ترنيمات "الساروت" من أجل حياة أفضل للسوريين


منذ أكثر من أسبوع وأنا أفكر بموضوع مناسب لمناقشته في افتتاحية موقع "اقتصاد". ولأن موقعنا من المفترض، بحكم تخصصه، أن يعالج قضايا ترتبط بالحياة والعمل، وجدت صعوبة في إيجاد ما يستحق الوقوف عنده، بصورة تجعلنا قريبين من جميع السوريين، بكل ألوان طيفهم.. ففيما كان العيد يقترب، خلال الأسبوع الفائت، كان 3 ملايين سوري يواجهون مخاطر "الموت بالجملة"، وآلام النزوح والتهجير المتجددة، في حرب شرسة، لم تصل إلى خواتيمها بعد.

وحينما أقبل العيد، انقسم السوريون حياله، في "عيدين"، لتزيد مرارة الكثير منهم، حيال ما أصبح عليه حال الوطن وسكانه. وفي المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، كانت شريحة واسعة من السوريين تكافح بصعوبة للحصول على ما يمكن أن تقنع به أولادها، بأنهم في حالة "عيد". فيما كانت شريحة أصغر منهم، تواصل مساعيها للانتقال من مرحلة "الموت بالتقسيط" إلى مرحلة "الحياة بصعوبة" في مناطق "التسويات والمصالحات" بدرعا والغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي.

وفي أجواء تسودها أخبار الموت و"الفاقة"، كان من الصعب أن تجد ما تكتب عنه، بصورة تسمح لك بأن تخاطب كل السوريين. واليوم السبت، فُجعنا بخبر رحيل، عبد الباسط الساروت، ليطال "الموت بالجملة"، أحد أيقونات الثورة، الذين حظوا طوال السنوات الماضية، بمكانة غالية في قلوب السوريين المنتفضين ضد حكم الطاغية في دمشق.

حجم الحزن والرثاء الذي خيّم على العالم الافتراضي لشريحة واسعة من السوريين، مع تناقل خبر رحيل الساروت، دفعني إلى وقفة أوحت لي، للمفارقة، بقراءة مرتبطة بـ "الحياة"، رغم أن الخبر يتعلق بـ "الموت". فقد توقفت عند سؤال: لماذا هذه المكانة التي حظي بها الساروت؟ السؤال وجهته بدايةً إلى نفسي. فقد كنت أذكر أنه كلما ضاق صدري بالأخبار المؤلمة التي تتواصل دون توقف، من بلدنا، أعود إلى إحدى فيديوهات "الساروت"، لأستمع إلى واحدة من أناشيده وترنيماته، التي اشتُهر بها، في بدايات الحراك السلمي في العام 2011. وإلى تلك الفيديوهات التي كانت تجمعه بالراحلة، "فدوى سليمان". وأتذكر "زمن البراءة" الأولى في حراكنا الثوري، حينما كان التظاهر انتفاضة من أجل حياة أفضل، وليس من أجل الموت، قبل أن يحرف النظام بوصلته، عبر إثخان الثائرين بأعداد القتلى، ليزجهم زجاً في أتون "العسكرة". ومن بعدها، غابت "براءة" الزمن الجميل ذاك، تماماً.

حينما اندلعت الثورة في بداياتها، عام 2011، كانت دوافع المتظاهرين مختلفة، دون شك. لكن نستطيع أن نجزم بأن دافع الغالبية منهم، كان الانتقال بسوريا وبالسوريين، إلى حياة أفضل. الدافع الأخير، هو في جوهره دافع "اقتصادي". فالثورة من أجل كرامة المظلومين، أو الـ "فزعة" لـ درعا وأطفالها المعتقلين، أو نجدةً لمناطق مختلفة من سوريا، تلقت الضربات الأولى من بطش النظام.. كلها كانت في جوهرها، ثورة من أجل حياة أفضل، لجميع السوريين. حياة يمكن فيها محاسبة المسؤول الفاسد، أو إقالته في أدنى الحدود. حياة يمكن فيها الدفاع عن موارد البلاد، واستثمارها بأفضل صورة، بعيداً عن تغول السلطة عليها والاستفراد بها، على حساب غالبية السوريين. حياة تكون فيها كرامة السوريين مصانة بصورة أفضل، تتيح أن يصبح هذا البلد، جذّاباً للاستثمار الخارجي، في ظل سطوة قانون يحفظ الحقوق والكرامات. حياة لا يكون فيها الحاكم "إلهاً" على الأرض، لا يجوز الاعتراض على غيّه، بصورة وصلت معها مستويات الفساد والمحسوبية إلى درجات لم تعرفها سوريا، من قبله.

لم تكن ثورة السوريين، في زمن "البراءة الأولى"، ثورة من أجل الموت، أو لاستبدال حاكم بآخر، من طائفة أخرى، أو من آيدلوجية أخرى. كان غالبية السوريين، في حراكهم الثوري الأول، يراهنون على سيناريو الانتقال إلى حكم أكثر شفافية، يتغير عبر صندوق الاقتراع، ويخشى فيه المسؤول غضبة الشارع، بصورة تجعل حياتهم أفضل.

في تلك الأيام، كانت أناشيد وترنيمات "الساروت" تعبيراً عن تلك الرغبة بحياة أفضل، حتى لو كان ذلك يعني تضحية مؤقتة. على صعيد شخصي، ضحى "الساروت" بحياة أفضل، لشخصه، بحثاً عن فرصة للانتقال إلى حياة أفضل، لشعبه. لكن النظام نجح في حرف البوصلة، وانحرف معه معظم السوريين، قسراً، ومن بينهم "الساروت" نفسه، الذي انزلق، كغيره، إلى "العسكرة" ومن ثم "الأسلمة"، وتورط في مشاحنات فصائلية، ليكون تجسيداً لكل التطورات التي ألمت بالشارع السوري الثائر، بإيجابياتها وسلبياتها. لكنه، رغم ذلك، بقي أيقونة تُذكّر الثائرين، بذلك "الزمن الجميل"، زمن التظاهرات الأولى، التي كان فيها "منشداً" للثورة، تصدح حنجرته بترنيمات تلهب مشاعر المتظاهرين، وآمالهم، بمستقبل أفضل.

يموت "الساروت" اليوم، لكن أناشيده، وفيديوهات التظاهرات الأولى، التي كان يقودها، ستبقى تذكّر السوريين، جميعاً، بأن حراكهم الثوري، كان في بداياته، حراكاً من أجل حياة أفضل. لذلك، بقيت للـ "الساروت" هذه المكانة في قلوب الحاضنة الموالية للثورة. فهو كان تجسيداً للرغبة بالحياة، حتى لو كان ذلك يعني التضحية بالنفس، فداءً لحياة أفضل، لمن نحب.

ترك تعليق

التعليق