صناعة ماء الزهر وتقطيره.. مهارة تتوارثها الأجيال في الريف السوري

تعتبر صناعة ماء الزهر وتقطيره من الصناعات الشعبية العريقة التي اشتهرت في الريف السوري منذ مئات السنين، ولكن ظروف الحرب أثرت كثيراً في السنوات الأخيرة على هذه الصناعة كما على غيرها من الصناعات التراثية، ورغم ذلك بقيت جزءاً من تراثنا الريفي المحبب، وعلامة على مهارة الأسلاف المتوارثة جيلاً عن جيل.

 والمادة الأولية التي كان يعتمد عليها صانعو ماء الزهر هي أزهار الليمون المنتشرة في القرى الساحلية، وبعض مدن الداخل التي تُقطف قبل إيناعها وتُفرد حتى تذبل وتوضع في وعاء معدني خاص يُسمى "الكركة" وتُغمر بالماء ويوضع فوقها "الطربوش" وهو عبارة عن وعاء بحجم الكركة يحوي في داخله وعاء آخر بشكل هرمي ويكون رأس الهرم إلى الأعلى ويصب عليه الماء البارد وتُوضع (الكركة) على موقد نار قوية حتى تغلي ثم يجري تخفيف النار رويداً رويداً لتستقر على وهج محدد وقوة معينة وبعد أن تغلي مياه "الكركة" المحتوية على حبات الزهر يتصاعد بخارها إلى أعلى الهرم فتلتصق به، وتحتك بالمياه الباردة في أعلاه فتتكاثف قطرات ندى تجري في مجرى ماسورة الكركة إلى الوعاء الموضوع في الأسفل، والنقاط النازلة على الوعاء هي "ماء الزهر" الذي يستخدم في الكثير من الاستعمالات اليومية.

 وإلى وقت قريب كان ماء الزهر صناعة رائجة في عدد من المدن والقرى السورية للاستهلاك المنزلي أو للتجارة. ولا يزال أهل حمص يتذكرون بائع الماء، زهر العجوز، الذي ظل لسنوات طويلة يجوب على دراجته الهوائية أسواق حمص وأحيائها مردداً عبارة "مازاهر مازاهر"، دون كلل أو ملل حتى تحول إلى جزء من تراث المدينة.



 
مراحل تحضير ماء الزهر
 
تحتاج صناعة ماء الزهر– كما يقول الخبير محمد مأمون الحداد- لـ" اقتصاد" إلى مراحل كثيرة ومعقدة وعناية خاصة في القطف والغلي والتقطير. ويضيف الحداد أن "جهاز تقطير ماء الزهر الذي يعرف في كتب التراث بالأنبيق ويسمى "الكركة" لدى العامة يتألف من قِدر يعلوه حامل ذو غطاء على القدر مجوف إلى الأعلى ذو قبة انسيابية لها حرف كمجرى لتكاثف البخار وسيلانه إلى الخارج عن طريق أنبوب معقوف يصب في قمع يساعد على وصول قطرات ماء الزهر أو أية مادة مقطرة إلى وعاء التعبئة (قارورة–علبة) ويعلو القبة المقفلة قدر يملأ بالماء البارد باستمرار ليتم تكاثف قطرات الماء المبخر (البخار المكثف)، ولهذا القدر الذي يملأ بالماء ماسورة لتفريغ الماء الخاص بالتبريد عندما يسخن باستمرار وتغلى المادة المراد تقطيرها في القدر على نار معتدلة قد تستغرق من 12 ساعة فما فوق حسب حجم الزهر والماء الموجود في القدر".



ويضيف الحداد أن قطّاري ماء الزهر في الريف يستخدمون قطعة قماش تسمى (شاشية) تُلف ويوضع عليها عجين يصمد ويمنع تسرّب البخار. يصنع هذا الجهاز أحياناً من صفيح التنك وهناك أنواع من الأنبيق تصنع من معدن النحاس المطروق، هذا الأنبيق يستفاد منه في تقطير الزهور– زهر الليمون– النارنج وغيرها من الحمضيات.

ويلفت الحداد إلى أن البعض من منتجي "ماء الزهر" يقومون بإعادة التكرير بوضع ماء جديدة على نفس الزهور المسلوقة للكسب التجاري وهذا يؤثر طبعاً على قوة ونوعية ماء الزهر المستخلص، لذلك يلجأ البعض ممن ينتجون ماء الزهر إلى وضع ورق كربون صغير "طلع الليمون" أو "ورق الزهر" لإكسابه قوة في الرائحة والطعم ليكون العمل مربحاً تجارياً.



وبدوره، يرى خبير صناعة ماء الزهر وماء الورد "أنيس صبحي السادات"، أن "هناك عدة عوامل تلعب دوراً مهماً في عملية إنتاج ماء الزهر عالي الجودة ومنها الكمية المقطرة حيث تتناسب هذه الكمية عكساً مع الطعم الفريد، فكلما قلت كمية الزهر المقطرة كانت النكهة أجود والرائحة أزكى، كذلك تؤثر قوة وحجم النار المستخدمة في الغلي إلى حد كبير في عملية التصنيع حيث يفضل استخدام نار هادئة قليلة الاتساع تطيل زمن تكاثف البخار وبالتالي يتم الحصول على نتائج باهرة".

ترك تعليق

التعليق