الخلفية الاستخباراتية لاحتجاجات المؤيدين في سوريا.. فتش عن الدور الروسي


لا نستطيع لوم من يعتقد أن انتشار موجة الاحتجاج والمناشدة الموجهة لرأس النظام السوري، في أوساط نخب فنية وشخصيات عامة، هي عملية مدبرة من جهات استخباراتية محلية، لأهداف محددة. وإن كانت هناك آراء أخرى، تقول إن الاستياء في أوساط الشارع السوري، بلغ مراحل غير مسبوقة. لكن يبقى أن تصدر شخصيات مؤيدة للعظم، لمشهد الاحتجاج والمناشدة، خاصة من الفنانيين، أمر يدعم نظرية الخلفية الاستخباراتية. لكن يبقى السؤال، ما هي الأهداف؟

يجيب مراقبون على ذلك بنظريات عديدة، من أكثرها رواجاً، تلك التي تُسقط تجارب سابقة للنظام السوري، من قبيل أن النظام يفتعل الأزمات، لإشغال الناس بها، أو أن النظام يستهدف إظهار الأسد بمظهر "المنقذ"، بعد أن يقوم بحل بعض الأزمات المُفتعلة التي تم مناشدته من أجلها.

لكن يبدو أن هذه القراءات تتجاهل جملة فوارق جسيمة على الصعيد الاقتصادي، بين الوضع الحالي في سوريا، وبين أوضاع سابقة، انتهج فيها نظام الأسد سياسة الأزمات المُفتعلة. اليوم سوريا، ليست كأي حالة سابقة لها. بنيتها التحتية مدمرة في معظم مناطقها، وقطاعاتها الاقتصادية الإنتاجية تلاشى جزء كبير منها، بفعل التدمير أو التخريب أو الهجرة. كما أن قوتها العاملة، والخبيرة منها بالذات، أصبحت بنسب عالية جداً، خارج البلاد. سوريا ليست كسابقتها في أواخر العقد السابق، حينما مرت بضع سنوات من الجفاف، أدت إلى هجرة كبيرة من المنطقة الشرقية. كما أنها ليس كسابقتها في أواخر الثمانينات، حينما انكشفت عورات تسخير قدرات البلاد للحرب ضد معارضي الأسد الأب. سوريا أسوأ بأضعاف المرات، مقارنة بالحقب السابقة المذكورة.

ويبدو أن القلّة من المراقبين، الذين قالوا إن مناشدات الموالين للأسد، تتضمن تحميلاً ضمنياً للمسؤولية له، قدموا قراءة أكثر موضوعية، تقلل من واقعية القراءات الأخرى التي ربطت حملة المناشدات بجهات محسوبة على الأسد نفسه. فما يحدث الآن داخل سوريا، لا يخدم الأسد أبداً. إلا إن كان الأسد يريد بالفعل، إظهار نفسه، بمظهر الضعيف والعاجز.

لكن في الوقت نفسه، لا يمكن لنا أن نتخيل حملة بهذا الانتشار بين نخب فنية وإعلامية، إلا أن تكون بدفعٍ من جهات استخباراتية. لكن أية جهة استخباراتية داخل سوريا، هي التي تتحمل هذه المسؤولية؟، أية جهة بالتحديد تريد إظهار فداحة الوضع المزري في البلاد؟، ولماذا؟

للإجابة على ما سبق، لا بد أن نعود إلى الأيام الأخيرة من العام المنصرم، 2018، حيث ساد اعتقاد، كاد يقارب اليقين، أننا قاب قوسين أو أدنى من إعادة تأهيل عربي رسمي لنظام الأسد. تعزز هذا الاعتقاد في الأيام الأولى من العام الجاري، مع التطبيع الرسمي للإمارات والبحرين، مع الأسد. لكن لاحقاً، حصلت فرملة للاندفاعة العربية، وتحديداً، السعودية – الإماراتية، نحو دمشق. والمفاجأة أن هذه الفرملة جاءت من مصر، ذلك البلد الذي احتفظ نظامه السياسي بعلاقات أمنية وطيدة مع نظام الأسد في أحلك ظروف المقاطعة العربية له.. وهو البلد الذي استقبل علي مملوك، صندوق أسرار الأسد، المخابراتي، قبل أيام من نهاية العام 2018.

وفجأة، وقبل أيام، وبشكل متتالٍ، يظهر وزير الخارجية المصري، وأمين عام جامعة الدول العربية (مصري الجنسية والتوجيه)، ليفرملا عودة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية. تزامنت الفرملة المصرية مع اعتراض أوروبي علني على عودة الأسد إلى جامعة الدول العربية. كما تزامنت مع موقف قطري علني رافضٍ لهذه العودة. ويبدو أن السعودية تجاوبت مع هذه الفرملة، دون الإمارات، كما يبدو حتى الآن.

فما الذي حدث وغيّر دفة الأمور، وقلّب مصر ضد الأسد، أو ضد الاندفاع السريع نحو التطبيع معه، إن صح التعبير؟

نعتقد أن الجواب جاء من إسرائيل، التي خاض رئيس وزرائها مشادة علنية مع إيران، قبل أيام، حينما طالبها بالخروج من سوريا، محذراً من عواقب البقاء، فرد قائد الحرس الثوري الإيراني، بالرفض، علناً، والتأكيد على أن إيران باقية عسكرياً في سوريا.

ببساطة، يبدو أن المساومة مع إيران على أن تخرج مقابل إعمار سوريا، قد فشلت. أفشلتها إيران بإيجاز. وهي مساومة، ألمحت إليها وسائل الإعلام الروسية، حينما أشارت خلال الشهر الأخير من العام الفائت إلى وجود مساعٍ خليجية (يبدو أنها سعودية وإماراتية بصورة أساسية) – إسرائيلية، لعرض إعمار سوريا، وإعادة تأهيل الأسد، شريطة انسحاب إيران. لكن من سيخرج إيران؟، الرهان الخليجي – الإسرائيلي كان على الأسد وعلى الروس، إذ للطرفين مصالح كبيرة في إخراج إيران. الأسد سيحصل لقاء ذلك على إعمار سوريا بأموال خليجية، يستفيد منها عبر رجال أعمال يعملون كواجهات لمصالحه، إلى جانب إعادة التطبيع العربي معه. وروسيا ستكون الوصية على "سوريا الأسد"، وتستفيد شركاتها من عقود إعادة الإعمار. ولقاء ذلك، يجب إخراج إيران. لكن يبدو جلياً أن زيارة علي مملوك إلى القاهرة حملت جواباً لهذه المساعي مفادها، "أننا عاجزون عن إخراج إيران". وكانت روسيا قد قالت ذلك جهراً، منذ عدة أشهر. إنها عاجزة عن إخراج إيران. وكل محاولاتها المتمثلة بإعادة ترتيب المؤسسة العسكرية والأمنية، بصورة تسمح بالحد من النفوذ الإيراني، لم تُفلح في تحقيق الهدف المطلوب إسرائيلياً وخليجياً. لذا يبدو أن عرض إعادة الإعمار قد سُحب، أو هو في طريقه لذلك. وإن سُحب هذا العرض، فإنها ستكون خسارة فادحة للأسد وكذلك للروس. أما الإيرانيون فلن يخسروا شيئاً، فهم ينظرون لسوريا كساحة لابتزاز الأمريكيين والإسرائيليين، وممراً للوصول إلى المتوسط، وليس أكثر. وهو ما يتحقق مع بقائهم، حتى لو بقيت سوريا في ظروف اقتصادية عصيبة.

وفي ظل هذا الوضع، فجأة تتحرك مناشدات تتحول إلى احتجاجات جريئة، من شخصيات مؤيدة، بعضها يتمتع بثقل جماهيري، ولا بد أن يكون مضبوطاً مخابراتياً، الأمر الذي يؤكد أن جهات استخباراتية هي التي أوعزت لهذه الشخصيات بالتحرك. ومن المعلوم أن هناك مراكز نفوذ روسية وأخرى إيرانية وربما ثالثة "أسدية" داخل الأجهزة الأمنية، الأمر الذي يوحي بدور روسي، عبر قوى أمنية مقربة منهم، في الدفع نحو حراك احتجاجي، يبدأ عبر وسائل التواصل، لكنه قد يتحول إلى أكثر من ذلك، للضغط على الأسد، وعلى حلفائه الإيرانيين.

ولن يُفاجئ كاتب هذه السطور إن تحول الأمر إلى حراك في الشارع المؤيد للنظام، بصورة صادمة لكل المراقبين. لأن هذا الحراك سيكون مضبوطاً وموجهاً وغايته إيصال رسائل ضغط إلى الأسد والإيرانيين، مفادها، أن الأمور تكاد تنفجر، لذا عليكم الرضوخ.

ولا نعرف إن كان الأسد، شخصياً، أميل للروس أم للإيرانيين، فالملحوظ أنه يحاول جاهداً التلاعب على حبال الطرفين، لكن الحبل الروسي سيضيق عليه في وقت قريب. فروسيا تريد انفراجات سياسية واقتصادية للوضع السوري، تسمح بتحويل استثمارها العسكري إلى استثمار سياسي – اقتصادي ناجع، ومستقر. فهي لن تبقى قوة أمنية وعسكرية، تجاهد يومياً لإبقاء النظام واقفاً على قدميه، إلى ما لا نهاية. أما الأسد فخياراته عصيبة، فهو لا مصلحة له بالتخلي عن حليفه الإيراني، لأنه يسمح له بتحقيق الموازنة مع الروس، وفي نفس الوقت، ليس من صالحه أن يُحتسب على الإيرانيين، فيتعرض لغضبة الروس وكذلك الغرب والخليجيين والإسرائيليين.

وهكذا، لا يبدو أن الأزمات المعيشية التي سبق أن تكررت في سنوات الحرب السبع، ستكون في هذه السنة الثامنة، روتينية. بل قد تكون نوعية، وقد تؤدي إلى تحقق نظرية "الأسد الضعيف في السلم، القوي في الحرب"، التي تنبأ بها مراقبون خليجيون مؤيدون لفكرة إعادة النظام إلى "الحظيرة" العربية.

لكن، مهما ضعف الأسد، فهل ستخرج إيران كُرمى له؟.. الإيرانيون لن يخرجوا من سوريا، دون مقابل. ولا يبدو أن الأمريكيين والإسرائيليين، والسعوديين، مستعدون لدفع المقابل. لذا، لا يبدو أن هناك إعادة إعمار بأموال خليجية لسوريا، قريباً، بل العكس، يبدو أنه سيكون هناك تصعيد، لكن هذه المرة، في حلبة الاقتصاد. وباستخدام قوت السوريين في مناطق سيطرة النظام، تحديداً.


ترك تعليق

التعليق