هاجس شيطاني


استولى عليّ اليوم، ولبضع دقائق فقط، هاجس سرعان ما أدركت أنه نتاج نوازع شريرة، من تلك التي تداعب مخيلة كل إنسان، من حين لآخر. وتمكنت بالفعل، وسريعاً، من تطويقه وكبته. ذلك أنني بحكم كوني، المحرر الأول في موقع "اقتصاد"، يعنيني معدل القراءات اليومي، فهو المعيار لمقدار نجاحنا. ورغم أن هذا المعيار لا يرتبط بالضرورة، بقيمة ما نقدمه للمتابع السوريّ، إلا أنه رغم ذلك، للأسف، يؤثر في الحكم على أدائنا.

وحدث، منذ يومين، أن لاحظت قفزة هائلة في عدّاد القراءات على أسعار العملات اليومية. ورغم أن هذه المادة، تحصد يومياً، معدل قراءات مرتفع، إلا أنها في هذه المرة، حصدت أكثر من 5 أضعاف المعدل اليومي المعتاد، وكان الخبر يشير إلى تراجع كبير في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار.

وحينها تولاني ذلك الهاجس، وخطر في ذهني سيناريو للتلاعب في سعر صرف الليرة السورية، لتعزيز القراءات في الموقع، عبر شائعة ما. فمن خلال تجربتي، لست سنوات متتالية، كنت أرصد خلالها، وبصورة يومية، تطورات سعر الصرف، تبين لي أن التلاعب بسعر صرف الليرة، بناء على عوامل نفسية، تستند في مجملها للشائعات، أو التأويلات لحدث أمني أو سياسي ما، أمر في غاية السهولة، ويكفي أن نعرف جانباً مما يخشاه الناس في سوريا، في هذا التوقيت، وننشر شائعة ذات إيحاءات سلبية، تتعلق به، حتى يندفع الكثير من الناس لبيع الليرة وطلب الدولار، مما يهبط بقيمة العملة المحلية. وأحياناً، لا تكون هناك عمليات بيع وشراء حقيقية، فالشائعة كفيلة بتحديد أسعار جديدة عبر المتلاعبين من تجار العملات، وانطلاقاً من منصات متخصصة ترصد أسعار العملات في "فيسبوك"، تحولت لتكون في الوقت الراهن، المرجع الرئيس في تحديد سعر الصرف، يومياً.

لم يدم ذلك الهاجس، إلا دقائق فقط. وسرعان ما أدركت أنه نتاج نوازع شريرة، فالليرة التي تحمل فئة الـ 2000 منها، صورة رجل ممقوت في أوساط شريحة ضخمة من السوريين، تمثل للأسف، في الوقت نفسه، معياراً نقدياً يؤثر بشكل مباشر ودراماتيكي، على قوت الغالبية العظمى من السوريين، في مختلف مناطق الداخل السوري، حتى تلك التي لا تخضع لسيطرة النظام.

وسرعان ما أدركت وجه الخطيئة في هاجسي ذاك، حينما تذكرت كم من مرة تلاعب النظام، على مدار السنوات القليلة الفائتة، بسعر صرف الليرة السورية، خدمةً لأجندات آنية، على حساب قوت السوريين ومعيشتهم. ففي مرحلة ما، كان مركزي النظام أكبر تاجر عملة، حسب وصف اقتصاديين مخضرمين من أوساط النظام نفسه، وهو ما أثخن القوة الشرائية لليرة، بالجراح. وفي مرحلة أخرى، كان الهدف من التلاعب بسعر الليرة، هو دفعها للانخفاض بهدف تمويل رواتب موظفي الدولة، بصورة أجدى لخزينة المركزي المُستنزفة، والتي تموّل الرواتب من احتياطي النقد الأجنبي، وكلما انخفضت الليرة كلما قلّص المركزي حجم الاستنزاف من الاحتياطي الأجنبي. وكانت هذه العملية مصممة بغاية خدمة عملية تمويل أخرى. فتمويل آلة الحرب، من عتاد ومقاتلين، هي الأخرى كانت تتم بالاعتماد على احتياطي النقد الأجنبي في خزينة المركزي. أي كانت استمرارية آلة الحرب، أكثر أولوية لدى النظام من قوت السوريين، لذلك كان تخفيض قيمة الليرة إحدى أدوات تنفيذ ذلك.

ومؤخراً، وحسب مصادر تحدثت لـ "اقتصاد" من مناطق درعا والغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، فإن أجهزة النظام الأمنية تُضيّق على عملية استلام الحوالات من المغتربين في الخارج، لأسباب أمنية. وهذا كان أحد أسباب تراجع قيمة الليرة بنسبة تصل إلى 20%، خلال الأشهر الستة الفائتة، بإقرار مراقبين من داخل النظام نفسه. فالحوالات الخارجية مصدر رئيسي لتمويل الخزينة بالقطع الأجنبي، ودعم الليرة، ذلك أن المركزي يُجبر مستلمي الحوالات في المكاب المُرخّصة على استلامها بالليرة، وبالسعر المحدد من جانبه، بينما يحصد هو القطع الأجنبي المُحوّل من الخارج.

ورغم الأهمية المُلحة للحوالات، بالنسبة لاقتصاد النظام المتهالك، إلا أن ذلك لم يردع النظام عن التضييق على الحوالات المرسلة من الخارج إلى مناطق التسويات التي استولى عليها في العام الفائت. وهكذا، وبدفعٍ من هواجس أمنية بحتة، قطع النظام شريان تمويل مهم لخزينته، وحيّد عاملاً من عوامل دعم الليرة، ودعم معيشة السوريين المتدهورة.

فالحرب على السوريين الثائرين، والهواجس الأمنية المتعلقة بإحكام حاجز الخوف على السوريين العائدين، قسراً، إلى سيطرته، جعلت النظام يستهين بسعر صرف الليرة، ويدفعها مراراً للتراجع، ضارباً بعرض الحائط، تلك الآثار المباشرة لهذا الأمر، على معيشة الغالبية العظمى من السوريين، مؤيدين كانوا، أم رماديين، أم معارضين.

حينما تذكرت هذه الحقيقة، التي تعلمتها عبر الرصد اليومي لتقلبات سعر الصرف، في أكثر من ست سنوات، أدركت مدى "شيطانية" الهاجس الذي تولاني لدقائق، حينما فكرت في إطلاق شائعة ما، بهدف التلاعب بسعر صرف الليرة الهش، لأهداف مصلحية ضيقة. تذكرت حينها أنني كدت أن أكون وجهاً آخر من وجوه النظام الكثيرة المُتفشية في أوساطنا كسوريين، بصورة تذكرنا دوماً، أننا تربينا في كنفه.

لكن، وبحمد الله، لم يدم ذلك الهاجس إلا دقائق فقط.

ترك تعليق

التعليق