ماذا فعل حزب البعث بالاقتصاد السوري؟

كانت سوريا قبل استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963 مشهورة بالصناعة والتجارة والزراعة، فأكثر الشعب السوري كان ميسور الحال رغم وجود الفقر إلا أن نسبته كانت أقل من نسبته ما بعد استيلاء حزب البعث على السلطة. وتميزت سوريا حينها بصناعة النسيج، فدمشق وحلب مشهورتان بهذه الصناعة إضافة إلى الصناعة التقليدية اليدوية وغيرها التي كانت تصدر إلى أكثر بقاع العالم.

وقد ساهمت حكومات ما يُطلق عليه، حزب البعث العربي الاشتراكي، التي استولت على السلطة في سوريا يوم 8 آذار- مارس من عام 1963، في خلق طبقة جديدة تتمتع بالسلطة والمال. وحتى في عز تلك الإجراءات الاقتصادية التي سميت اشتراكية حينها، لم تكن لا اشتراكية ولا شيوعية ولا اقتصادية، وإنما مزيج هجين يسمح للسرقة والتخريب دون أي مساءلة، ولا يوجد أي نظرية اقتصادية أو إيديولوجية قادرة على تفسير وشرح النموذج الاقتصادي السائد حينها.

*يوم أسود في حياة السوريين

وهنا يؤكد المحلل والخبير الاقتصادي د. حسين العماش لـ"اقتصاد" أن الأذى الذي سببه حزب البعث كمنظمة أيدلوجية وكتنظيم سياسي، وكغطاء طائفي على الاقتصاد، وعلى المجتمع السوري، كان عميقاً ورهيباً لا يمكن إصلاحه أبداً بدون هدم هذا البناء السياسي والعسكري الذي حمى هذا التخريب منذ عام 1963.

وفي ذلك العام، وعندما انقلب العسكر ضد الانفصال بحجة إعادة الوحدة مع مصر، تمت أكبر عملية خداع سياسية ضد السوريين بكل تاريخهم، وتدمير اقتصادي متعمد للبنية وللقوى الاقتصادية المؤهلة للانطلاق والتنمية، ليس لأسباب اقتصادية واجتماعية وطنية وإنما طائفية بحتة كما أثبتت حوادث التاريخ لاحقاً.

وبيّن د. "حسين العماش" أن يوم 7 نيسان، هو التاريخ الرسمي لميلاد الحزب عام 1947، كان يوماً أسود لمولود شيطاني دمّر نفسه وأهله وقومه، حتى مع زغاريد الحي للمولود الجديد حينها، كما أثبت سجله الأسود المختطف على مدى نصف قرن.

قبل البعث، كان الاقتصاد السوري قد بدأ سلم الصعود بالنمو والتنوع والتصنيع وبناء الدولة الحديثة، لدرجة أنه في تلك الفترة كانت التجربة السورية قدوة لعدد من الدول التي أصبحت اليوم من مجموعة العشرين الأقوى اقتصادياً في العالم.

وأوضح "العماش" أنه لتبسيط فهمنا في سبيل التعرف على مظاهر التخريب والخداع والسرقة على مدى 50 عاماً، سوف نقسم تلك الفترة إلى ثلاث مراحل موضوعية مرتبطة بمواعيد زمنية، المرحلة الأولى: التأميم العام- القضاء على الطبقة الوسطى المعارضة، والمرحلة الثانية: التمهيد- التخريب باسم التحول الاشتراكي، أما المرحلة الثالثة: السرقة العلنية والفساد الشرعي- الحركة التصحيحية.

*القضاء على الطبقة الوسطى التي كانت تقود سوريا اقتصادياً

وفي التفاصيل، قال د. حسين العماش لـ"اقتصاد" أن التأميم العام- القضاء على الطبقة الوسطى المعارضة، بعد ما سمي بثورة 8 آذار، وبعد أن انكشف زيف الحكام العسكر الجدد بإعادة الوحدة كما وعدوا، دخلوا بمرحلة القضاء على المعارضة لهم باللجوء إلى خطوات التأميم العام لكل المؤسسات الاقتصادية الخاصة بدءاً من أي مؤسسة رأسمالها مليون ليرة (نحو 250 ألف دولار بذلك الوقت). وهي كلها مؤسسات متوسطة وصغيرة لأنه لا يوجد مؤسسات ضخمة أو احتكارية عام 1965، وهذا الإجراء قد قضى على الطبقة الوسطى التي كانت تقود سوريا سياسياً واقتصادياً.

الجو المشحون طبقياً في تلك الفترة قد جعل التأميم مقبولاً جماهيرياً ضد ما يسمى "الإقطاع والبرجوازية".

ويضيف "العماش" أن النهج "الاشتراكي" في حزب البعث العربي الاشتراكي، لم يكن في الأصل نهجاً على خلفية شيوعية، وإنما كان أقرب إلى مفهوم العدالة الاجتماعية، ولكن اليد الخفية للعسكر الطائفي كانت أقدر على الاستيلاء على البلاد وإيقاف العجلة الاقتصادية من خلال هذه المفاهيم العامة. وبما أن العسكر يسيطرون على الحكم، فإن الثروة والمقدرات الاقتصادية تحولت إليهم أيضاً بجرة قلم.

*تأميم ولكن ليست لمصلحة الوطن أو المواطن

واستطرد د. "حسين العماش" أن التمهيد- التخريب باسم التحول الاشتراكي بدءاً من عام 1966 وحتى عام 1970 أدخل الاقتصاد السوري مرحلة خطيرة، إذ اتخذت عملية التخريب نهجاً مؤسسياً عميقاً، تمثل أولاً بتوقف كل عملية الاستثمار الجديدة من جهة، ومن ثم الاستيلاء التام على كل المقدرات الاقتصادية الخاصة والعامة تحت مسمى "التحول الاشتراكي العلمي"، من جهة ثانية. وكلمنا سألنا عن معنى ذلك كانت الإجابة أن ذلك وفق الماركسية – اللينينية التي تبناها "صبيان" البعث لتغطية الفشل السياسي، والاقتصادي، والعسكري في حرب 1967.

لقد كان الالتفات إلى الداخل ليس أكثر من عملية تخريب ضد عدو داخلي وهمي للادعاء بنصر كاذب تعويضاً عن هزيمة عسكرية وسياسية فادحة.

ويحمّل د. "حسين العماش" البعث المسؤولية بعد أن تم تأميم كل مناحي الحياة الاقتصادية ولكن ليست لمصلحة الوطن أو المواطن، فقد أممت الشيوعية اقتصاد بلادها في كل تجربة لتنتج قوة اقتصادية وعسكرية بينما لم تنتج سيطرة العسكر سوى الجمود والفقر لأنه كان هنالك محفل طائفي يحكم من وراء ستار ليعيد ترتيب الأوراق وخلطها كلياً تمهيداً لخلق طبقة جديدة تتمتع بالسلطة والمال.

وحتى في عز تلك الإجراءات الاقتصادية التي سميت اشتراكية، لم تكن لا اشتراكية ولا شيوعية ولا اقتصادية، وإنما مزيج هجين يسمح للسرقة والتخريب دون أي مساءلة، ولا يوجد أي نظرية اقتصادية أو إيديولوجية قادرة على تفسير وشرح النموذج الاقتصادي السائد حينها، فقط أصحاب التقية الطائفية والسياسية يعلمون مجريات الأمور السرية التي كانت تحدث حتى في ظل نكسة 1967.

*التأميم المعاكس

ويؤكد "العماش" أنه في المرحلة الثالثة، السرقة العلنية والفساد الشرعي- الحركة التصحيحية، عندما استولى حافظ الأسد على السلطة بانقلابه عام 1970، بدأت مرحلة جديدة من التخريب المضاد واستمرت حتى انطلاق الثورة السورية مطلع عام 2011. وكانت هذه الفترة الطويلة متميزة بثبات المنهجية الفاسدة والسرية حتى وإن تعرضت أحياناً إلى بعض التموجات في الأسلوب والإخراج.

لقد كانت، ما سمي بالحركة التصحيحية، إيذاناً ببدء "التأميم المعاكس" من الثروة الوطنية إلى الثروة الخاصة لأعمدة الحكم الطائفية، وبما أن أسلوب الخداع والتمويه متأصل في تفكير حافظ الأسد "الشيطاني"، فقد نجم عن عملية توزيع ثروة المجتمع، على أعوانه وخاصة الطائفيين، تشوه واختلال عميق في البنية الاقتصادية، إذ سيطرت عليه فكرة "الريعية"، أي الجباية والأتاوة والعمولة، بدلاً من الإنتاجية.

ويوضح د."العماش" أن الطبقة الاقتصادية الطفيلية التي استولت على الثروة لم تتعلم الاستثمار، وإنما اعتمدت على حلب "البقرة" السورية، وإبقائها فقط على قدر استمرار الحليب.

ولهذا تضخمت أعداد العاملين في الدولة، وخاصة الجيش والأمن، بحيث أصبحت المشغل الرئيسي للموالين فقط.

وعلى مدى 20 عاماً لم ينجح أي استثمار جديد، وما جاء من هدايا مالية من الخليج بعد حرب 1973 كان يوزع عمولات معلنة على أركان الحكم.

وعندما جاءت قوانين الاستثمار والانفتاح عام 1991 ثم عام 2005 وما بعده كانت للتشريع بقصد التغطية على الثروات المنهوبة من المجتمع السوري ولم تتح الفرصة للإصلاح والازدهار، فأصبح الفساد علناً بقوانين رسمية مما دفع أغلبية السوريين إلى مجاهل الفقر والبطالة والتهميش. وهذه المصائب كانت مادة الانفجار التي أشعلتها مطالب الحرية والكرامة للسوريين عام 2011.

لا يمكن العودة إلى المسار الطبيعي إلا بهدم البنية المختلة والفاسدة

وأشار "العماش" إلى أن الدمار الذي تمارسه العصابة الحاكمة اليوم ليس جديداً، وإنما استمرار لذات الممارسة والمنهجية التي مارستها منذ استيلائها على السلطة. فالسلطة والاقتصاد هما عناصر قوة الحكم، خاصة إذا كانت الحكم في قبضة عصابة. ولذا نجد أن الدمار الذي ألحقه الحزب بسوريا باستمراره غطاءً للفساد والطائفية أصبح عميقاً، وأنه لا يمكن للاقتصاد العودة إلى المسار الطبيعي إلا بهدم هذه البنية المختلة والفاسدة والطائفية ثم بناء اقتصاد الحرية والعدالة الاجتماعية لكل السوريين، وليس لفئة "شعب الله المختار" في التراب السوري.

ومن المنطقي أن الثورة التي انطلقت منذ عام 2011 ولا تزال مستمرة حتى الآن، عام 2015، لن تتوقف ولن تنجح إلا عندما يزول هذا النظام السياسي والعسكري الطائفي وهذا الاقتصاد الاحتكاري المخصص للفاسدين من أهل السلطة السورية الآثمة.

ترك تعليق

التعليق