أن تكون أردوغانياً سورياً


تطلب الأمر مني الكثير من القراءة والبحث والاستماع لوجهات نظر متعددة، كي أتمكن من فهم المشهد المستجد في تركيا، بخصوص وضع السوريين هناك. وذلك ليس نتيجة لتعقيدات المشهد ذاته، بل نتيجة لتناقضات السوريين حياله. تناقضات تراكمت الظنون لدي، بأنها نتاج دوافع مصلحية وأخرى ربما، مناطقية.. إلى أن غلبني ما يشبه اليقين المؤلم، بأن أبناء جلدتي، هم الطرف الرئيس المسؤول عن جلد بعضهم، مرة أخرى، وهذه المرة، في إحدى بلدان لجوئهم الذي لا يبدو أن فصوله ستقترب من خاتمتها، في وقت قريب.

استدارت السياسة التركية الداخلية حيال السوريين، بنسبة تكاد تقترب، في رأي الكثيرين، من الـ 180 درجة، لأسباب عديدة، لا أظن أن السوريين أنفسهم يتحملون، كما يتهمهم بعض أبناء جلدتهم، المسؤولية الرئيسية عنها. بل ما حدث هو أن مصالح الدولة التركية، اليوم، تتطلب هكذا استدارة، لتأتي على حساب المستضعفين من السوريين، الذين ألحت خطابات النخبة التركية الحاكمة، في السنوات الماضية، على توصيفهم بـ "المهاجرين"، في استعارة دينية كانت تستهدف تعبئة الشارع التركي على أسس عاطفية، باتجاه دعم السياسة التركية الرسمية المُرحبة باللجوء السوري إلى البلاد، في تلك الأيام. تلك الاستعارة والتعبئة العاطفية الناجمة عنها، تتبدد بشكل ملحوظ، اليوم.

لكن ما سبق، يمكن فهمه وتقبله، إن استخدمنا التقييم العقلي المُجرّد عن أية مشاعر أو أوهام، بخصوص نظرة النخبة التركية الحاكمة، حيالنا كلاجئين، وكأبناء دولة جارة، تشكل التطورات الأمنية والسياسية على أرضها، تهديداً، وفي نفس الوقت، استثماراً مستقبلياً، للدولة التركية.

أما ما لا يمكن فهمه، هو تلك الحيادية والموضوعية المصطنعة في كثير من الأحيان، والمجرّدة عن أية مشاعر قرابة أو صلة، بين فئتين من السوريين، الأولى، التي تحظى بظروف أهّلتها لنيل الجنسية التركية، أو تكاد، أو في حدود أدنى، الحصول على إقامة سياحية، وظروف معيشة وعمل، مريحة، تزامنت مع مواصفات سمحت لهذه الفئة أن تقترب أكثر من دوائر صنع القرار في مؤسسات الدولة التركية، بصورة سمحت لها بأن تكون مؤثرة في قراراتها الخاصة بالشأن السوري. وبين فئة ثانية، لم تُتح لها الظروف السابقة، لأسباب عديدة، ليس هذا مكان سردها. لكن سوريي الفئة الثانية، لا يتحملون، في الأغلب الأعم، مسؤولية عجزهم عن الوصول إلى مكاسب معيشية وقانونية في تركيا، شبيهة بتلك التي حصدها سوريو الفئة الأولى.

الفئة الأولى، "تتركت" بصورة متسارعة، ليس على صعيد اللغة والثقافة للأسف، بل على صعيد الموقف والانتماء، حتى نسي بعض المنتمين إلى هذه الفئة "سوريتهم"، أو تحولت تلك "السوريّة" لديهم إلى وسيلة للاستثمار، لتحصيل المزيد من المكاسب والتقرّب أكثر من مراكز صنع القرار داخل مؤسسات الدولة التركية، وبالتالي، تحصين أوضاع هؤلاء المستقبلية، في بلد لجوئهم تركيا، التي تحولت في نظرهم، إلى محطة استقرار أخيرة. وإن كان مساعي هؤلاء للتأقلم والاندماج وترتيب ظروف حياتهم، بحيث تكون تركيا "بلدهم"، أمر مفهوم نسبياً، في ظل انعدام أفق العودة الآمنة والكريمة إلى سوريا.. يبقى أن ما لا يمكن فهمه، أو تقبله، هو استغلالهم لـ "سوريتهم"، على حساب أبناء جلدتهم، ممن عجز عن تحقيق ما حققوه هم من مكاسب.

والمشكلة الأكبر، أن جزءاً كبيراً من أولئك "المتتركين" السوريين، أصبحوا ملكيين أكثر من الملك، وربما أصبحوا "أردوغانيين"، بحيث بات الدفاع عن مواقف النخبة الحاكمة أياً كانت، والاصطفاف إلى جانبها، بل ومساعدتها على تمرير أية أجندات تراها مناسبة، حتى لو على حساب سوريين آخرين، هو خيارهم الأمثل، لإشباع دوافعهم المصلحية، والتي للأسف، تتزامن في كثير من الأحيان، مع دوافع مناطقية، نفضل ألا نتطرق إليها في هذا الحيز، كي لا نضغط  أكثر على الجرح النازف، بين السوريين.

يصطنع أولئك "الأردوغانيون" الموضوعية والحيادية، حينما يبدون تفهماً كبيراً لمصالح ومشاغل الدولة التركية، دون أن يبدوا تفهماً مماثلاً لمصالح ومشاغل أقرانهم من السوريين المتضررين من الاستدارة الرسمية التركية الأخيرة.

فعلى صعيد إذن العمل مثلاً، فهو يكاد يكون مستحيلاً في كثير من المناطق والولايات والظروف بتركيا. وبالنسبة، لاستخراج الكيملك من اسطنبول، فقد أُغلق بابه منذ مدة طويلة. ناهيك عن البقاء في ولايات تتكدس فيها ديمغرافيا سورية كبيرة، لاجئة، منهكة مادياً، وسط سوق عمل ضيق، مع إغلاق أبواب العاصمة الاقتصادية لتركيا، اسطنبول، في وجوه هذه الفئة.. كل تلك المشاغل والهموم، والمظالم، لا تحظى بقدر من التفهم، لدى نخبة من السوريين "الأردوغانيين"، بقدر تفهمهم لمشاغل ومشاكل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والنخبة الحاكمة المقربة منه. إذ بات هم هذه الفئة الرئيسي، تحصين مكاسبهم التي حققوها في تركيا، والتي أسسوها على حالة من التقرب يكاد يصبح تزلفاً من حزب العدالة والتنمية الحاكم، ليضعوا كل "بيضهم" في سلته، لذا أصابهم الهلع مع خسارة هذا الحزب في الانتخابات البلدية بأنقرة واسطنبول، وأصبح هاجسهم تجنب خسارات مستقبلية أخرى. لذا، وفي خضم حالة الهلع، كان البحث عن "كبش فداء" لتبرير تلك الخسارة "الأردوغانية"، حالة اضطرارية، ساير بها السوريون "الأردوغانيون"، نخبة الحزب الحاكم، وكان "الكبش"، أقرانهم من السوريين، المخالفين للقوانين التركية، في اسطنبول، ممن لا يملكون بديلاً، لتأمين حياة كريمة بتركيا، إلا أن يخالفوا قوانين مجحفة، تأخذ بعين الاعتبار، مصالح الدولة التركية، على حساب تلك الفئة المستضعفة من السوريين.

سيجيبنا الكثيرون على ما سبق، بالإشارة إلى أن من الطبيعي أن يعمل الحزب الحاكم بتركيا، باتجاه توفير ما يناسب مصالح الشارع التركي، والدولة التركية، وهو أمر نتفق معهم فيه. لكن، ما لا نتفق معهم فيه، أن العمل بهذا الاتجاه، يجب أن يكون منسحباً على سوريين مقربين من السلطات التركية، ويشعرون بالأمان المالي والسياسي مع الحزب الحاكم بتركيا. فهذه الفئة، التي تفضل مصالحها اليوم، على حساب أقرانها من المتضررين السوريين، تنظر بأفق ضيق للمستقبل، وتراهن على فئة من الأتراك، على حساب فئات من السوريين، فتكون النتيجة، ربما، خسارة الطرفين، في المستقبل، إن تعرض الحزب الحاكم لنكسات انتخابية أخرى، في السنوات القليلة القادمة.

ورداً على ما سبق، قد يطرح علينا أحدهم سؤالاً خالياً من أي تورية، وبصيغة مباشرة: هل تطلب من سوريين لهم مصالح، أن يضحوا بها، لصالح سوريين آخرين، فقط لأنهم أبناء بلد واحد؟!

نجيب على هذا السؤال، بأن من ضيق الأفق، أن تفكر بانتماءات فردية أو محدودة، لا تستطيع أن توفر لك الغطاء الاجتماعي والسياسي المستدام، كحزب أو مجموعة مصلحية ما.. ومن سعة الأفق أن تفكر بانتماءات أكبر، تسمح لك بامتلاك غطاء اجتماعي وسياسي قوي وفاعل ومستدام، يقيك تقلبات الساسة والنخب الحاكمة، ومصالحهم. وهذا ما فعله قادة أثرياء في جاليات كبيرة، كاليهود والأرمن وسواهم، حوّلوا جالياتهم إلى لوبيات قوية، عبر حالة تعاضد بين مختلف الطبقات داخل تلك الجاليات، رغم ما يشوبها من شوائب، إلا أنها سمحت لتلك الجاليات، في بلدان كالولايات المتحدة مثلاً، في أن تتحول إلى قوى مؤثرة للغاية في صناعة القرار، ليس فقط فيما يخص شؤونها داخل تلك البلدان، بل أبعد من ذلك، أن تكون مؤثرة على سياسة البلد الذي يعيشون فيه، حيال بلدهم الأصلي، الذي يتحدرون منه.

لو فكر أثرياء وأقوياء اليهود مثلاً، كما يفكر اليوم الكثير من المؤثرين السوريين في تركيا، وفي بلدان لجوء عديدة أخرى، لما رأينا اليوم، "لوبي يهودي" تنحي له هامات حكام الولايات المتحدة الأمريكية، ليل نهار.

ولو فكّر اليهودي "المرتاح"، أن على اليهودي "المعتر" أن يتدبر أموره بنفسه، وأن يبتعد عنه، وألا يعكر عليه أجواء "اندماجه" في المجتمع الجديد، وألا يسيء إلى صورته بـ "تعتيره".. لو فكر نخبة يهود أمريكا، بنفس الطريقة، لما وجدنا اليوم "لوبي يهودي عالمي"، يملك نفوذاً لا يستطيع رؤساء منتخبون لأقوى دولة في العالم، مجابهته في كثير من القضايا.

وكي لا يسيء أحد فهم قصدنا مما سبق.. نوضح أنه ليس المطلوب الدخول في مواجهة وخصام، أو صراع، مع النخبة التركية الحاكمة، أو مع مؤسسات الدولة بشكل عام.. بل على العكس، المطلوب التقرّب منها، وتفهم مخاوفها ومتطلباتها، لكن باتجاه خلق تفاهمات معها، تسمح بخدمة مصالح الطرفين، الطرف التركي الرسمي، والطرف السوري بعموميته.. أي أن نخبة السوريين بتركيا، القادرين على التأثير، عليهم أن يفكروا بأفق أوسع نحو المستقبل، وبعقلية بعيدة عن الفردية والمصلحية الضيقة.. وأن يدركوا أنه من المتاح لهم، لو أرادوا، وعملوا على ذلك كما يجب، تأسيس لوبي سوري قوي، قادر على الدفاع عن مصالح السوريين، دون أن يتصادم مع الدولة التركية.. فوجود السوريين في تركيا، قد يكون بعيد الأمد.. وحتى مع حمل الجنسية التركية، سيبقى لدى السوريّ أحد خيارين، أن يكون جزءاً من غطاء اجتماعي – سياسي يوفر وضعية أكثر أمناً، تحت عنوان "السوريين الأتراك"، وبين أن يكون تركياً فرداً من أصول سورية. وفي الحالة الثانية، عليه أن يدرك أن مصالحه المزدهرة اليوم لأسباب مرتبطة بوجود نخبة محددة في سدة السلطة، قد لا تكون في مأمن دائم، فيما في الحالة الأولى، فإن وجود جالية متماسكة، بقيادة وهيكلية فاعلة، يعني أنه بمنأى عن تقلبات الحكم المحتملة في تركيا.

يبقى أن المعضلة الأساسية، هي ألا تكون "أردوغانياً"، بمعنى ألا تكون نصيراً لحاكم، "على الخير والشر". وأن تبقى بوصلتك، المجموع، وليس الفرد. وإلا، فلن يكون هناك فارق كبير في تقييمك الأخلاقي، بين أن تكون أردوغانياً في تركيا، وبين أن تكون "أسدياً" في سوريا.. فالاثنين سواء، بوصلتهم مصالحهم الفردية قصيرة الأمد، حتى لو على حساب أقرانهم، وعلى حساب مستقبل آمن وأكثر استدامة.

   

ترك تعليق

التعليق