هل هو قرار بـ "تعويم حرّ" لليرة السورية؟


في مطلع العام 2012، أعلن أديب ميالة، الحاكم السابق لمصرف سورية المركزي، الخاضع للنظام، عن قرارٍ بـ "التعويم الموجّه" لليرة السورية. كان ذلك بعد عشرة أشهر فقط من اندلاع الثورة السورية، وقبيل الدخول الكامل في نفق "العسكرة" الذي فرضه النظام على الحراك الثوري.

يومها، وصل سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، في السوق السوداء، إلى 73 ليرة. ورغم أن الليرة فقدت في ذلك التاريخ، 40% فقط من قيمتها، مقارنة بسعرها يوم اندلاع الحراك الثوري في آذار 2011، إلا أن النظام كان يملك النيّة المُبيتة بالتخلي النسبي عن الليرة، وتركها نهباً لآليات العرض والطلب في السوق. لكن ذلك التخلي حينها، لم يكن كُلياً، إذ بقي النظام يتدخل، عبر البنك المركزي، في تحديد وجهة تدهور الليرة، ولجم ذلك التدهور من حين لآخر، عبر ضخ كميات من الدولار في سوق العملة، من خلال جلسات تدخل، اشتُهر بها حاكم المركزي حينها، أديب ميالة.

ويبدو أن راسمي السياسة النقدية للنظام السوري حينها، كانوا يبتغون تقليد النموذج المصري، الذي ذهب إلى "التعويم الموجه" للعملة، منذ مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع حكومة "عاطف عبيد"، زمن حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك.

ورغم النتائج الاجتماعية السلبية للغاية، التي نتجت عن السياسة النقدية لنظام الحكم المصري في العقد الأول من القرن الحالي، والتي يُعتقد أنها من الأسباب العميقة لاندلاع ثورة "يناير" عام 2011 في مصر، إلا أن نظام الأسد وجد في الحراك الثوري بسوريا، ذريعة كافية لتبرير التخلي عن سعر صرف ثابت لليرة السورية، وتركها تهوي، بما يسمح له بتمويل خزينته ورواتب مقاتليه وموظفي "الدولة" من خلال الفرق الكبير بين الليرة وبين الدولار، حيث كان يحصل على الأخير بانتظام عبر إحكامه للسيطرة على حوالات المغتربين الواردة إلى الداخل، والتي شكلت، بإقرار حاكم المركزي الأسبق، ميالة، مصدراً رئيسياً لتمويل خزينة النظام، بوسطي تراوح بين 3 إلى 7 مليون دولار يومياً.

اليوم، ومع التدهور المتسارع لسعر صرف الليرة السورية، لتلامس أدنى سعر لها في تاريخها، على الإطلاق، لا يمكن فهم تجاهل المركزي، لهذا الواقع، وعدم التدخل، إلا بأنه قرار بـ "التعويم الحرّ" لليرة. وقد تُفسّر دوافع النظام للقيام بهذا النوع الخطير من "التعويم" بأنها ناتجة عن حالة عجز كاملة عن التدخل لإدارة "تعويم موجّه"، بسبب إفلاس خزينة المركزي من العملات الأجنبية.

فإدارة "التعويم الموجّه" يتطلب ضخ سيولة من الدولار في السوق، كلما تدهورت الليرة، للجم هذا التدهور وإدارته. وهو ما كانت تقوم به إدارة أديب ميالة، السابقة. أما في عهد الحاكم الحالي للمركزي، حازم قرفول، يبدو الإصرار على أن سعر الصرف في السوق السوداء، "وهمي"، ورفض رفع "دولار الحوالات والمستوردات" الذي ما يزال بـ 434 ليرة، يبدو ذلك نتاج حالة عجز كليّة، ترافقها حالة استهانة بما يمكن أن يقوم به الشارع السوري، جراء التدهور المرتقب لمعيشته، الذي سينتج عن انفلات سعر الصرف من عقاله، تماماً.

وقد مهّد رأس النظام، بشار الأسد، لهذا الواقع، في خطابه الأخير، في شهر شباط/فبراير الفائت، حينما ألمح إلى أن الأوضاع المعيشية ستزداد تدهوراً في الفترة القادمة، متذرعاً بالعقوبات الغربية، وبـ "الحصار" الخارجي، الذي ستزداد حدته، على النظام، وبالتالي، على الاقتصاد السوري، حسب وصفه حينها.

وبالفعل، شهدت الأشهر التسعة من العام الحالي 2019، تدهوراً نوعياً وسريعاً لليرة، التي كانت في مطلع العام، بـ 499 ليرة مبيع للدولار الواحد، لتصبح اليوم بـ 675 ليرة مبيع للدولار الواحد. أي أن الليرة فقدت خلال 9 أشهر، 35% من قيمتها.

ماذا يعني "التعويم الحرّ" للعملة المحلية في ظل ظروف كالتي تعيشها سوريا؟.. يعني ذلك باختصار، تضخم أسعار هائل، سيتبعه حالة ركود كبيرة في الأسواق، يرافقها تدهور غير مسبوق في مستوى معيشة السوريين. ففوائد "التعويم"، بنوعيه "الموجّه" و"الحرّ"، تكون فقط في حالة اقتصاد منتجٍ للصادرات بصورة كبيرة، فيكون "التعويم" حينها دعماً لصادراته التي تصبح أرخص من المستوردات، وتصبح أكثر رواجاً في الأسواق المستهدفة خارجياً. أما في الحالة السورية، اليوم، التي تميل فيها الكفة للمستوردات، ولا توجد سياحة تبرر العمل على خفض قيمة العملة المحلية لجذب السياح.. يبدو هذا "التعويم"، تعبيراً عن شكل من أشكال "فشل الدولة". ذلك أن "الليرة" في نهاية المطاف، هي معيار معيشة أولئك القابعين تحت سلطة "الأسد". أما بالنسبة لرأس النظام ونخبته، فهم دون شك، سيكونون بمنأى عن انعكاسات هكذا "تعويم"، لأن سرقاتهم من البلد، ستكون جميعها بـ العملات الأجنبية، وربما تكون خارج البلاد أيضاً.

هل يكون جواب سؤالنا الذي عنونا به هذا المقال، بالنفي؟، وهل تثبت لنا حكومة النظام أنها لم تقرر فعلاً "تعويم" الليرة، بشكل كلّي، وتتدخل قبل فوات الأوان؟.. يبقى ذلك برسم "حازم قرفول"، والعارفين إلى جانبه، بسرّ ما تحتويه جدران المركزي، من عملات أجنبية وذهب. لكن، إن لم يحصل أي تحرك في وقت قريب، يكون الأمر ببساطة، تخلياً كاملاً عن "الليرة"، وعن معيشة السوريين المرتبطة بها. وحينها سيكون ذلك أقوى تعبير عن استهانة النظام بالسوريين، واستخفافه باحتمالات حراكهم الرافض لـ "تفقيرهم"، ما دام هذا النظام قد نجح، أو يكاد، في إخماد حراكهم السابق الرافض للنيل من "كرامتهم". وتبقى نتائج ما قد يحدث حينها، برسم كل من ناصر النظام وأيّده، من أبناء هذا البلد، الذي سيكتوي بنار "التفقير"، بعد أن اكتوى بنار "القتل والتهجير".

ترك تعليق

التعليق