"الطائفة الإيرانية" في سوريا


منذ أيام، ارتمى بشار الأسد بحميمية في صدر المرشد الإيراني، علي خامنئي، فهو بإرادته أو بخلافها، فرد ضمن "طائفة إيرانية" في سوريا، لا تشترط بالضرورة، الأساس المذهبي، لنيل عضويتها، إذ يمكن لمعادلات "الولاء مقابل الفساد والنفوذ"، أن تكون الرابط بين أعضائها.

يستخدم نجل وزير الدفاع الأسبق، والشخصية السورية المعارضة، فراس طلاس، تعبير "الطائفة الأسدية" للتدليل على مؤيدي النظام. فهو واحد من شخصيات سورية كثيرة، تُبدي قناعتها بأن قوة النظام في سوريا ليست معتمدة على "الطائفة العلوية"، بالمعنى المذهبي، بقدر ما هي مستندة إلى دعم فئة من السوريين، تضم مختلف ألوان الطيف العرقي والمذهبي السوري، وتشترك في خاصية واحدة، وهي أنها منسجمة مصلحياً مع معادلة "الولاء مقابل الفساد أو النفوذ"، التي أرساها حافظ الأسد عبر عقود حكمه، وورثها، نجله، من بعده. واليوم، يبدو أن إيران تتعلم من دروس الأسد الأب، لتحقيق فعالية أكبر لتمددها، بوجهه "الناعم"، في سوريا.

إذ لطالما حذّر معارضون سوريون من مساعي إيران في إجراء تغيير ديمغرافي في سوريا، على أساس مذهبي، بصورة تضمن لها قاعدة اجتماعية مستديمة لنفوذها في هذا البلد. وقد عملت إيران على ذلك بالفعل. لكن النتائج كانت ذات أثر محدود، إذا ما قُورنت مع اتساع الديمغرافيا والجغرافيا السورية.

ورغم أن ملالي إيران يفضلون، دون شك، بناء قاعدة مذهبية لنفوذهم في سوريا، إلا أنهم يدركون أن مساعيهم تلك، كلما اتسعت، وأصبحت أكثر انكشافاً، كلما وُجهت بصلابة أكبر مجتمعياً، في الداخل السوري، ونخبوياً، من جانب المعارضين القادرين على قرع طبول الإنذار من تغيير "دين" الأغلبية السورية، بكل ما يؤدي إليه هذا الإنذار من حساسية في الداخل السوري. وقد تكون حادثة تكسير زجاج سيارات تحمل لوحات لبنانية، قرب مرقد السيدة زينب، بدمشق، والتي تم تداول فيديو لها، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خير دليل، على رد فعل سلبي ضد التمدد الإيراني، بوجهه المذهبي، حتى في أكثر مناطق النفوذ الإيراني قوة، داخل سوريا.

لذا يبدو أن إيران أجرت تغييراً طفيفاً في استراتيجياتها بسوريا. فهي تحاول التأسيس لقاعدة نفوذ اجتماعية على أسس مصلحية، في اقتباس واضح لتجربة نظام الأسد، التي أثبتت أن ذلك الصنف من الولاءات العابرة للحواجز الطائفية والعرقية بسوريا، والقائمة على ثقافة "الولاء مقابل الفساد والنفوذ"، كانت مصدر دعم كبير للنظام خلال أزمته المعقّدة في السنوات الثماني السابقة. فالنظام لم يحصل على الدعم، فقط، من العلويين. بل حصد دعماً كبيراً أيضاً من كل المستفيدين من حكمه، من أولئك المنسجمين مع ثقافة الفساد التي رسّخها خلال عقود، بصورة ساعدت على صموده في مواجهة واحدة من أعتى الحركات الثورية في تاريخ منطقتنا. بل إن هذه الثقافة، لعبت دوراً كبيراً ليس فقط في دعم نظام الأسد، بل في تخريب الحراك الثوري، حينما انحرف إلى المسار المسلح، إذ ظهرت آثار ثقافة "الولاء مقابل الفساد أو النفوذ" في كثير من الكيانات والتجارب الثورية، بصورة جعلتها، نسخة مشوهة من نظام الأسد ذاته.

لذا تعمل إيران اليوم، على المنوال نفسه، فهي تنشر الأنصار لها، وتُشبّك علاقات مصلحية مع أفراد، ومؤسسات، وشرائح مجتمعية ومناطقية، وفق قواعد "الولاء مقابل الفساد أو المال أو النفوذ أو الحماية.."، حسب ظرف كل فرد أو منطقة أو فئة.

قبل أسابيع، نشر "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى"، ورقة تحليلية، يسلط فيها الضوء على "التمدد الناعم" لإيران في سوريا، ويعلّق على تصريح أدلى به وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، في خطاب ألقاه بالقاهرة في 10 كانون الثاني/يناير، أكّد فيه أن الولايات المتحدة ستستخدم الدبلوماسية وتتعاون مع شركائها "إلى حين طرد آخر جزمة إيرانية" من سوريا. وتساءلت الورقة التحليلية، ماذا بعد طرد "الجِزم" الإيرانية؟ فالتركيز الأمريكي على الجوانب العسكرية لتغلغل إيران في سوريا، يغفل جوانب أكثر استدامة وخطورة، وهي التي تتعلق بـ "التمدد الناعم"، كشراء العقارات، والعمل على تغيير التركيبة السكانية في بعض المناطق. والأحدث ضمن هذه الإجراءات، تطبيق برامج اجتماعية واقتصادية تهدف إلى استمالة المجتمعات المحرومة، المُفقرة، جراء حرب الأسد عليها، والتي لا تتفق مذهبياً مع إيران، لكنها تفتقر إلى البدائل.

والنقطة الأخيرة بالذات، ظهرت جلياً في الأشهر الستة الفائتة، حيث نشطت أذرع إيران في العمل على استمالة شخصيات ووجهاء مناطق في درعا، التي كانت، وربما ما تزال، معقل واحدة من أكثر الحواضن الاجتماعية، مناوئةً للأسد ولحليفه الإيراني. لكن، للفقر، كلمته أيضاً.

وكعادة الأمريكيين، أجادوا في تلك الورقة التحليلية، بتسليط الضوء على المشكلة، لكنهم كرروا أفكاراً سابقة، مُستهلكة، بخصوص كيفية معالجتها. أفكار ترتكز على معادلة "تحقيق النفوذ في سوريا بأقل التكاليف الممكنة". وهي معادلة، كلما حاول الأمريكيون موازنة جانبيها، اختلت، فإما خسروا شيئاً من نفوذهم، أو اضطروا لدفع تكاليف أعلى مما توقعوا.

وهكذا يبقى التخبط الأمريكي، والخشية من الكُلفة، هامشاً مريحاً جداً للإيرانيين، كي يواصلوا مساعيهم الهادئة، والحثيثة، لترسيخ نفوذهم في سوريا. وإن كانت إسرائيل تتولى الجانب العسكري من هذا النفوذ، لا يبدو أن أحداً قادر على تولي الجانب "الناعم" منه، بما فيهم روسيا ذاتها، التي تقارع إيران، بكل السبل الممكنة، حتى الآن.

وبالعودة إلى ارتماء الأسد في الحضن الإيراني، فهذا مؤشر جديد، على أن "الطائفة الإيرانية" في سوريا، ما تزال متماسكة، وصلبة. ورأس النظام السوري، ذاته، أحد أفرادها، سواء بإرادته أو بخلافها.



ترك تعليق

التعليق