السوريون.. بين "سفاح نيوزيلندا" و"الهاشتاغ السعودي"


خلال أسبوع فقط، واجه السوريون ثلاثة مستويات من انتشار ظاهرة "الشعبوية"، تم تطويق أحدها سريعاً، فيما يبدو أن المستويين الآخرين، في طريقهما للمزيد من التفاقم والانتشار، مهددين مصائر مئات آلاف السوريين وأرزاقهم، بالخطر.

تمثّل المستوى الأول، والأشد تطرفاً، في مذبحة المسجدين بنيوزيلندا، على يد "السفّاح" الاسترالي، برينتون هاريسون تارانت. والتي سرعان ما وجدت صداها في حوادث كراهية عديدة، سُجّل منها اثنين في ألمانيا، قُتل في أحدهما شاب سوري، طعناً، فيما انحصرت أضرار الحادثة الأخرى بالاعتداء على سيدة محجبة حامل.

يندر من يصف مذبحة نيوزيلندا بأنها إحدى مستويات "الشعبوية". فالدارج وصفها بأنها جريمة كراهية عنصرية، وتطرف، وإرهاب.. وتوصيفات أخرى، تناسب فداحة الجريمة وهولها. لكن مراقبين كُثر لم يفتهم التأثير الواضح لـ دونالد ترامب، أبرز رموز "الشعبوية"، حول العالم، في طريقة تفكير "سفّاح" نيوزيلندا.

وكي نوضح أكثر، فإنه يمكن اختصار "الشعبوية" بمرادفات من قبيل، "كراهية الأجانب"، "التعصب القومي"، "الشوفينية الوطنية"، "الحمائية التجارية"، "تبسيط الأمور". وكثيراً ما تكون "الشعبوية" مقدمة للذهاب أبعد نحو "تطرف ديني" أو "عرقي"، كما وجدنا في دوافع جريمة نيوزيلندا.

 وحظي منظرو "الشعبوية"، في السنوات الأخيرة، بهامش كبير من الحرية للتعبير عن أفكارهم، عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، بصورة أتاحت إيصال أحد رموزهم، دونالد ترامب، إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الحرية ذاتها، تتيح قدرة عالية لرموز "الشعبوية" على تعبئة جماهير لا تتمتع بدرجة كافية من الثقافة والمحاكمة العقلية والنقدية، بحيث يمكن تجييشها باستخدام طروحات تضرب على وتر اللاوعي الجمعي لهذه الجماهير، باستخدام مفردات ثقافية دينية أو عرقية أو اجتماعية أو قومية، مكبوتة.

وهو ما ظهر جلياً، وبصورة سريعة، في مثال المدوّن الموالي للنظام، بشار برهوم، الذي دعا "سفّاح نيوزيلندا" للذهاب إلى مكة، لأن "الرزق هنيك أحسن"، حسب وصفه. ورغم ما أبداه معظم السوريين، مؤيدين ومعارضين، من استهجان لما قاله "بشار برهوم"، وصولاً إلى أنباء عن اعتقاله من جانب قوى أمن النظام، إلا أننا نعلم، جميعاً، أن ما قاله بشار برهوم، للأسف، تعبير فظ، عن وتر "طائفي" موجود في اللاوعي الجمعي لبعض ألوان الطيف السوري. وهو ما ظهر جلياً، بشكل أو بآخر، وإن بفظاظة أقل، خلال السنوات الثماني السابقة.

لكن، نستطيع أن نقول أن انفلات هذا الوتر "الطائفي –اللاواعي"، ما يزال مستبعداً، إذ يبدو أن أشد أنصار النظام تطرفاً، يدركون المخاطر الكارثية التي يمكن أن تطال السوريين عموماً، إن انفلت هذا الوتر، بصورة غير مسبوقة. وإن كان هذا المستوى الثاني من "الشعبوية"، أمكن تطويقه، فإن المستوى الأول، الأكثر خطورة، الذي مثّله "سفاح نيوزيلندا"، ما يزال في طور انفلات جزئي، ويتطلب الكثير من العمل لتطويقه.

وبطبيعة الحال، فإن جريمة نيوزيلندا، أضرّت بكل المسلمين، ممن يعيشون في مجتمعات الغرب. لكن السوريين قد يكونون شريحة من المتضررين، ستدفع ضريبة مضاعفة، لأنهم كانوا عنوان حركة اللجوء الضخمة التي حصلت في العام 2015، وقد رافقها "انفلات" تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي كان يتخذ من سوريا والعراق مقراً له، والذي كان سبباً رئيسياً في تفاقم ظاهرة "الشعبوية" في الغرب.

لذلك، فإن التأثير بعيد المدى لجريمة نيوزيلندا، وأصدائها التي تكررت سريعاً في حوادث كراهية موجهة ضد المسلمين عموماً، والسوريين، خصوصاً، في بلدان كألمانيا، تهدد الوجود السوريّ في هكذا بلدان، في وقتٍ ما يزال فيه خيار العودة إلى سوريا، خياراً بائساً، حتى الآن.

وما يزيد مصاب السوريين سوءاً، أن مستوىً ثالثاً من "الشعبوية" يتفاقم هذه الأيام أيضاً. إذ كان خبر عن عصابة مكونة من 10 سوريين، انتحلوا صفة رجال أمن وارتكبوا عدة جرائم سرقة في السعودية، كفيلاً بإطلاق هاشتاغ حصد أكثر من 100 ألف تغريدة، ليحتل قائمة الموضوعات الأكثر رواجاً في تويتر، بين السعوديين، يوم الأحد الفائت.

الخبر السابق يرجع تاريخه إلى أكثر من سنتين، من اليوم، ورغم ذلك، كان الركيزة الرئيسية لحملة "شعبوية" أطلقت هاشتاغ"#ترحيل_السوريين_مطلب"، وتفاعل معه عشرات آلاف السعوديين خلال ساعات.

الشرارة الأولى للحملة، جاءت مع تداول أنباء غير موثوقة المصدر، عن ارتكاب عدد من السوريين لمخالفات داخل حدود المملكة السعودية، دفعت إلى تعالي أصوات مطالبة بترحيلهم.

وكي نكون منصفين، كان هناك خبر جديد عن تورط جنائي لسوريين، ضمن عصابة مكونة من وافدين عرب، حسبما أعلنت سلطات الأمن السعودية، قبل شهرٍ تقريباً. والعصابة تكونت من 6 وافدين (3 سوريين، وفلسطيني، وأردني، ومصري)، ارتكبوا جرائم سلب وسطو تحت تهديد السلاح. ورغم أن العصابة تضم جنسيات أخرى، إلا أن هجوم مغرّدين سعوديين تركز على الوجود السوري في السعودية. والذي تمت شيطنته في بعض التغريدات، فيما دعت تغريدات أخرى إلى إعادتهم لسوريا تحت عنوان "عودة الأمن والأمان" إليها. وقال مغردون آخرون، إن على السوريين الموجودين في السعودية العودة إلى بلادهم، للمساعدة في إعادة بنائها. وتبنى هذا الفريق من المُغرّدين السعوديين رواية النظام بأن الظروف في سوريا عادت إلى ما كانت عليه في العام 2011، أو في طريقها لذلك.

وظهرت "الشعبوية" جليّةً أكثر حينما دعم المُغردون المطالبون بترحيل السوريين، نشاطهم التحريضي، بفيديو قِيل إنه لامرأة سورية تشتم بائعة سعودية، وتتطاول عليها. وبطبيعة الحال، لا يتيح الفيديو المنتشر ظروفاً للتحقق من مصداقيته، أو من الظروف التي رافقت الحادثة المُصوّرة.

ما سبق، يُعدّ نموذجاً جلياً للـ "الشعبوية" التي تقوم على "تبسبط الأمور" إلى حد السذاجة أحياناً. وهو ما ظهر أيضاً، في تركيا، في الأسابيع القليلة المنصرمة، عبر تحريض المعارضة التركية على السوريين، بوصفهم ركيزة محتملة لفوز حزب العدالة والتنمية الحاكم، في الانتخابات المحلية المرتقبة هذا الشهر. وذلك رغم أن القوة الانتخابية للسوريين المجنسين، لا تتجاوز الواحد بالألف.

وخلال السنوات الست الماضية، تعرّض السوريون لمستويات مضرّة وعالية من "الشعبوية"، التي غذتها في أحيان كثيرة، أنظمة حاكمة، في دول عربية، كما حدث في مصر عام 2013، في موجة عداء ضد السوريين، انحسرت سريعاً، لحسن الحظ. لكن موجات مماثلة في لبنان، تفاقمت، وما تزال باتجاه المزيد من التفاقم، على حساب اللاجئين السوريين في ذلك البلد. كذلك في تركيا، تنتعش موجات العداء للسوريين في كل موسم انتخابي، ويتعرض الكثير منهم لاعتداءات، وإن كانت حالات كهذه سرعان ما يتم تطويقها. لكن وصول موجات العداء هذه إلى السعودية، وبهذا المستوى الكبير من التفاعل الشعبي السعودي، يتطلب وقفة للتساؤل عن الأسباب. فالدعوة لطرد السوريين من السعودية، والذي اعتمد مبررات تضليلية، ومبالغ بها، يستند لخلفيات اقتصادية واجتماعية وثقافية، لاواعية، وغير مبررة، في دليل دامغ على تفاقم آفة "الشعبوية" حول العالم، وتغلغلها في أوساط المجتمعات العربية أيضاً، بخلاف ما كان يُظن بأن تلك الآفة تنتشر في الغرب.

لا يعني ما سبق، بطبيعة الحال، أن انتشار "الشعبوية" يتم باتجاه واحد، دون أي مقاومة واعية لمخاطرها. فالحملة التي شنّها مغرّدون سعوديون ضد السوريين، قابلتها حملة مضادة، دشنها مغرّدون سعوديون أيضاً، وحصدت عشرات آلاف المتفاعلين، دافعت عن السوريين، وامتدحتهم، واعتبرتهم إخواناً للسعوديين. لكن، للأسف، وبلغة الأرقام، كانت الغلبة في "تويتر" لـ هاشتاغ "#ترحيل_السوريين_مطلب".

وما بين مستوىً متطرفٍ من "الشعبوية العنصرية" المتمثلة بنموذج "سفاح نيوزيلندا"، وبين مستوى أدنى من "الشعبوية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" المتمثلة بـ "الهاشتاغ السعودي" المشار إليه أعلاه، يبدو أن السوريين من أكثر شعوب العالم تضرراً جراء تفاقم ظاهرة "الشعبوية". والأخطر، أن "الشعبوية" بمستوييها المشار إليهما آنفاً، تتلاقى مع بروباغندا النظام، وتعزز انكشاف السوريين أمامه، ولصالحه. فتصبح مصائر وأرزاق الكثير منهم، في أوروبا، ودول عربية ومجاورة، في حالة عدم يقين مُجهدة، تكون على حساب قدرة السوريّ على الاستقرار ومن ثم الإنتاج والإبداع. ويبقى السؤال: هل يمكن أن تنفلت ظاهرة "بشار برهوم" الشعبوية، لنرى مستوىً آخر، غير مسبوق، من الصراع الطائفي العلني في بلدنا، مستقبلاً؟ يبقى هذا السؤال المرعب، مفتوحاً على إجابات عديدة، ما دامت ظاهرة "الشعبوية" باتجاه المزيد من التفاقم والانتشار حول العالم.


ترك تعليق

التعليق