سوق الصالحية في آخر أيام العز.. بسطات وتنزيلات وهمية وتجار على باب الله

كان السوق سيران متوسطي الحال، وبهجة العيد، وفرح الراغبين بتجديد أشكالهم وأرواحهم، ومطعم صغير للباحثين عن لقمة طيبة في قلب العاصمة الجميلة.. إنه سوق الصالحية، حيث يمكنك أن تجد ما يناسبك من لباس وعطورات وأشياء جديدة يقترحها عليك الباعة، واستراحة من أيام العمل الصعبة.. هنا المتعة والتسوق أكثر مما تحلم.

السنوات الخمس الأخيرة بدلت في السوق قلباً وعقلاً اقتصادياً، وصار أصحاب المحال باعة بسطات بعد كثرة ما ازدحم من بشر باحثين عن عمل كيفما كان، ومنافسة كبيرة من اقتصاد الظل الذي بات يعيق عمل المحال التجارية، التي خسرت معه جولات خصوصاً في المواسم التي كانت تعيد التوازن للتاجر والمصنع، وباتت الأعياد أياماً قاسية على السوق بعدما كانت أيام بيع وفرح.

تنزيلات وهمية

هي لعبة السوق القديمة، والخدعة التي يتفق فيها أهل السوق من أجل الخلاص من الركود، ولكن هذا الحال الدائم بعد الثورة جعل من هكذا لعبة لا تتواءم مع قانون سوق الحرب، وباتت كل التنزيلات لا تشكل إغراء للمواطن المفلس في وجه نار الأسعار التي تزداد استعاراً، وبات على أصحاب الكار أن يغيروا من استراتيجيتهم، وهذا ما اضطرهم إلى تنزيلات فعلية في ضوء وجود بدائل رخيصة تتناسب مع الواقع المعيشي للناس، وخروج قطاعات منافسة، وتوقف معامل كثيرة عن الإنتاج، وتحول الناس إلى البالة كبديل دائم عن سوق الجديد الملتهبة.

لم يعد بإمكان المواطن شراء بنطال بـ 4000 ليرة وقميص بـ 3000 ليرة سورية، أي أنه يحتاج إلى أكثر من نصف راتبه الهش من أجل موسم لباس لمرة واحدة، وبالمقابل لم يعد بمقدوره تلبية رغبة الصغار على الأقل مرتين في مواسم الأعياد، فأسعار ألبسة الأطفال تحديداً أغلى ما في السوق، فلباس رضيع لا يتجاوز الأشهر الستة من عمره يكلف ما بين 2000- 4000 ليرة هذا عدا عن ثمن الأحذية التي وصلت إلى أسعار غير معقولة، فلحذاء الجيد يساوي ما بين 4000-9000 ليرة سورية، ولا يخلو السوق من ماركات سيئة سعرها ما بين 3000-4000 ليرة.

صاحب محل ألبسة يقول لـ اقتصاد: "بتنا على حافة الفقر، لا موديلات جديدة، ولا معامل تنتج إلا القليل منها لا يسد حاجة السوق، ولا تصدير، وتحول كثير من التجار إلى تجار شنطة، فالإنتاج لا يأتي بالأرباح، الخيط غالي والقماش غالي والحصار على السوريين على أشده، وخليها لله".

سوق فقيرة منافسة

في قلب السوق وفي جواره نهضت سوق جديدة قديمة، قديمة لأنها لم تكن سوى ظاهرة تقمعها شرطة البلدية والمحافظة وترتشي منها، وجديدة لأنها صارت أمراً واقعاً والتجار باتوا لا يشتكون منها وإنما يدعمونها كونها تؤمن لهم الزبائن والغطاء الذي يجعلها تمارس مخالفات عدة، وتقلدها في كون أغلب أصحاب المحال صاروا يفردون بضائعهم أمام محالهم كون الزيون بات يخشى دخولها بسبب ارتفاع أسعارها.

هنا في وسط السوق، تنتشر البسطات المتنوعة، أحذية وألبسة ولانجري، وبأسعار معقولة، وحركة بيع لا تتوقف، وصيحات الباعة تنادي على الزبائن أن هذه البضائع للفقراء ومتوسطي الدخل، وتتهافت النسوة على سوق تستطيع أن تستر، ليست بالغالية وليست بالجيدة، ولكنها أفضل من الجديد الذي صار حلماً فقط يستطيع اقتناءها الأغنياء، وجامعو الأموال من دماء السوريين من شبيحة وسواهم.

هنا.. تستطيع أن تشتري امرأة ما يستر ابنتها بـ 3000 ليرة، وأن تجد بنطالاً لزوجها بـ 1500- 2000 ليرة، وكنزة ما بين 500-800 ليرة سورية.

من الممكن أن يشتري شاب ألبسة جديدة بـ 2500-3000 ليرة وحذاء بـ 3000 ليرة موديل حديث، وأن يهدي خطيبته ألبسة بـ 5000 ليرة سورية، وأن يشتري من عطورات المصري أو الغبرة عبوة عطر جيدة 750-1000 ليرة سورية.

صاحب إحدى البسطات يقول: "لا يوجد عمل في أسواق الشام، وأغلب أصحاب المحال التجارية سرحوا عمالهم ولم يعد بمقدورهم دفع الرواتب فأبقوا على موظف أو اثنين، ونحن نحاول أن نعيش قدر ما نستطيع، وهذه البسطة يعيش على أرباحها عدد من العائلات".

ع باب الله

وهؤلاء يندهون باسم الله، وهم الباحثين عن أي ربح في هذا السوق القديم، العميان وباعة السبحات (المسابح)، وعربات فواكه المواسم (جارنك، وعوجة، وترمس)، يتوسطون الشارع الذي كان ممنوعاً إلا لمن دفع رشوة لشرطة المحافظة.

شبان يحملون بضائع وبالونات للأطفال، شقيعة يحاولون اقتياد الزبائن إلى المحال والبسطات، متسولون يصرخون من مال الله، وعجائز يتوسدن الجدران، سوق مفتوحة على كل ما هو موجع في بلد مفتوحة على النار من كل الجهات.

بائع الترمس: "كلنا على باب الله، وأغلب السوريين على باب الله، هذه الحرب أفقرتنا، عائلتي كلها خارج البلاد إلا أنا وزوجتي هنا وأنا أحاول في هذا العمر أن أعمل كي لا أمد يدي لأحد".

ترك تعليق

التعليق