عائلة جمال الدمشقي - (الفصل الثالث من "الترليونير السوري")


كانت بداية الصعود السريع المثير للإعجاب، وللجدل أيضاً، لشخصية جمال الدمشقي، أغنى رجل في التاريخ المُسجل اليوم، قد بدأت عام 2018، بدايةً غير متوقعة، حينما أعلن بنك بنك سويسري – بريطاني، عن مسابقة كبرى، لأفضل فكرة استثمارية في العالم، بجائرة قدرها مليون دولار.

كان البنك العالمي الشهير يستهدف من إعلانه هذا أمرين، الأول، التغطية على سلسلة الفضائح المتعلقة بدوره في التهرب الضريبي لعملائه، وهي سلسلة فضائح بدأت منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. أما الأمر الثاني، فهو إنعاش نشاطاته الاستثمارية عبر فكرة مبتكرة وغير مسبوقة.

المسابقة التي شملت معظم دول العالم، حيث تتواجد فروع للبنك، صُممت لتتم خلال سنة، على أربع مراحل، المرحلة الأولى يتلقى فيها كل فرع للـبنك في كل مدينة حول العالم، الأفكار الاستثمارية المُقترحة من المشاركين، عبر بريد الكتروني مخصص، أو عبر التسليم باليد في مقرات البنك.

وطلب البنك حينها أفكاراً استثمارية مفصّلة، من حيث المبدأ وطريقة التنفيذ.

وحسب تصميم المسابقة، تولى عدد من الخبراء المحليين المتعاقدين مع البنك، دراسة الأفكار المشاركة خلال مدة شهرين، ليتم اختيار أفضل ثلاثة منها، وفق معيارين، نوعية الفكرة وحداثتها، والجدوى الاقتصادية العالية لتنفيذها.

الأفكار الثلاثة المُختارة، تُصنف بين مرتبة أولى وثانية وثالثة، وتنال كل منها جوائز مالية قدرها، بالترتيب، 1000 دولار، 500 دولار، 250 دولار. لتنتقل إلى المرحلة الثانية، التي تكون على مستوى كل دولة.

المرحلة الثانية تشهد تنافساً بين الأفكار المرشحة من المدن، على مستوى كل دولة، حيث يتولى خبراء متعاقدون مع البنك تدقيقها، واختيار أفضل ثلاثة منها، في شهرين أيضاً، وخلال الشهر الثالث يتم استدعاء أصحاب الأفكار المُختارة، ومكافأتهم في حفل مصوّر، ترصده وسائل الإعلام.

وينال الفائزون الثلاثة، وفق درجاتهم الثلاثة، بالترتيب، 10 آلاف دولار، 5 آلاف دولار، 2500 دولار. لينتقلوا بعدها إلى المرحلة الثالثة.

المرحلة الثالثة تتولاها خمسة فروع كبرى للبنك في العالم، حسب تقسيم مناطقي، كانت دبي فيه مركزاً للشرق الأوسط، الذي ضم الدول العربية وإيران وتركيا ودول آسيا الوسطى وأفغانستان.

ينال الفائزون الثلاثة في هذه المرحلة جوائز هي بالترتيب، 100 ألف دولار، 50 ألف دولار، 25 ألف دولار، ينتقلون بموجبها إلى المرحلة الأخيرة.

المرحلة الأخيرة التي كان مقرها جنيف بسويسرا، تمثل الخاتمة لهذه المسابقة التي امتدت لسنة كاملة.

في ختامها، يتم اختيار أفضل ثلاثة أفكار استثمارية على مستوى العالم، بجوائز حسب الترتيب، وفق الدرجات الثلاث، مليون دولار، نصف مليون دولار، ربع مليون دولار.

والأهم مما سبق، أن البنك السويسري – البريطاني، تعهد بتنفيذ الأفكار الاستثمارية الثلاث الفائزة، وفق نسبة مئوية من أرباحها، ينالها أصحاب تلك الأفكار.

***

في نهاية العام السابق لعام المسابقة، أي عام 2017، كان جمال الدمشقي يقيم في مدينة الغردقة المصرية، على ساحل البحر الأحمر. وكان في الدرك الأسفل من مسيرة حياته، بوزن تجاوز الـ 148 كيلو، وحالة اكتئاب مزمنة جعلته يفكر جدياً بالانتحار أكثر من مرة، وبعملٍ متواضعٍ يسدّ رمقه بصعوبة، وبأفق منغلق، وآمال محطمة، وتطلعات معدومة.

غادر جمال دمشق في ربيع العام 2013 إلى مصر، بناء على ضغطٍ من عمّه رشاد. تطلب اتخاذه لهذا القرار عدة أشهر، كان كمن يتخذ قرار إجراء عملية جراحية خطيرة، احتمال الموت فيها مرتفع.

كان جمال حينها في ربيعه الثالث والعشرين. ورغم شبابه المزدهر، كانت ضربات حياتية عدة تلقاها في السنوات الأخيرة، قد تكفلت بإحباط وتشاؤم تغلغل في نفسيته، وتحكّمت في تصوراته حيال المستقبل.

وتولت السنوات الأربع التالية لمغادرته دمشق، مهمة القضاء على بقايا الأمل والتطلعات لديه، ليصل إلى حافة اليأس تماماً في نهاية العام 2017، قبيل الإعلان عن مسابقة البنك السويسري - البريطاني.

***

وُلد جمال، لعائلة دمشقية عريقة، في مطلع العام 1990. وبقدر ما كان ذلك العام، والذي تلاه، مفصليان في تاريخ منطقته، وتاريخ العالم، الذي شهد على التتالي، الحرب على العراق إبان غزو الكويت، وانهيار الاتحاد السوفيتي.. بقدر ما كانت ولادة جمال مفصلية في حياة والديه.

فوالده رامز، كان قد داخل الأربعين من العمر، وقرر أخيراً أن ينحني للاستقرار بعد كثير مقاومة، وأن يتقبل زوجته سهى، باعتبارها "شريكة دهر"، بعد لأيّ.

لم يكن رامز مستعداً بعد للاستقرار الزوجي، بل ربما، لم يكن مؤهلاً له على الإطلاق. لكنه خضع لضغوط العائلة، وقَبِل الاقتران بالزوجة التي اختاروها له، رغم أنه لم يكن راضياً عن هذا الاختيار.

كان رامز في شبابه لعوباً، متهوراً، شغوفاً برغباته، ومتحرقاً لإشباع شهواته، دونما كثير ضوابط. عمله مع شقيقه الأكبر رشاد، كان الضابط الأكبر له، فأمه أودعته أمانة بين يدي رشاد.

حاول رامز في إحدى المرات التمرد على شقيقه الأكبر، ووصل به الحدّ أن يتورط في محاولة لاستهداف وزن شقيقه المالي وتجارته، حاكها بعض أعدائه. وكان رامز يعبّر في هذه المحاولة عن توقه الشديد للانعتاق من ربقة سيطرة الأخ الأكبر، وسط رغبة عارمة بالانتقام منه لكثرة ما تحكم في حياته، وأساء إليه، حسب تقديره.

وكانت مكافأة رامز جراء الاشتراك في هذه المحاولة مبلغاً كبيراً من المال، أثار طمعه، وأسال شهوته، وأنساه الصلة الوطيدة التي تربطه بشقيقه، بل وأنساه رضا أمه التي كانت الإنسان الوحيد القادر على لجمه.

لكن تلك المحاولة انكشفت بالصدفة، وباءت بالفشل، فكان غضب رشاد، الأخ الأكبر، هائلاً، إذ دفعه شعوره بالمرارة إلى أن يُوقع رامز في حبائل أعماله، بصورة ورطته جنائياً، فدخل بموجبها السجن، وكان ذلك درساً مؤلماً للغاية، روّض رامز بالفعل، فخبت نيران تمرده، وتدخلت الأم حينها لتثني ابنها الأكبر عن قراره، فأخرج رامز من السجن، كما أدخله إليه، في بضعة أشهر، لكنه بقي في حالة قطيعة معه لأكثر من سنتين.

خلالها، عانى رامز من الضائقة المعيشية، واضطر للعمل في مجالات لم يسبق له، وهو "ابن الأكابر"، أن عمل فيها، وذاق مرارة الفاقة، إلى أن نجحت شفاعة الأم في تليين صدر أخيه الأكبر، أخيراً، فأعاده إلى ظله. لكن هذه التجربة كانت كفيلة في لجم شياطين التمرد لدى رامز، الذي أصبح طوع بنان أمه وشقيقه الأكبر، وأصبح خاضعاً لهما كُليةً، إلا في أمرٍ واحد، لم يضغطوا عليه كثيراً، بخصوصه، وهو انجرافه في إشباع رغباته.

وكانت قائمة رغبات رامز طويلة، فهو تعود على الانسياب الأخلاقي الذي لم يكن يلقى الصرامة الكافية من جانب أمه أو شقيقه الأكبر. وشملت قائمة رغبات رامز الطويلة، النساء والخمرة وحتى لعب القمار، لكن أحبها لنفسه كانت النساء. لذا عُرف رامز في حيه، بأنه "نسونجي معتق".

وبعد تجربة تمرده الفاشلة على شقيقه، نحى رامز كل تطلعاته الأخرى المتعلقة بالنجاح المالي والمهني، وحصر حياته في جانبين، الأول، نيل رضا أمه وشقيقه الأكبر، بما يضمن له استقراراً معيشياً، والثاني، التمرغ في المُتع، التي أهدر عليها كل ما كان يحصده من أرباح مالية جراء العمل مع شقيقه، وهي أرباح، لو قِيض لها أن تُستثمر، لربما كانت كفيلة بجعله من أصحاب الملاءة المالية الجيدة.

***

في نهاية الثمانينات، حسمت والدة رامز أمرها، وبدأت تضغط عليه بشدة للزواج، فقد بلغ رامز حينها 36 عاماً، ولم يتزوج بعد. وبعد محاولات عديدة، رضخ رامز لضغوط أمه، لكن بشرط أن تكون الزوجة المُختارة، فاتنة. وافقت الأم، لكنها أضمرت نيّةً أخرى.

وفي مسيرة خطبة عتيدة، دامت سنتين من التجوال على البيوتات الشامية العريقة، مارست والدة رامز متعة قصية لم يسبق أن شعرت بها مع ولديها الآخرين، وهي أن تكون في موضع الأم الخاطبة، وأن تختار لابنها زوجة "تفصيل"، حسب مزاجها.

وخلال هذه المسيرة، كادت الأم أن تقع في براثن فتنة شابة جميلة للغاية، من عائلة دمشقية عريقة، شقراء، بوجنتين حمراوتين، وشعر كستنائي، وقوام مثالي. كانت في السابعة والعشرين من عمرها، موظفة في الشؤون الاجتماعية، معتدة بنفسها، ذات شخصية قوية.

ظنت والدة رامز أنها تستطيع ترويضها، وانجرت في مساعي خطبة الفتاة، واصطحبت رامز لرؤيتها في زيارة عائلية، فكان أن انبهر الرجل بها، أيما انبهار، تملكت معه كل حواسه، وأصبح متحمساً جداً للزواج بها. وهنا، شعرت الأم أنها أخطأت، وأن زمام ابنها قد يخرج من قبضتها، ليصبح في قبضة "الكنّة". فأضمرت نيتها إفشال الخطبة، وتذرعت لاحقاً بطلبات أهل الشابة، وأخبرت رامز أنها لم تعد تريدها زوجة له، لأن أهلها "طماعين"، ولا يبدو أنهم، حسب تعبيرها، "شبعانين"، وأنهم يراهنون على وزن وثروة شقيقه الأكبر رشاد.

حاول رامز مراراً أن يُثني أمه عن قرارها، لكن جذوة التمرد في نفسه كانت منطفأة تماماً، ومقاومته كانت توسلاً، واجه عناداً صلباً من الأم، التي لم يتجرأ حتى ابنها الأكبر رشاد على مناقشتها فيه.

وانتهى الأمر أن أُلغيت الخطبة من الشابة بذريعة الخلافات حول طلبات أهلها. وتلقى رامز صفعة مؤلمة، إذ كان، لأول مرة في حياته، قد بدأ بالفعل يفكر بإيجابيات الزواج، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، وبدأ يتخيل حياته مع الشابة التي أبهرته. أخذ يتخيل لياليهما الحمراء، وكذلك، جلساتهما معاً، على الفطور وعلى الغداء، وعند مشاهدة فيلم عربي مع بعض التسالي. وتخيل أيضاً شكل الأولاد الذين قد ينجبهم منها. كانت الشابة قد ألهبت خياله، وجعلت فكرة الزواج خصبة للمرة الأولى في نفسه.

وبعد إفشال الخطبة من الأم، تعرض رامز لإحباط شديد، ردّه إلى سابق عهده من ازدراء الزواج. لكنه ترك أمه تتابع متعتها في مسيرة الخطبة له، على مزاجها، وبات يحضر معها الاجتماعات التي كانت ترتبها لهذا الغرض، كـ "تأدية واجب"، دون أي حماس أو فضول.

في نهاية المطاف، وقع اختيار الأم على سهى نجار. مُدرّسة، ممتلئة الجسم، ورغم أنها شقراء نسبياً، إلا أن جسمها الممتلئ كان نقطة ضعفها. وكان من الواضح للأم أن سهى سهلة المراس، ويمكن التحكم بها، كما أنها لن تستطيع امتلاك قلب رامز، وبالتالي، ستبقى الأم هي المسيطرة، حسب تقديراتها، التي ثبت أنها دقيقة تماماً، في وقت لاحق.

حصلت الخطبة، وكان برود رامز واضحاً، وكذلك كان برود سهى.

سهى، التي كانت قد وصلت إلى الـ 28 من عمرها، بدأت تخشى أن يفوتها قطار الزواج، وتحت ضغط الأهل الذين يخشون أن تدخل ابنتهم في دائرة "العنوسة"، وافقت سهى على الزواج من رامز، رغم أنها لم تشعر بأي ارتياح حياله. لكن شهرة عائلته، ووضع شقيقه البارز، كثفا ضغوط الأهل، وجعلا خضوع سهى أسهل.

قبل أيام من الخطبة، ناقشت سهى أمها في لهجة أقرب إلى التوسل: "الزلمة كتير بارد"، وأضافت: "لم أشعر حياله بأية مشاعر إيجابية".

رمقتها الأم بنظرة مفادها، "هذا كلام فارغ". فحاولت سهى من مدخلٍ آخر. "عمره 38 عاماً، ولا يملك أي شيء، ولا حتى بيت تمليك". جاوبتها الأم بصرامة واقتضاب: "شقيقه ثري، ولن يتخلى عنه".

كانت آخر شقيقاتها المتبقيات في البيت دون زواج، لكنها لم تكن متحمسة جداً للزواج، بعد أن شهدت عن قرب، تفاصيل الحياة الزوجية لشقيقاتها الأربع، التي كانت تزخر جميعها بعوامل غير مشجعة على التكرار. إلا أن الخشية من "العنوسة"، وتناقص أعداد "الخُطّاب" مع تقدمها بالعمر، ألزماها على الرضوخ لما اعتبرته "نصيبها".

وتم عقد القران بأبهة باهتة، وبحفلة صغيرة بحضور محدود، بذريعة وفاة أحد أقارب والدة رامز منذ مدة قصيرة.

ليلة زفافها، بكت سهى في سريرها، كانت تخشى لحظة الانفراد بين أحضان الرجل الذي أصبح زوجها. أما رامز فكان الأمر الوحيد الذي يشغل عقله حينها، لحظة فض "بكارة" سهى، التي أثارت مخيلته، وألهبت شيئاً من حماسه الذي خبا حيال الزواج.

وكانت الليلة الموعودة.. والدة رامز أدارت الحفل وفق التصور الذي أرادته. ورامز أدار ما تلاه أيضاً وفق التصور الذي أراده. أما سهى، فحدث ما كانت تخشاه، إذ كانت أولى مشاهد حياتها الخاصة، عنواناً للقادم من الأيام، أنانية رامز وانحصار تفكيره في شهواته وما يريده هو، فيما كان المطلوب منها، حسب تصوره، الاستجابة والتفاعل بما يخدم غاية المتعة التي يأملها. أما عن متعتها هي، فأمر لم يخطر في بال رامز مطلقاً، بل لم يكن يتصور أنه حق من حقوق زوجته.

الأسابيع الأولى للزواج، كانت حافلة بالمتعة بالنسبة لـ رامز، حافلة بالأسى بالنسبة لـ سهى، التي خضعت لرغبات زوجها، ولبت كل طلباته، أملاً في تأسيس حياة أسرية مستقرة معه، وفق قاعدة "طاعة الزوج"، فيما كان غياب أي بُعدٍ للألفة والمودة بينهما يحرق وجدان سهى، أيما إحراق.

بعد مضي بهجة "شهر العسل"، بدأ تركيز رامز ينتقل إلى هدف إركاع زوجته، وإخضاعها، وجعلها "مطية" سهلة القيادة. وكان تساهل سهى في الاستجابة لطلبات زوجها الغريبة في بعضها، والمقززة في بعضها الآخر، خلال علاقتهما الخاصة، قد ألقى في روع رامز أن شخصية سهى ضعيفة. لكن الحقيقة كانت مختلفة، إذ كانت سهى تتصنع ضُعف الشخصية، أملاً في تحقيق الاستقرار الزوجي، وتضغط على نفسها، لتكون ضعيفة. وفي كل مرّة كانت تخضع فيها سهى لطلبات زوجها الغريبة والمقززة، كان الشرخ النفسي بينهما يتفاقم.

قرر رامز عدم الإنجاب فوراً، بذريعة اختبار مدى استقرار علاقتهما الأسرية، وكان ذلك بتوجيه من أمه، كي يتم ترويض سهى قبل أن تُنجب، فيلين صدر رامز لها، مع دخول الأولاد لحياتهما، حسب تصورات الأم. وكان ذلك. استجابت سهى لقرار زوجها، أيضاً، على أمل تحقيق الاستقرار الزوجي، وفق مبدأ "المسايرة". فكان أن تمادى رامز أكثر، ووصل حداً قارب حالة التسلية في إطلاق طلبات غريبة من زوجته، وكأنه بذلك يُشبع عقدة نقص لديه، ناتجة عن خضوعه المُطلق لأمه وشقيقه الأكبر.

وكلما تمادى رامز، كلما زادت نقمة سهى المكبوتة، وتفاقم غليان المرجل المُعتمل داخل نفسها، إلى أن حصلت حادثة أخرجتها عن طورها، وأرجعتها سهى التي تعرف.

ففي ظهيرة أحد أيام الجُمع، بدأ رامز يتدخل في عملية الطبخ، ويُعطي التعليمات بلهجة آمرة جافة لـ سهى، التي كانت تستجيب وتكتم غيظها. وفي لحظة قاربت الانفجار، ندى عنها "تأفف"، أشعر رامز أن الفرس يحتاج إلى المزيد من الضغط للترويض، ففتح الثلاجة، ووجد لبناً قديماً، يبدو أنه فقدَ صلاحيته.. أمسك الوعاء الذي يحتويه، وقرّبه إلى ناظري سهى التي كانت تجلي الأوعية. نظرت إلى الوعاء باستغراب، ورفعت ناظريها إلى مستوى ناظري زوجها، فوجدت الشرر يتطاير من عيني الأخير..

"كيف يتلف اللبن بهذه الطريقة؟، ما هذا الإهمال؟، هل تظنين أنني أجمع المال من الطرقات؟، إني أكد وأشقى لتأمين لقمة عيشنا بصعوبة".

شعرت بغضب شديد، وأدركت أن رامز يتلكأ بحثاً عن مشكلة، ولم تستطع ضبط نفسها المهتاجة، فقالت له: "هذا الحاضر".

كانت الفرصة السانحة التي انتظرها رامز، كان يتوق شوقاً لأن تخرج زوجته عن طورها، فيجد المبرر الكافي لتأديبها، حسب المخطط الذي تصوره،.. وبالفعل، قذف رامز وعاء اللبن على الأرض، حيث تكسر.. ووجه صفعة أولى قوية لـ سهى، ومن ثم ثانية، ومن ثم أتبعهما بثالثة أردتها أرضاً.

كانت الصدمة كبيرة على سهى، التي احتاجت إلى أكثر من دقيقة كي تستوعب ما الذي حدث، لكنها حالما استجمعت قواها، وثَبت كقط جريح على رامز، وانهالت بأظافرها على وجهه، الأمر الذي جعل رامز المصدوم من رد فعل زوجته الهادئة المستكينة، في موضع الدفاع عن النفس.. وحالما استوعب هو الآخر ما الذي حدث، دارت بينهما اشتباكات حادة، أدمتهما..

أُصيبت سهى بكدمات واضحة على وجهها، وحول عينيها، وغادرت المنزل بعد أن جمعت أغراضها، واشتقت سبيلها إلى منزل أهلها، وهناك، كانت ثورتها على والدتها، إذ حمّلتها مسؤولية ما وصلت إليه..

"قُلتِ لي، أرضيه، وأسعديه، واستجيبي لكل طلباته، فيحبك، وتسعدا في حياتكما.. نفذت كل ذلك، فكانت النتيجة أنه تمادى إلى درجة بت فيها أشعر أنني عبدة، ولست زوجة".

 وحسمت سهى أمرها.. "أريد الطلاق".

فبهتت والدتها، وحاولت تهدئتها وفي نيتها إقناع ابنتها بالعدول عن ذلك، لاحقاً. لكن مشهد الكدمات في وجهها وحول عينيها، جعل عقول أشقائها تطير من مكانها. وتفاقمت الأمور. واتصل شقيقها الأكبر بشقيق رامز الأكبر، رشاد، وأعلمه بما حدث بنبرة غاضبة مهتاجة، وأخبره أنهم يريدون الطلاق، فابنهم، رامز، شخص غير طبيعي، حسب وصفه.

غضب رشاد من شقيقه، بشدة، فهو كان على قناعة أن شقيقه يتحمل مسؤولية ذلك، فـ سهى كانت حسب مشاهدات الجميع، امرأة لينة ومهادنة، ورأى الجميع أكثر من مرة، كيف يُسيء رامز معاملة زوجته، وأمام الملأ.

خلال شهرين من الأخذ والرد، كاد الأمر أن يصل إلى الطلاق، ولم يكن رامز مهتماً لذلك، بل على العكس، كان يراه فرصة للإفلات من قيود الزوجية التي لم يستسغها مع سهى، بعد أن أدبرت بهجة الأيام الأولى.

 أما سهى، فكانت مصممة على الطلاق، وكانت تلوم أمها قياماً وقعوداً، أن أقنعتها بانتهاج المهادنة والطاعة لرجل لا يخشى الله فيها، حسب وصفها.

والدة رامز أدركت خطورة الأمر، فهي تعرف أن ابنها تمادى، فهي من كان يحرضه على انتهاج كل السبل الممكنة لإخضاع زوجته. وكانت الأم على قناعة بأن سهى أفضل من سواها، ناهيك عن أنها وجدت صعوبة في إخضاع ابنها لفكرة الزواج، وهي ليست واثقة أن بمقدورها أن تفعل ذلك مرة أخرى. وكان غضب ابنها الأكبر، رشاد، من عبثية واستهتار رامز حيال علاقته مع زوجته، سبباً في إصرارها على إصلاح ذات البين.

وبعد تدخل "وجاهات" وأقارب للطرفين، ضغط أهل سهى عليها، مؤكدين لها أن رامز تلقى درساً قاسياً، وقالت لها أمها بصريح العبارة: "لن أقبل بابنة مطلقة لديّ".

كان الطلاق ما يزال في ذلك الحين، شديد الوطأة على العائلات الدمشقية، وكان مرفوضاً بصورة شبه حاسمة، وكانت حالاته شديدة الندرة في ذلك المجتمع، نهاية الثمانينات. لكن الأمر تغير بشكل كبير بعد عقدٍ واحدٍ فقط من ذلك التاريخ.

خضعت سهى لضغوط عائلتها، فهي ابنة مجتمعها، وتدرك أن "الطلاق" أقرب إلى "الرذيلة" في تصور ذلك المجتمع، منه إلى "أبغض الحلال". وأقرت في قرارة نفسها أنها حينما تغدو "مُطلقة"، ستصبح حياتها أكثر بؤساً مما سبق، ففرصها بزيجة أخرى ستكون أندر وأدنى من حيث المواصفات، ناهيك عن الضغط الاجتماعي الذي ستحياه كمُطلقة، من جانب الأهل، وزملاء العمل، والأصدقاء.. كانت سهى تدرك كل ذلك.. وكان في قناعتها أن "من تعرفه أحسن ممن تتعرف عليه"، لذا قبلت العودة لـ رامز، لكنها أضمرت في نفسها أن تغيّر جذرياً منهجها في التعامل معه، فالحسنى لا تناسبه، حسب ما وصلت إليه.

رامز خضع أيضاً لضغوط أمه وشقيقه الأكبر، فهو كان يدرك في كنانة نفسه أنه من اختلق المشكلة، وكان وخز خافت جداً للضمير، ينشط داخله، ناهيك عن شعور غريب شاع في نفسه، استصعب معه العودة إلى الوراء، عازباً، ليبدأ من جديد في مشوار اختيار زوجة أخرى، من المستبعد أن تكون أفضل من سهى، حسب تقديراته.

وهكذا، أُصلحت ذات البين، وكانت عودة الزوجين مبنية على الحسابات العقلية البحتة، بعيدة عن أي عاطفة أو مودة تربطهما، ولم يكن أحدهما مستعداً لبذل الجهد الكافي لاستجلاب العاطفة أو المودة. وكان الاختلاف الوحيد أن سهى بدأت تفكر كيف يمكن لها تأمين استقرار حياتها الزوجية، التي اقتنعت أنها "نصيبها وقدرها"، لكن هذه المرة، بطريقة مختلفة عن الطاعة المطلقة التي اعتمدتها سابقاً في التعامل مع رامز. فيما الأخير كانت حماسته لإخضاع زوجته قد فترت قليلاً بعد هذه التجربة القوية، التي أثبتت له أنه لا يستطيع الذهاب بعيداً في ترويض زوجته، وأن العنف تحديداً لن يناسب في تحقيق غاياته.

في الأيام الأولى لعودتهما معاً، كان رامز مُقبلاً على سهى، ودوداً بطريقة مصطنعة، وأدركت سهى يومها أنه يصطنع الود حيالها لإشباع رغباته فقط، لكنها كانت راضية حيال ذلك، فهذا الوضع أفضل بمرات من التعامل الفوقي الذي اعتاد عليه معها، حتى قبيل وأثناء مباشرة علاقتهما الحميمة.

ونفذت سهى خطتها، إذ نزعت "اللولب" المُستخدم لمنعها عن الحمل، سراً، عند طبيبة نسائية من معارفها، ولم تُعلم رامز بذلك. كان قد مضى سنة تقريباً على زواجهما، حينما ظهرت أولى علائم الحمل عليها. وحينما اكتشف رامز ذلك، ثار ثورة عظيمة، واعتبر أن زوجته "استغفلته"، لكن سهى تعاملت معه ببرود عظيم.. وفي لحظة، كاد رامز أن ينحو إلى العنف، لكنه سرعان ما ضبط نفسه، وتذكر نتيجة ما حصل في المرة السابقة.

ولاحقاً، تولت والدة رامز مهمة إقناعه بقبول الأمر الواقع. وحدثته عن بهجة الولد الأول، والسعادة العارمة التي ستغمره حينما يُقبل ابنه أو ابنته على الدنيا. فهدأت نفس رامز المهتاجة، وقَبِل بالأمر الواقع. وحققت سهى بالفعل الاستقرار الزوجي الذي تطلعت إليه. كان هدفها فقط أن تضمن استقرار "البيت"، فنالت ذلك.

ووُلد جمال، في مطلع العام 1990. كانت ولادته سبب بهجة كبيرة لـ سهى ولـ رامز، ولعائلتيهما، وخاصة لـ أم رامز، التي لانت كثيراً حيال "كنتها"، وباتت في بعض الأحيان سنداً لها، وإن بشكل غير مباشر، في مواجهة هيجان رامز المتكرر، من حين لآخر.

وبهذه المناسبة، اشترى رشاد، لشقيقه، شقة في قلب دمشق، في حي ركن الدين، وسجلها باسمه في الشهر العقاري، وأهداه إياها، لتكون أول عقار مُتملك لـ رامز، والوحيد. كانت فرحة الأخير كبيرة، فتحسن أسلوب تعامله مع سهى نسبياً، وشعر برباط أقوى يشده إلى البيت، وكانت متعته كبيرة حينما كان يرجع إلى منزله بعد انتهاء العمل، ليحتضن الطفل الصغير، ويلاعبه، ويداعبه، فيضحك له جمال، وكأن الدنيا كلها تضحك لـ رامز. لقد أحبه أيما حُبّ، وارتبط ببيته، أيما ارتباط. لكن ذلك كان أمراً مؤقتاً، فـ شقوة رامز غلبته لاحقاً، وجلبت الكثير من البؤس لهذه العائلة.

أما بالنسبة لـ سهى، فكان جمال شيئاً آخر تماماً. لم يكن فقط ابنها، كان تجسيداً لكل أحلامها، وضعت بين ذراعيه الصغيرتين كل آمالها. كانت تقف ظهيرة كل يوم، حينما يكون زوجها في العمل، وهي وحيدة في المنزل، تهدهد للطفل الصغير، وتحمله وتسير به داخل الغرفة، فتحدثه، تقول له: "ستكون رجلاً عظيماً في المستقبل، وستأخذ لي حقي من كل من ظلمني، وستكون ثرياً، ستغير حياتي البائسة، لن نبقى نعيش على أعتاب عمك، حينما تكبر، ستكون أنت رجلي، وسندي، أنت عالمي كله".

ربما لم تُغدق سهى على ولديها الآخرين، ما أغدقته على جمال من عاطفة، ولم تشعر حيالهما ما شعرت حياله من انجذاب، وربما لم تكن لها تطلعات خاصة بها، تنتظر تحقيقها عن طريق ولديها الآخرين، كما كانت تنتظر من جمال. ولو في خيالها.

 ربما لأنه "بِكرها". وربما أيضاً لأسباب أخرى خفية. هل كانت سهى تعلم أن سيكون لابنها شأن عظيم؟.. من الصعب الجزم، لكن من المؤكد أن ما ربط سهى بنجلها جمال، كان مستوى مضاعفاً من العلاقة المعتادة بين ابنٍ وأمه، وكان جمال نتاج تلك العلاقة، حيث اختزن كل التطلعات التي أطلقتها أمه يوم ولادته، وكأنه قدر عليه تنفيذه، ولو بعد رحيلها.

يتبع في الفصل الرابع..

مواد ذات صلة:

اللقاء مع اليهودي الأمريكي – (الفصل الثاني من "الترليونير السوري")

من شرفة القصر بالمالكي – (الفصل الأول من "الترليونير السوري")

ترك تعليق

التعليق