تضاءل القدرة الشرائية للسوريين، ومن ضنك العيش في أوساطهم. وهذا الأمر، في حالتنا اليوم، سيكون أسوأ بمرات، لأن البلد في حالة دمار جزئي واسع النطاق. لم نخرج اليوم من دمار جزئي في حماة، كما حدث في الثمانينات، بل خرجنا من دمار جزئي يشمل كل سوريا. ببساطة اضربوا فاقة السوريين في التسعينات بأضعاف عدة، وتوقعوا ما سيحدث في سنواتنا القليلة القادمة، إن كُتب لهذا النظام الاستمرار.

هل هناك ما يؤكد تقديراتنا المتشائمة تلك؟.. يكفي فقط أن تراجع السيرة الذاتية للوزراء الجدد، لتكتشف أننا نعيش في حقبة الأب، دون تغيير يُذكر. فالفاسد يُرقّى، ويدوّر المنصب من شخص مدعوم إلى آخر، والوزير يحمل اختصاص لا يرتبط بوزارته بأية صلة، إذ قد نجد طبيب أسنان، وزيراً للتجارة الداخلية. بل قد يكون المشهد اليوم، أسوأ من عهد الأسد الأب، الذي كان يزيّن حكوماته بأسماء اقتصادية لامعة. اليوم في تعديل حكومة خميس الثالثة، لا يبدو أن هناك أي شخصية اقتصادية، تستحق الوقوف عندها. وهذا يحصل في بلد خرج من حرب مدمرة، ويئن تحت وطأة التدهور الاقتصادي.

لكن بطبيعة الحال، الهم الاقتصادي، لا يعني بشار الأسد اليوم. ما يعنيه فقط، ترسيخ دعائم حكمه، الذي دافع عنها بالدم والنار، وذهب من أجلها، إلى أبعد حدود الإجرام. وإلى أن يضيق خناق الانهيار المالي على عنق بشار الأسد، لن نتوقع جديداً في السياسات الاقتصادية. وحتى حينما يضيق  ذلك الخناق على عنق بشار، لن نتوقع أكثر من مرسوم استثمار شبيه بذلك الذي عابه كل الاقتصاديين المتخصصين، مطلع التسعينات.

إنها "سوريا الأسد"، حيث البقاء للمخلص، حتى لو كان فاسداً. ولا قيمة للكفاءة أو للنزاهة، أو للرغبة في النهوض بالبلاد، فتلك مفردات غير واردة في قاموس حكم العائلة.   

ترك تعليق

التعليق