في ضوء خطاب بشار.. الليرة إلى أين؟


قد يتساءل المهتمون بتعاملات سوق العملة في سوريا، عن وجه الصلة بين الخطاب الأخير، لرأس النظام بدمشق، وبين تقلبات سعر الصرف. ذلك أنه لم يكن هناك أي أثر لحظي لذلك الخطاب على سعر الليرة. كما أن بشار لم يتطرق، إلا بجملة عابرة، لهذا الموضوع، حينما ربطه بحروب الجيل الرابع والصفحات "الفيسبوكية" التي تحمل اسم قرية أو مدينة سورية، لكنها تمثّل متآمرين خارجيين، حسب وصفه.

إلا أن من تابع الخطاب كاملاً، بكل محاوره، سيصله ذلك الإيحاء، الذي مفاده، أن رأس النظام يحضّر مؤيديه، والقاطنين في مناطق سيطرته، نفسياً، لظروف معيشية ربما تكون أسوأ من تلك التي عاشوها، حتى في أحلك مراحل الحرب.

يمثّل مضمون خطاب بشار الأسد، في محاوره المتعلقة بالأزمات المعيشية، إشارة جليّة تؤكد استمرار، وربما، تفاقم جملة عوامل ستكون ضاغطة على الاقتصاد السوري، وعلى ليرته، وعلى معيشة السوريين في مناطق سيطرة النظام. كما ويُعبّر مضمون الخطاب، عن خيبة أمل النظام بعد فشل مساعيه لتحقيق انفتاح اقتصادي "عربي" عليه، وذلك إثر فيتو أمريكي، صارم.

ورغم الشائعات الخاصة باستمرار المساعي الإماراتية، للانفتاح على نظام الأسد، اقتصادياً، لأهداف سياسية، تتعلق بالحد من النفوذ الإيراني والتركي، في سوريا، إلا أن مواقف لاعبين فاعلين في المنطقة، في مقدمتهم، قطر والسعودية ومصر، تشكل تثبيطاً للمساعي الإماراتية، بصورة تنسجم مع الفيتو الأمريكي، الذي من المرتقب أن يتحول من فيتو "دبلوماسي – سياسي"، إلى فيتو "قانوني – اقتصادي"، حالما يوقّع الرئيس الأمريكي قانون "سيزر" الذي سينص على فرض عقوبات على المتعاونين، اقتصادياً، مع نظام الأسد.

هذا القانون، هو ما أشار إليه بشار الأسد في خطابه، بوصفه تطويراً لأساليب الحصار القائم منذ سنوات على نظامه. ورغم أن محللين معارضين، كُثر، رفضوا الربط بين التدهور المعيشي في سوريا، وبين القانون الأمريكي المرتقب، إلا أن من يقرأ مضمون القانون بدقة، سيصل إلى خلاصة مفادها أن "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة الأمريكية، تعتزم تكرار تجارب حصار قاسية، سبق أن طبقتها مع العراق وإيران وكوريا الشمالية. وستكررها هذه المرة في الحالة السورية.

إذاً، لا انفتاح عربي على الأسد. وفي أحسن الأحوال، قد ينحصر هذا الانفتاح بالإمارات، وعلى نطاق ضيق، لن يخدم النظام السوري، بشكل كافٍ. يُضاف إلى ذلك، أن العقوبات بموجب قانون "سيزر"، ستقلّص أكثر، من هامش الدول والشركات التي ترغب بالتعامل مع النظام. كما يحصل اليوم في الحالة الإيرانية تماماً.

ما سبق سيُضاف إلى عاملين سابقين، لعبا دوراً كبيراً في الاتجاه التراجعي لليرة، منذ نهاية الصيف الماضي. العامل الأول كان اتساع رقعة المناطق التي عادت لسيطرة النظام، وما أعقبها من أعباء على ميزانية حكومة النظام، لم تكن في حسبانها، ربما حتى مطلع العام 2018. أما العامل الثاني، فكان انحسار الدعم التمويلي لقوى المعارضة، التي فقدت معظم مناطق سيطرتها لصالح نظام الأسد. ذلك الدعم التمويلي الذي كان يُضخ بالدولار، ليتحول إلى ليرة، في الأسواق السورية، في مناطق سيطرة المعارضة سابقاً، والذي كان ينتقل بعضه إلى مناطق سيطرة النظام، مثّل شريان حياة لليرة، عبر رفع الطلب عليها، وزيادة العرض من الدولار. هذا العامل خَفَت كثيراً خلال العام 2018، وهو ما ظهرت نتائجه في الأشهر الأربعة الأخيرة من ذلك العام.

وهكذا تكون الحصيلة، أربعة عوامل: عزلة اقتصادية، حصار وعقوبات قاسية تطال حتى الحلفاء والمتعاونين، وازدياد الأعباء على الميزانية العامة، وأخيراً، خسارة شريان الدولار الذي كان يُضخ من الخارج، أو تراجعه إلى حدود متدنية للغاية.

كيف يتعامل النظام مع هذه الحقائق، التي يبدو أنها ستبقى وتتفاقم، في الفترة القادمة، حسبما أوحى خطاب بشار؟ تتم المعالجة بوسيلتين رئيستين، الأولى تتمثل بالمعالجة الأمنية. فالنظام استخدم أجهزة الأمن، مؤخراً، لشن حرب على شركات ومكاتب الصرافة، لضبط نشاطها، بما يتوافق مع توجيهات سلطاته. كما واستخدم الجمارك، ووسّع من صلاحياتها، ونطاق عملها، لجباية أكبر قدر ممكن من الضرائب والرسوم والمبالغ المالية المتحصلة من المُصادرات.

الوسيلة الثانية، يبدو أنها تتمثل في طباعة المزيد من العملة السورية، دون تغطية. وهو ما توحي به تصريحات مسؤولين وخبراء موالين، تحدثوا عن سيولة كبيرة في البنوك السورية، تصل إلى 3.2 ترليون ليرة سورية. هذا الرقم، إن كان صحيحاً، فهو يتطلب أكثر من 6 مليارات دولار، لتغطيته. فهل يتوفر في خزينة مصرف سورية المركزي، هذا الرقم من الاحتياطي النقدي الأجنبي؟!

 "البنك الدولي" في تقديرات تعود إلى العام 2016، أشار إلى أن الاحتياطي الأجنبي لدى المركزي السوري، لا يتجاوز الـ 700 مليون دولار أمريكي، فقط. فيما أشار متخصصون ومراقبون إلى أن هذا الاحتياطي ربما ارتفع إلى مليار دولار، في أحسن الأحوال، وذلك في بداية العام 2018.

قبل أسابيع، نقلت صحيفة موالية عن خبير اقتصادي، قوله، إن الإيرادات الحكومية متدنية، ولا تؤمن أكثر من 30 إلى 40% من الإنفاق العام والباقي يتم اقتراضه من البنك المركزي.

بكلمات أخرى، لا يوجد اقتصاد فعلياً. ما هو قائم، أن الإنفاق يفوق الإيرادات بأكثر من 60%، وهي نسبة كارثية. ويبقى السؤال، كيف يغطي المركزي هذا الفارق الهائل؟ تدفعنا المعطيات المتوافرة إلى ترجيح وجود عمليات طباعة للعملة دون تغطية.

لا يوجد لدى النظام سوى هاتين الوسيلتين، الأمنية، والنقدية. وهما وسيلتان، الأولى منهما تأثيراتها مؤقتة ومحدودة المدى، والثانية، تأثيراتها سلبية على سعر صرف الليرة. أما الوسائل الأخرى، كجذب رؤوس أموال سورية للعودة إلى الاستثمار محلياً، أو للإيداع في البنوك السورية بدلاً من البقاء في البنوك اللبنانية، أو العربية، هي وسائل جرّبها النظام، وفشل في تحقيق نتائج ذات جدوى في أي منها.

كل ما سبق يدفع للاعتقاد بأن استقرار الليرة الحالي بين 510 و530 مقابل الدولار، هو استقرار مؤقت، ويتحقق تحت ضغط القبضة الأمنية، التي سرعان ما سيتلاشى تأثيرها.

وكخلاصة، فإن القيمة الشرائية لليرة إلى تراجع. وإن كان من الصعب الجزم بسرعة هذا التراجع، وهل سيكون دراماتيكياً أم بطيئاً وتدريجياً.. إلا أن المسار المرتقب لليرة، سيبقى تراجعياً، في المدى المتوسط، ما دامت الظروف السياسية المحيطة بالمسألة السورية هي ذاتها. وما دام النظام يصرّ على عدم تقديم أي تنازلات سياسية، تتيح فرصة الوصول لتسوية برعاية إقليمية ودولية، فإن مستقبل سوريا المرتقب لن يكون أفضل من نماذج، كوريا الشمالية وإيران والعراق، في أيام الحصار المشدد على هذه الدول.

ترك تعليق

التعليق