بعث سوريا الفاشلة.. (الفصل الثاني عشر من "الترليونير السوري")


في مطلع صيف العام 2031، كان تعداد جيش جمال من المتطوعين السوريين في لبنان، يتجاوز الـ 20 ألفاً، مسلحين بأحدث الأسلحة المناسبة لحرب العصابات، وبأحدث التقنيات المناسبة، بتمويل من جمال، وتقبّل غربي، أتاح استيراد كل المعدات اللازمة، بل ودعم عمليات ابتعاث متخصصين عسكريين لبعض المعاهد والجامعات العسكرية الغربية للدراسة والتدريب هناك.

وكان يرافق جيش جمال من المقاتلين، جيش مماثل، يقترب منه في التعداد، يتكون من أمنيين ومسؤولي تنظيم وإدارة وسيطرة، تم تدريبهم على أعلى مستوى عبر الخبرة النظرية، والتجربة العملية، من خلال العمل على إدارة حياة اللاجئين السوريين في لبنان الذين فاقوا الـ 4 ملايين نسمة، وإدارة شؤونهم، وضبط حياتهم، في البعدين الأمني والتنظيمي، على مدى السنوات التي تلت العام 2022، أي على مدى تسع سنوات من التجربة والخبرة.

لكن تعداد جيش المقاتلين، كان في نظر المراقبين العسكريين الغربيين، وكذلك العرب واللبنانيين، صغير جداً، أمام جيش يُعد بمئات الآلاف من الدواعش، يسيطرون على كامل التراب السوري، وأجزاء كبرى من التراب العراقي، وصولاً إلى المحافظات الشمالية من الأردن.

كان المراقبون الأجانب والعرب، لا يدركون أن جمال يراهن على قوة أخرى، ليست عسكرية، إنها قوة الاختراق الذي حققه في أوساط قيادات التنظيم وقواعده، داخل المناطق التي يعتزم استهدافها. وكان جمال يعلم جيداً بنية الهيكلية القيادية للتنظيم، ومكامن قوته وضعفه.

وفي مطلع ذلك الصيف، انطلقت طلائع جيش جمال لتتقدم نحو الأراضي السورية، مستهدفةً بدايةً، تحصينات "داعش" في الريف الغربي لدمشق، وخلال أقل من أسبوع، كان التنظيم فيه يتهاوى سريعاً، كان مقاتلو جيش جمال يقتحمون دمشق من بوابتها الغربية، ويخوضون معركة سريعة وخاطفة داخل أحياء دمشق العتيدة.

كان لدى مقاتلي جيش جمال خارطة مفصلة بمواقع قيادات "داعش" الفاعلة، وحواجزهم، وتجمعاتهم العسكرية الحيوية، ومخازن أسلحتهم. كذلك كان جيش جمال قد اخترق شبكات تواصل قادة "داعش"، وشيفرات ذلك التواصل، فكانوا على إطلاع بمعظم محادثات قادة التنظيم فيما بينهم، أثناء المعركة. لذا كانت معركتهم واضحة الأهداف، سريعة وخاطفة.

وحالما أدركت قيادة "داعش" في دمشق أن معركتها خاسرة، أمرت مقاتليها بالانسحاب الكيفي، وقُتل المئات من مقاتلي "داعش"، فيما سلّم المئات الآخرون أنفسهم، وفرّ بضعة آلاف خارج دمشق، في مسعى لإعادة تنظيم صفوفهم، لمعاودة الهجوم، لكن جيش جمال لم يمهلهم، ولاحقهم، شمالاً حتى حمص، وجنوباً حتى درعا، وشرقاً حتى عمق البادية السورية.

خلال أقل من شهر، كان جيش جمال قد حرر دمشق وريفها كاملاً، وكان على أبواب حمص ودرعا، بعد أن سيطر على الأرياف المؤدية إليهما.

كان نصراً سريعاً ومؤزراً. وفي آب 2031، سار جمال الدمشقي في أروقة دمشق، لأول مرة، بعد غياب 18 سنة. كان حوله جنوده، ومرافقوه، يهتفون بحياته، ويهللون للنصر المؤزر، فيما كان هو يهيم بدمشق، وحالما خطا خطواته الأولى في سوق الحميدية المسقوف، أجهش بالبكاء، وتهاوى على الأرض، وقبّل البلاط الحجري القديم عليها. وسار بخطوات وئيدة يتشرّب كل ما حوله. لم يتغير الكثير في هذه البقعة، إنها دمشق، يتعاقب عليها الغزاة والطغاة، وتبقى هي هي. دخل الجامع الأموي، حيث أجهش بالبكاء مجدداً، وتهاوى على سجاده قرب ضريح النبي يحيى، وصلّى لله، صلّى أكثر من عشرين ركعة، غاب عن محيطه، حيث عقد مرافقوه حلقة كبيرة حوله، لحراسته وحمايته، فيما غاب هو في عالم آخر، أطال السجود، وبكى، وسأل الله أن يُجيره الفتنة، فتنة الجاه والمال، والنصر، وأن يغفر له ما سبق من ذنبه، وأن يثبت نصره، ويسدد خطاه، وأن يُحسن خاتمته.

كانت اللقطات الأولى التي بُثت لـ جمال الدمشقي يخترق أحياء دمشق وسط موكب من جنوده المهللين، والتي تناقلتها وسائل الإعلام العربية والعالمية بكثافة، قد رفعت جمال بسرعة إلى مرتبة الرمز السوريّ الأول. كان الأمل المُنتظر، الذي ملّ معظم السوريين انتظاره، فمات منهم من مات، وشاب من شاب، ونسي من نسي، وقنط من قنط. فكانت إطلالته تلك، ولادة جديدة لنفوسهم الملتاعة، في بلدان اللجوء والمهجر، وفي الداخل السوري.

خلال ثلاثة أشهر فقط، تهاوت خطوط دفاع التنظيم، واكتشفوا أنهم مخترقون للعظم، وأن معظم قياداتهم عميلة لـ جمال، فتصدع جدار الثقة بين القيادات، وحدثت عمليات اغتيال عديدة، وإعدامات، وفرار. وهكذا استطاع مقاتلو جيش جمال، تحرير حمص ودرعا وحماه وحلب والسويداء، فاستعادوا معظم التراب السوري، باستثناء الساحل، ومناطق سيطرة "الوحدات الكردية" (الجزيرة السورية)، ووقف المقاتلون على أبواب العراق، لكنهم لم يعبروا الحدود المُزالة عملياً بين البلدين، كما أنهم لم يتقدموا لطرد "داعش" من المحافظات الشمالية بالأردن.

دعا جمال جميع القيادات السياسية والنشطاء من السوريين، الذين ما يزالون فاعلين حتى اليوم، للعودة إلى دمشق، لترتيب البيت السوري من جديد. لكن العائدين الأوائل، كانوا هم تحديداً من حظوا بتنسيق مسبق مع تكتل جمال السياسي والإداري، قبل تحرير دمشق، عبر علاقاتهم بالمقربين من جمال في بلدان اللجوء والمهجر. بمعنى آخر، كان العائدون الأوائل إلى دمشق، من الفاعلين السياسيين، هم فقط، المُحتسبين على تجمع النخب الداعم والموالي لـ جمال، بحكم المصلحة، أو القناعة، أو انتفاء البديل.

ومن دمشق، قاد جمال غرفة عمليات أُعدت على عجل، وشكّل حكومة تكنوقراط، ضمت كفاءات سياسية وإدارية وتنظيمية، بعضها يرجع إلى عهد ما قبل الثورة، وبعضها من الداخل السوري، كان يعمل تحت عباءة "داعش"، كأمرٍ واقعٍ، وينسق في الخفاء مع تكتل جمال السياسي في الخارج، فيما كان بعض شخصيات تلك الحكومة من قيادات إدارية مقربة من جمال نفسه.

كانت خطط الإدارة وتنظيم اليوم الذي يتلو تحرير دمشق، جاهزة لدى جمال، فعقد اجتماعات مكثفة مع القيادة الإدارية والتنظيمية الجديدة، ووزع الأدوار، ووضح الاستراتيجية الجديدة، التي كان أبرز جوانبها، السماح بعودة اللاجئين السوريين من لبنان فقط، كخطوة أولى، ومن ثم، بعد تمهيد الوضع الداخلي، وإعادة إعمار أكبر قدر ممكن من البنية التحتية، يمكن إعادة دفعات أخرى من اللاجئين السوريين في تركيا والأردن.

كان جمال لا يريد أن تتعرض جهود إدارته الوليدة في دمشق، لضغط عودة أكثر من 12 مليون لاجئ سوري في تركيا والأردن ولبنان، دفعةً واحدةً، حيث معظم المدن السورية بناها متهالكة، والكثير من أحيائها مدمر، إذ أن حقبة "داعش"، التي امتدت عشر سنوات، لم تشهد نشاطات إعمار جدّية.

وكان جمال يراهن على اتفاق مسبق مع الحكومة التركية، بهذا الخصوص، بألا يتم فتح الحدود أمام عودة اللاجئين السوريين في تركيا، مباشرةً. أما في الأردن، فكانت مناطق سيطرة "داعش"، في شماله، تشكل حاجزاً بين اللاجئين السوريين الذين نزحوا، يوم اجتاحت "داعش" الشمال الأردني، إلى العاصمة، ومناطق الوسط والجنوب والغرب الأردني.. وبين الأراضي السورية.

وبعد أربعة أشهر فقط من بدء العمليات العسكرية الأولى لتحرير دمشق وسوريا، من سيطرة "داعش"، أُعلن عن بدء أعمال الحكومة المؤقتة في دمشق. اعترضت بعض التشكيلات المعارضة السورية في المهجر، لإقصائها عن المشهد، كما علّق بعض النشطاء الإعلاميين والسياسيين، السوريين، بالنقد، لانفراد جمال بترتيب البيت السوري، وحده، بعيداً عن أي إجماع سوريّ. لكن لم يكن لأحد القدرة على عرقلة مسار جمال، إذ كانت تلك التشكيلات المعارضة، واهية، لم تعد تحظى بدعم من أي طرف إقليمي أو دولي، بعد أن تهالك جدوى الاستثمار في الأزمة السورية، لدى مختلف الأطراف الخارجية. ولم يكن لتلك التشكيلات أي وجود ميداني فاعل على الأرض في الداخل السوري.

أما، النشطاء، الذين كان الـ "فيسبوك"، ساحتهم، فتعرضوا لحرب دعائية وإعلامية مكثفة، من إعلاميين آخرين، محسوبين على جمال، يعملون وفق مخطط دعائي تم ترتيبه قبل سنة من بدء عمليات تحرير دمشق. وتمكنوا من استمالة بعض المعترضين الذين يهتم جمال لأمرهم، فيما تم اغتيال الباقي منهم معنوياً، في رفض جازم من جانب جمال لظاهرة "الارتزق" على حساب المأساة السورية، التي عمت شرائح واسعة من النشطاء السوريين، حسب قناعة جمال، يومها.

***

بعيد العام 2025، وانتكاسة آخر غزوات "داعش" التوسعية في لبنان، وبعد اتفاق التنظيم على وقف المعارك مع إيران وتركيا، شعر قادة "داعش" بخطورة توقف جميع النشاطات العسكرية التي تحمل اسم "الجهاد"، على مصير التعبئة المعنوية لدى أنصار التنظيم.

أما الغرب، الذي عقد اتفاقيات غير معلنة مع "داعش"، لوقف ضربها جوياً، مقابل ضمان أمن الحدود الإسرائيلية والأردنية، لم يستجب لطلبات قادة "داعش"، الذين كانوا يرسلون رسائل عبر وسطاء، يطلبون فيها الانفتاح على العالم، والاعتراف بدولتهم، مقابل الاستعداد للالتزام بالضوابط السائدة للعلاقات في المجتمع الدولي والمحيط الإقليمي.

كان قادة "داعش" يرومون الاستقرار لدولتهم، والترسيخ لوجودهم، عبر انتزاع اعتراف دولي علني بهم، يترجم الاتفاقات السرّية، إلى انفتاح كلي.

وكان قادة "داعش"، يغلب عليهم العنصر العراقي، الذي ما يزال يضم قيادات مخابراتية قديمة ترجع إلى عهد صدام حسين، تملك تأثيراً حاسماً في صنع القرار لدى قيادة التنظيم، رغم تقدمهم في السن.

وكان هؤلاء ينصحون القيادات الشابة، بضرورة تطبيع العلاقة مع الغرب، والمحيط الإقليمي، كي يُكتب لدولتهم الاستقرار بعيد الأمد. ناصحين إياهم، بأن دولتهم المنبوذة، غير المعترف بها، ستبقى مستهدفة، بصورة غير مباشرة، من قبل الغرب، إلى أن يجد الأخير الفرصة الملائمة للانقضاض عليها، ما دامت ترفع راية جهادية إسلامية. ولا يستطيع قادة "داعش" التخلي عن تلك الراية، لأنها المصدر الرئيس لتعبئة المناصرين والمقاتلين الأشداء، الذين يأتون من مختلف أصقاع الأرض للقتال في صفوف "الدولة"، ظناً منهم أنهم "يجاهدون" تحت راية الشريعة.

ورغم أن الآراء كانت منقسمة في أوساط الصف الأول من قيادات "داعش"، إذ كان فريق من تلك القيادات يرى أن تطبيع العلاقة مع الغرب سيكون كارثة على التنظيم، إذ أنه سيسقط شعاره الأثير، في مجاهدة "الكفار"، وتكون النتيجة، انهيار الدافع المعنوي لدى أنصار التنظيم.. لكن رأي القيادات الأكبر في السن، التي يتحدر معظمها من صفوف المخابرات العراقية في عهد صدام حسين، كان الأكثر قبولاً وتأثيراً في صفوف نخبة قيادات "داعش"، إذ كان يقوم على مبدأ الغلبة، وفرض الحكم بالسطوة المُدعمة بالدم. فعلى طريقة صدام حسين، أي ملمح للتمرد ضد سياسات التنظيم، يجب أن يواجه بصرامة قاسية، تصل إلى حد البتر لأي عضو أو مجموعة تظهر الامتعاض من قرارات القيادة العليا.

 وبعد أن يضمن التنظيم السيطرة المطلقة على أتباعه، وعلى سكان المناطق الخاضعة لسيطرته، يمكن بعدها، إن تم له تطبيع الوضع مع الغرب، أن يبدأ بتقديم الإغراءات لأولئك الأتباع، والسكان، بحيث تصبح الحياة تحت راية "الدولة الإسلامية"، مُغرية بالمعنى المادي.

كان هذا الفريق من قيادات التنظيم، المتحدر من مؤسسة دولة، وإن كانت أمنية، يريد أن يؤسس دولة، بالمعنى المعاصر للكلمة، وأن تكون التبعية لها على أساس الولاء مقابل المال أو المصلحة.

وحصلت اتصالات بين "داعش" والغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، عبر ثلاث أقنية، تركية، وإيرانية، وخليجية. وكانت الأطراف الإقليمية الثلاثة تفضل إحدى حالتين، التطبيع الكامل للعلاقة مع "داعش"، بما يضمن أمن حدودها المتاخمة لهذه الدولة "الناشز". أو، شن حرب غربية شعواء عليها، للقضاء عليها بأسرع وقت ممكن. أما ما بين الحالتين، اللاحرب واللاسلم، لم يكن خياراً مناسباً لتلك الأطراف الثلاثة، التي لم تكن تشعر بالأمان حيال وجود كيان دولة، إلى جوارها، لا يتمتع بأي اتفاقيات دولية أو إقليمية رسمية، تحدد حدوده، وتوقف أي مسعى لديه للتوسع.

وبعد سنة من المفاوضات عبر ثلاث أقنية مختلفة، وصلت قيادات "داعش" إلى قناعة بضرورة إشعار الغرب بأن التفاهم معهم ملح، فمماطلة الغرب في المفاوضات، أوحت لتلك القيادات، أن الغرب غير جاد بالوصول إلى تفاهم معهم.

فيما كان الغرب، يستصعب تطبيع العلاقة مع دولة سبق أن وصف مؤسسيها بالإرهاب، واستهدفت بعمليات إرهابية، عمق المجتمعات الغربية، أكثر من مرة، وقامت سياسات غربية كاملة، على أساس مواجهة هذا التنظيم، والحرب عليه، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة.

لذا، كان الغرب يقدم طلبات قاسية للتنظيم، من قبيل الاعتذار عن كل الجرائم التي ارتُكبت بحق مواطنين غربيين، سواء أولئك الذين ذُبحوا داخل سوريا والعراق في فيديوهات مصورة، من جانب التنظيم، أو أولئك الذين سقطوا ضحايا عمليات إرهابية، رتب لها التنظيم داخل أراضي الغرب.

وطلب الغرب تقديم تعويضات أيضاً لأولئك الضحايا الغربيين. فوجدت قيادات "داعش"، أن تنفيذ الأمر، بهذه العلنية المطلوبة من الغرب، سيشكل ضربة قاسية للأساس الآيدلوجي الذي يقوم عليه التنظيم، وسيهز قناعات أنصاره ومواليه، بصورة صادمة، قد تهدد استقرار دولته.

فقرر التنظيم أن يضغط على الغرب. فبدأ هجوماً مفاجئاً على الأردن، رغم وجود اتفاق مسبق مغ الغرب، بتحييد الأردن، كما إسرائيل، عن أي عمليات عسكرية للتنظيم. وخلال بضعة أسابيع، تهاوت خطوط الدفاع الأردنية، الأولى، سريعاً، واجتاح التنظيم، المحافظات الأردنية الشمالية، وبات على مقربة من العاصمة الأردنية عمان، فتدخلت الطائرات الأمريكية، بمشاركة بريطانية، لقصف قوافل مقاتلي التنظيم، على الطريق إلى العاصمة، عمان.

وتوقفت عمليات "داعش"، باحتلال شمال الأردن، حيث نزح معظم سكانه، برفقة ملايين السوريين اللاجئين هناك، إلى عمان، ومناطق أردنية أخرى. وأنّت الدولة الأردنية تحت عبء الضغط السكاني المفاجئ، المتجمع في مناطق لم تكن مجهزة بخدماتها، لتخديم هذا الكم الهائل من السكان الجدد.

وتدخل الغرب والخليج، بإعانات مالية مستعجلة، لإنقاذ الدولة الأردنية من الانهيار، وبقيت الأردن تعيش على حافة الانهيار الاقتصادي والمالي، لتنقذها دفعات إغاثة مالية غربية وخليجية، تقيها الانهيار، لكنها لا تكفي لإقالتها تماماً من عثرتها، وذلك طوال سنوات قادمة.

لكن تلك الحادثة، بدلاً من أن تُفضي إلى تحسين موقع "داعش" التفاوضي مع الغرب، سببت للأخير الإحراج الشديد من الاستمرار في التفاوض مع التنظيم، بعد تتالي التسريبات عن المفاوضات. وماطل الغرب مجدداً في مفاوضاته مع "داعش"، مراهناً على قدرته في تأمين عمق الأردن وعاصمته من أي هجمة جديدة. ووجّه الغرب، عبر أقنية التفاوض، تحذيراً شديد اللهجة، بأن حرباً غير مسبوقة سيشهدها التنظيم، إن تعرض أمن إسرائيل لأي اعتداء، وكان التنظيم يسيطر على جزء من الجولان، متاخم للجزء المحتل إسرائيلياً، من الهضبة، بما يجعل "داعش" على تماس مع إسرائيل، لكن التنظيم لم يجرؤ على خرق تعهده بحفظ أمن الحدود الإسرائيلية، وكان ذلك من أبرز الأسباب التي رفعت من سوية الامتعاض في أوساط المؤمنين بالتنظيم سابقاً، والمتحمسين له، والذي تحول تدريجياً، إلى استياء، انتهى إلى ازدراء، أتاح الفرصة المواتية لتنفيذ عمليات الاختراق الواسعة التي نفذها جمال الدمشقي، عبر جهازه الأمني ووسائل الاتصال الخاصة التي يملكها، وعبر شبكة من الأجهزة المخصصة لتنفيذ ذلك.

وخلال السنوات التي تلت العام 2027، عاش الغرب مراراً على حافة انهيار التفاهمات مع "داعش"، وكان يستخدم دعمه العلني لـ جمال الدمشقي، السوريّ الذي لعب دوراً حاسماً في صدّ "داعش" عن لبنان عام 2024، كوسيلة لابتزاز "داعش" في المفاوضات السرّية معه. لكن التنظيم كان يستخف بقدرة جمال على تحقيق أي اختراق نوعي لعمق المناطق التي يسيطر عليها التنظيم.

في هذه الأثناء، كانت قيادات "داعش" في الصف الأول، تنعم بالكثير من الرغد والرفاهية، وتميل أكثر فأكثر إلى تجنب الصدام مع الغرب، كي لا تعود مرة أخرى إلى حياة الجحور والأقبية والملاحقات، والخوف من الموت بالاستهداف من طائرات بلا طيار.

في الوقت نفسه، كانت الصفوف الثانية والثالثة من قيادات "داعش"، ومن قاعدة الهرم فيه، تنقسم إلى حالات، أولى، استطابت مكاسبها بوصفها من الكوادر القيادية في التنظيم، فغرقت في فساد ورشى أتاحه لها موقعها القيادي، وحالات أخرى، كان أفرادها ما يزال يحتفظ بإخلاصه للهدف الأول الذي دفعه للالتحاق بالتنظيم، وهو "الجهاد" تحت راية الإسلام، الأمر الذي عزز نقمته على التنظيم، وقناعته بأنه تعرض لخديعة كبرى، لكنه لم يكن قادراً على فعل شيء، فقيادات التنظيم أتقنت سيطرتها الأمنية والسياسية في أوساط الأتباع. فيما تعددت حالات ثالثة، من تلك الانتهازية التي تركب الموجة الأعلى.

الحالة الثانية، من أولئك الناقمين على قيادات التنظيم، من داخل صفوفه، كانت الساحة الأمثل لتمدد اختراقات فريق جمال الدمشقي، إلى جانب دور سكان المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم، الناقمين في معظمهم، هم أيضاً، عليه، لأنه كان نسخة جديدة للاستبداد، لكن بستار ديني، يزيد الاستبداد مقتاً، خاصة إن كلّله الفساد والرشاوي والمحسوبية، ثم تفتقت أفواه قياداته بالموعظة الدينية.

كان "داعش" جاهزاً للانهيار، وكان ينتظر فقط من يُجهز عليه، وكان الغرب في معظمه يأمل ذلك، كي يخلص من ورطة التفاهم مع كيان مشوه، عبأ جمهوره ضده، بحيث عجز سياسيوه عن إقناع الرأي العام لديهم، بإمكانية تأهيل ذلك الكيان الذي استهدفهم داخل مدنهم وحاناتهم واحتفالاتهم، يوماً من الأيام.

وكانت تركيا تحديداً، الدولة التي رأت في جمال الدمشقي البديل الأمثل لها، عن "داعش"، فهو وعد بحفظ مصالحها التي يحققها لها التنظيم، وفي نفس الوقت، يخلصها من الخوف الدائم الذي تعيشه من انقلاب التنظيم عليها، بعد أن أثبت الأخير أكثر من مرة، أنه لا يمكن الركون إليه طويلاً.

أما دول الخليج، فكانت من أبرز الراغبين بالقضاء على دولة التنظيم تلك، لأنها كانت تؤجج، إعلامياً ودينياً، الكثير من أبناء مجتمعاتها. ومع استمرار أسعار النفط بوتيرتها المنخفضة، وتردي موازنات تلك الدول، خاصة السعودية، كانت الخشية كبيرة من أن ينتشر التطرف في صفوف أبنائها، كالنار في الهشيم.

كان جمال الدمشقي، أمل معظم المحيط الإقليمي، والدولي، إلا إسرائيل وإيران، فالاثنتان تشعران بالأمن حيال التنظيم، والراحة حيال مشهد العمق السني في سوريا والعراق، مدمراً ومتهالكاً، دون أن تقوم له قائمة أبداً.

إيران، كانت قد تجاوزت عقدة الصراع مع التنظيم، منذ أن تخلت له عن وسط العراق، بما فيه بغداد، واستقرت العلاقة التطبيعية غير المعلنة، بينهما لسنوات، بعد العام 2024.

أما إسرائيل، فكانت تعلم أن التنظيم يبتغي رضا الغرب، وأن إسرائيل الخط الأحمر، الذي إن اختُرق، يعلم التنظيم أنه سيكون في مهب غضبة شعواء للغرب، عليه. لذا كانت إسرائيل مرتاحة لاستمرار سلطة التنظيم في سوريا والعراق.

***

خلال حقبة "داعش"، التي سادت معظم سوريا، كانت حياة الدروز بائسة، لكنها لم تكن الأكثر بؤساً. ففي حين، فرّ معظم المسيحيين من سوريا، مع اجتياح التنظيم لها، إلى لبنان، ليهاجر معظمهم لاحقاً إلى دول غربية، وتبقى تجمعات مسيحية محدودة للغاية.. خضع معظم الدروز لسيطرة "داعش". ويوم اقتحم التنظيم جبلهم، "جبل العرب"، جنوب سوريا، أعلنت قيادة دينية للطائفة الدرزية في سوريا، اعتناق عموم الدروز للمذهب السُنّي، ومبايعة "الخليفة".

لكن الدروز لم يسلموا من التنكيل، وإن كانت وتيرته أقل وطأة مما كان متوقعاً، مع إعلان الزعامات الدينية الدرزية، اعتناق المذهب السُني لعموم الدروز في سوريا، وتأييد العامة منهم، لذلك القرار. وفي حقيقة ما حدث، تعرض الكثير من السُنة لتنكيل يفوق بمرات ما تعرض له الدروز، أو حتى المسيحيون، الذين اقتصر الجانب الأسود في حياتهم تحت ظل "داعش"، على إخفاء حقيقة عقيدتهم الدينية، في حالة الدروز، وعلى إقامة الشعائر الدينية بصورة غير علنية، في حالة المسيحيين. أما في حالة السُنة، فكانت حواضن التنظيمات والفصائل الجهادية التي قاتلت التنظيم، موضع تنكيل كبير، ذكّر بحقبة الأسد الأب.

ففي ريف دمشق، حيث كانت تنشط فصائل، مثل "جيش الإسلام"، الذي شنّ حرباً شعواء على تنظيم "الدولة الإسلامية" خلال السنوات التي تلت إعلانه للـ "الخلافة" عام 2014، تعرّض السكان لحملة اعتقالات وتحقيقات، واختفاء قسري، بمجرد ورود أي تهمة تتعلق بالعلاقة مع ذلك الفصيل. وكرر التاريخ، من جديد، مشهد كيدية سكان المنطقة الواحدة ببعضهم، إذ كان أي حانق على جار له أو حتى قريب، يكتب فيه تقريراً، يقدمه للجهات الأمنية للتنظيم، يعرض من خلاله أدلة على صلة هذا الجار أو القريب بفصيل "جيش الإسلام"، فيتم اعتقال من قُدّم بحقه التقرير، ويتعرض للتحقيق المرفق بالتعذيب، وفي معظم الأحيان، إن ثبتت صلة الفاعلة بالفصيل المذكور، يتعرض للاختفاء القسري، الذي ثبت لاحقاً أنه يعني، الإعدام، في إحدى أقبية سجون التنظيم.

ذلك المشهد عاشه سكان مناطق عديدة في ريف دمشق، وكذلك في ريف حمص الشمالي، وفي درعا، وفي شمال حماه، وفي إدلب وريفها. كانت السنوات الثلاث الأولى من سيطرة "داعش"، عنوانها الترهيب المكثف للسكان، كي يخضعوا خضوعاً كاملاً للسيطرة.

أما بالنسبة للدروز، فهم أعلنوا "سُنيتهم"، وأضمروا "درزيتهم"، فوقاهم ذلك الكثير من مشاهد الضغط الأمني من جانب التنظيم، الذي ربما تعامل معهم برأفة أكبر، مقارنة بتعامله مع من يراهم أعدائه من السُنة تحديداً.

لكن ذلك لم يمنع إحساس المرارة من التفاقم في أوساط الدروز، الذين رغم مرور عشر سنوات تحت سيطرة "داعش"، لم ينسوا أنهم مضطرون لإخفاء معتقدهم، خوفاً من القتل أو الاعتقال والتعذيب.

وفي الأردن، كانت قيادات درزية سورية، من القلّة التي فرّت يوم اجتياح "داعش" للسويداء، تعمل ليل نهار، لكن دون إعلان، لحماية الوجود الدرزي، بالمعنى المذهبي، من الاندثار في سوريا. ومن هناك، سافر أحد أعيان الدروز الفاعلين، وهو سليل آل الأطرش، العائلة الجليلة في أوساط الدروز، إلى اسطنبول، عام 2027، ليلتقي بـ جمال الدمشقي.

رفيق الأطرش، الذي كان من القيادات التقليدية المؤثرة في الجبل، قبل اقتحام "داعش" لمنطقتهم، والذي حاول جاهداً وضع الدروز في وضعية حياد بين النظام والمعارضة، رغم محاولات الأول الكثيفة، لخرطهم في عملية دعمه القتالية، عمل بعد فراره إلى الأردن على التواصل السرّي مع قيادات الجبل، الدينية والتقليدية، لترتيب الأوضاع معهم، في ظل سيطرة "داعش".

التقى رفيق الأطرش، جمال الدمشقي، في اسطنبول، عام 2027، وتحدثا مطولاً عن دور الدروز في سوريا المستقبل، التي أخبره جمال أنه يعمل على تحقيقها. ورغم أن لا مؤشرات لنجاح جمال في تحقيق ذلك الحلم، كانت بادية حينها، إلا أن رفيق الأطرش قال له، "حصلت على عهدٍ من قيادات الجبل أن نكون معكم، شريطة حقنا في إعلان معتقدنا الديني". فقال له جمال: "لكم ذلك".

وبالفعل، شارك الكثير من الدروز في ترتيب عمليات اختراق لقوى التنظيم المتواجدة في جبل العرب، خلال العامين الأخيرين الذين سبقا تحرير دمشق. وعرّض بعضهم نفسه للخطر في سبيل ذلك الهدف. لكن عمليات الاختراق كانت مُتقنة، وعالية الجدوى. ولم يتم كشف أي منها. كان التنظيم يستخف تماماً بمساعي جمال المعلنة، فيما كان يجهل تماماً أي شيء عن مساعيه الخفية التي كانت تجري على قدم وساق.

ويوم تقدمت قوات جمال الدمشقي إلى جبل العرب، تعرض قيادات التنظيم في الجبل لعمليات اغتيال عديدة، واستولت تشكيلات من دروز الجبل على مخازن أسلحة، وقتلت العشرات من مقاتلي التنظيم، الذين سرعان ما فرّوا من الجبل، حالما استشعروا حالة الفوضى والانهيار في صفوف القيادات، التي اختفى معظمها، أو قُتل بشكل غامض.

لم تدخل قوات جمال الدمشقي إلى جبل العرب، واكتفت بالسيطرة على الشريط الحدودي الذي يربط محافظة السويداء بالأردن، حيث كان "داعش" يسيطر على الطرف الأردني من الحدود، حينها. وكان الاتفاق بين جمال الدمشقي ورفيق الأطرش ينص على ترك الإدارة في الجبل ذاتية لأهله، شريطة أن تكون الحدود تحت سيطرة قوات جمال، التي ستصبح جزءاً من القوات الرسمية للدولة السورية.

وبعيد استقرار الأوضاع في دمشق، قام جمال الدمشقي بزيارة إلى السويداء، حيث استُقبل بحفاوة كبيرة، وذبحت الذبائح على طريقه، الذي ساره مترجلاً، في شوارع السويداء، برفقة قياداتها الدينية والتقليدية، التي كان في مقدمتها، رفيق الأطرش.

كان جمال يريد أن يرسل رسالة لأبناء الأقليات في سوريا، أن سوريا الجديدة ستستعيد ملمحها الذي كان سائداً قبل العام 2011، من التسامح والحرية الدينية.

وحضر جمال أول اجتماع لقيادات الجبل الدينية، بعد إعلان عودة المذهب الدرزي، إلى الوجود العلني، في سوريا.

قبيل ذلك، كان جمال قد زار كنائس دمشق العتيدة، والتقى قيادات دينية مسيحية، من القلة المتبقية، داعياً المسيحيين السوريين الموجودين في لبنان، حتى الآن، إلى العودة لسوريا.

***

بعيد غزو "داعش"، لـ دمشق، والسقوط الكامل للدولة السورية، بات الوضع في مناطق سيطرة "الوحدات الكردية"، شمال شرق سوريا، وضع استقلال عملي. وكان "داعش" قد تعلّم من الحملة العسكرية الشعواء التي شنها الغرب عليه في عين العرب، عام 2014، ألا يتوجه صوب مناطق سيطرة الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي كان يحظى بعلاقات مميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية، وكذلك روسيا.

وحينما سقطت دمشق في قبضة "داعش"، كان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المحسوب على حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، يسيطر على مدن الجزيرة وأريافها جميعها تقريباً، باستثناء دير الزور، التي تقدم إليها سريعاً، عقب انهيار نظام الأسد، ليسيطر عليها، ويتوسع في ريفها الجنوبي.

وبخلاف المتوقع، تحالفت العشائر العربية، التي كانت تشكل غالبية ديمغرافية في تلك المنطقة، مع الحكم الكردي المدعوم أمريكياً. فتجربة تلك العشائر كانت مريرة مع فترة حكم "داعش" بين 2014 و2017، لذا، فضلت الغالبية ألا تكررها. وقد حاول الحكم الكردي استمالة تلك العشائر، والوصول إلى علاقات تحالف وطيدة في مناطق تمركزها، بدفعٍ من نصائح الأمريكييين والأوروبيين، بضرورة استمالة المكون العربي في ذلك الكيان الوليد، بفعل الأمر الواقع، في شمال شرق البلاد.

"داعش"، الذي نأى بنفسه تماماً عن مناطق سيطرة الأكراد، بعد أن عجز عن تحقيق اختراقات مُعتبرة في صفوف العشائر العربية، في تلك المنطقة، شن بدلاً من ذلك، حرب عصابات مكثفة ضد تركيا على مدار سنتين، في حزامها الأمني داخل الأراضي السورية. ومع انهيار معظم فصائل المعارضة السورية منذ العام 2021، بقي الجهد الرئيس لحماية منطقة السيطرة التركية في شمال حلب وإدلب وريف اللاذقية، على كاهل الجيش التركي، الذي أُرهق، فكان الاتفاق السرّي، شبه المكشوف، بين تركيا و"داعش"، الذي نص على انسحاب تركيا من تلك المنطقة لصالح "داعش"، شريطة أن تتكفل الأخيرة بأمن الحدود، وتتعهد بعدم تهديد الأمن التركي. ووافقت تركيا في هذا السياق على فتح الحدود أمام تجارة السلع والنفط بين الطرفين.

ومع توقف الجهود الغربية للحرب على "داعش"، تماماً، مع تعهد الأخير، غير العلني، بعدم تدبير أي هجمات إرهابية داخل عمق الأراضي الغربية، أو تهديد أمن الدول الحليفة للغرب في المنطقة، عجز الأكراد عن القيام بأي عمل عسكري فعّال لاستعادة الجغرافيا التي فقدوها في ريف حلب الغربي (عفرين). واستتب الوضع على ما هو عليه، فلا الأكراد حاولوا تغييره لأنهم لم يحصلوا على دعم غربي لتنفيذ ذلك، ولا الدواعش حاولوا التعدي على مناطق سيطرة الأكراد، في رغبة منهم لحفظ استقرار حدودهم الشمالية في الوقت الذي كانت فيه حربهم الشعواء مع إيران، في العراق، وداخل الأراضي الإيرانية، مستعرة، في ذلك الوقت.

لم يعلن أكراد سوريا الاستقلال العلني، وفق اتفاق مع تركيا، كان ناجي الفتيحي، الذي أصبح عام 2039، رئيساً لسوريا، أحد أبرز مهندسيه، قبل أكثر من عقد ونصف من ذلك التاريخ. ونص ذلك الاتفاق على أن تمرر تركيا النفط المُصدّر من مناطق سيطرة الأكراد شمال سوريا، عبر أنابيب مُدت بهذا الغرض، مقابل نسبة منه، كما سمحت لهم بتصدير منتجات الأراضي الخاصعة لسيطرتهم من القمح والقطن، وكذلك من الغاز وثروات باطنية أخرى، عبرها. وسمحت تركيا وفق الاتفاق على فتح الحدود أمام تجارة صادراتها إلى أراضي السيطرة الكردية في الشمال السوري. وكان ناجي الفتيحي أحد أبرز متعهدي هذه التجارة، التي أثرى منها كثيراً، وفي نفس الوقت، حقق من خلالها مكانة مؤثرة لدى مختلف الأطراف، بما فيهم، الطرفين الكردي والتركي، وكذلك لدى قيادات "داعش"، التي هندس لصالحها اتفاقاً مشابهاً إلى حد ما، مع تركيا.

لكن الأكراد كانوا مستقلين عملياً في شمال شرق سوريا. وكانوا هم الحكام الفعليين لتلك المنطقة، رغم غلبة الكفة الديمغرافية للعرب. وشكل الأكراد حكومة زينوها ببعض الوزراء العرب والآشوريين، لكن الحلقة الضيقة لصنع القرار وتنفيذه، كانت في قبضة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي. حتى الأحزاب والقوى الكردية الأخرى، تم تهميشها عن دائرة صنع القرار، ومن قَبِل منها بمقعد وزاري هامشي، حصد مكانة في التحالف مع الحزب الحاكم فعلياً في تلك المنطقة، ومن رفض، تعرض قادته وأتباعه للتنكيل والاعتقال والاختفاء القسري.

فرض حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي حكماً قسرياً على عموم سكان المنطقة الخاضعة لسيطرتهم، والتي كان العرب والآشوريون يشكلون نسبة لا تقل عن 65% منهم، لكنهم كانوا الطرف الأضعف في تركيبة النظام السياسي الذي أدار المنطقة. ولأن العرب والآشوريين هناك خضعوا سريعاً، مدركين مبكراً أن لا قدرة لهم على أي تمرد أو اعتراض، وأن عليهم أن يقبلوا بأي شيء يمنحهم إياه الحاكمون الفعليون من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، مفضلين ذلك على التعاون مع "داعش"، وعودته إلى ديارهم.. لذا، لم يتعرض العرب والآشوريون للكثير من الإساءات، ربما باستثناء، تكريد المناهج والثقافة وحتى أسماء المحلات التجارية وعناوين اللافتات. لكن العرب احتفظوا ببعض المدارس الخاصة بهم، وتمكنوا من إنشاء مؤسسات تعليمية خاصة تعلم أبنائهم العربية. وتعاملت السلطات الكردية بتسامح مع تلك المؤسسات. كما عقدت تحالفات مع قيادات عشائرية عربية، منحت بموجبها إدارة شبه ذاتية لبعض المناطق التي تخلو من الأكراد بصورة شبه كلية.

بالمقابل، لقي الأكراد المناوئون لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الكثير من التنكيل، خاصة أولئك المحسوبون على قوى مقربة من زعامة كردستان العراق، الإقليم الكردي الآخر، الذي لم يعلن استقلاله بصورة رسمية، لكنه حظي قبل نظيره في سوريا، بترتيبات تطبيع مع تركيا. ومع سقوط بغداد في قبضة "داعش"، بات إقليم كردستان العراق، مستقلاً عملياً بصورة كاملة. لكن النخبة الكردية الحاكمة في شمال العراق بقيت على عدائها القديم مع النخبة الكردية الحاكمة في شمال سوريا. وحتى المعبر الضيق الذي يربط بين مناطقهما، شمال العراق وشمال سوريا، كان يتعرض للإغلاق مراراً. وكان متنفس الطرفين الرئيس، هو تركيا، التي أصبحت الرئة التي يتنفس من خلالها الكيانان المذكوران.

وفي الفترة التي تلت العام 2023 تحديداً، بعد أن هدأت جميع الجبهات تماماً بالنسبة لأكراد سوريا، واستقر وضعهم تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وذراعه العسكري "قوات الحماية الكردية"، بدأت ظواهر الفساد في أوساط السلطات الحاكمة، تتفشى، وكثرت الضرائب على السكان. ورغم وفرة الموارد مقارنة بتعداد السكان الصغير، إلا أن ذلك لم ينعكس على حياة السكان، إذ بقيت معدلات التعليم متدنية، ومستويات المعيشة منخفصة جداً. وكان أحد أسباب ذلك، إلى جانب حالات فساد عالية الوتيرة، التمويل الكبير الذي كانت تقدمه قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، لحزب العمال الكردستاني الناشط في تركيا، والذي خفتت وتيرة نشاطه العسكري والأمني، مع تلقيه ضربات قاصمة من الجيش التركي قبل العام 2021، ليعزز نشاطه السياسي والدعائي، بعد ذلك التاريخ.

وقد اكتشف أكراد سوريا، متأخرين، أن زمام أمورهم ليست في أيديهم حقيقةً، بل هي في أيدي قيادات كردية تركية، بعضها يقيم في القامشلي وعامودا وعين العرب، وبعضها، يوجه الأوامر من جنوب تركيا، وبعضها الآخر يوجه الأوامر من جبال قنديل بشمال العراق، الذي بقي معقلاً رئيسياً لحزب العمال الكردستاني، يخضع لإدارة ذاتية من جانب هذا الحزب.

 كان النشاط السياسي والدعائي لحزب العمال الكردستاني داخل الأراضي التركية، يتطلب تمويلاً كبيراً، عبر شبكة اجتماعية ضخمة أنشأها الحزب لاستمالة الجمهور الكردي في تركيا. وكان الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، يدفع بسخاء، وبطاعة مطلقة، في تعبير عملي عن حقيقة أن القوام الرئيس لقيادة الجهاز الأمني والعسكري للحزب، هي تركية في الأصل، وليست سورية.

واتخذ حزب العمال الكردستاني واجهات دعائية وسياسية له، كان حزب الشعوب الديمقراطي أبرزها. وساعد قرار حزب العمال الكردستاني على وقف العمليات القتالية مع الدولة التركية، من جديد، على ارتفاع أسهم حزب الشعوب مرة أخرى، في أوساط الأكراد الأتراك، وفي أوساط فئات تركية أخرى.

في هذه الأثناء، كان أكراد سوريا يستشعرون أكثر فأكثر، أن ثرواتهم ومواردهم ليست لهم، وأنهم تعرضوا لخديعة كبرى، جعلتهم مجرد كونيدور خلفي، اقتصادي وسياسي وأمني، يخدم مصالح نخبة كردية تركية فاعلة، تقود مناطقهم من وراء الستار، لتُصدّر للواجهة قيادات كردية سورية، ليس في يدها شيء، إلا الموافقة والتبرير لقرارات القيادة التركية غير المعلنة.

وفي أوساط المؤسسة العسكرية والأمنية المتضخمة في الكيان الكردي السوري، استشعر أكراد سوريا أكثر فأكثر، أنهم مواطنون درجة ثانية، إذ كان أكراد أتراك يحتلون المناصب الأكثر حساسية، ويترقون بسرعة إلى مواقع أكثر حيوية، ليصبح معظم الضباط والقيادات من صفوفهم، وتصبح معظم الرتب الدنيا من صفوف أكراد سوريا، وبعض الملتحقين بهم من العرب والآشوريين.

وبعيد سنوات من العام 2023، وتحديداً منذ العام 2026، بدأت تتكاثر مجموعات "فيسبوكية"، تعبّر عن استياء أكراد سوريا من سيطرة الأكراد الأتراك على زمام الأمور في منطقتهم، واستغلال مواردهم لصالح قضية أكراد تركيا، بصورة جعلت معيشة أكراد سوريا ضنكة، فهم لا يشعرون بأي فرق عن ذلك الزمن الذي كانوا فيه يعيشون في ظلال سيطرة العرب، ربما باستثناء، إعلاء الثقافة والهوية الكردية، وقدرتهم على التعالي على أقرانهم من العرب المقهورين في مناطقهم. أما في في الجزء العميق من الواقع، كان أكراد سوريا مواطنين درجة ثانية، بعد أكراد تركيا، الذين أصبح تعدادهم يتجاوز المليون في شمال سوريا، وباتوا يمسكون بزمام كل شيء. فيما بات العرب والآشوريون، مواطنون درجة ثالثة، لكنهم كانوا الطرف الأكثر قبولاً بالأمر الواقع، والانصياع له.

ومنذ العام 2027، بدأت حركات تمرد احتجاجية على الأرض، تحصل في مناطق الكيان الكردي السوري، وتستهدف تحديداً، أكراد أتراك. وبدأت النخبة الكردية الحاكمة، بشقيها، التركي المهيمن، والسوري التابع، تدرك أن الأمور تسير نحو مسارٍ غير مطمئن. لكنهم قرروا انتهاج العنف والقسر أداة لفرض السيطرة. فكثرت الاعتقالات، وتفاقمت حالات الاختفاء القسري، والاقتحامات للبيوت في أوقات متأخرة من الليل، بحثاً عن مطلوبين. وبدأت ملامح مواجهة مريرة تتبدى في الأفق بين الأكراد أنفسهم، بين أولئك السوريين منهم، الرافضين للخنوع للأمر الواقع، وبين أولئك الأتراك والسوريين الملتحقين بهم، من الممسكين بزمام الأمور، والرافضين لأي خسارة لمصالحهم ومكاسبهم، التي يعتقدون أنهم حصّلوها بالدم، لذا هي حقهم الطبيعي.

***

ومنذ العام 2028، حصل متغير نوعي، إذ أدار جمال الدمشقي، صفقة لاستثمار ترليون دولار، من صناديق سيادية ومجموعات استثمارية وبنكية عالمية، في مناطق واسعة من جنوب تركيا، وجنوبها الشرقي، وشرقها. وهي المناطق الأقل تنمية فيها. ونصت الصفقة على استثمار ترليون دولار في مجال الاستثمار الزراعي في تلك المنطقة.

صفقة الدمشقي تلك، كانت نسخة عن صفقة نفذها في مصر، وحققت نجاحاً تاريخياً لافتاً. كانت واحدة من سلسلة نجاحاته في تصميم استثمارات دولية بأرقام فلكية، حركت الاقتصاد الدولي، وأنعشت اقتصاديات بعض الدول النامية بصورة هائلة.

صفقة جمال الدمشقي تلك كانت تراهن على رفع الجدوى الاقتصادية من الاستثمار الزراعي، لتكون بمصافي الاستثمارات الخدمية والصناعية، بل وأكثر، وذلك عبر استخدام المنتجات الزراعية في استخدامات صناعية، غذائية، وأخرى، متعلقة بإنتاج الطاقة البديلة. وتلك الأخيرة، كانت جزءاً من سبق علمي واقتصادي هائل، استطاع جمال الدمشقي تحقيقه.

إذ عظّم ذلك السبق العلمي من جدوى استخدام الوقود الحيوي المستخرج من بعض المزروعات، ومن فضلات الحيوانات، مرفقاً برقاقة لاستقبال الطاقة الشمسية وتخزينها، بحيث تتفاعل مع الوقود الحيوي النباتي والحيواني، فتتعزز جدواها، وتصبح قادرة على تسيير المحركات بسرعة تضاهي تلك التي تحركها بها المنتجات البترولية.

عظّم ذلك السبق من أرباح جمال الدمشقي، ومن مكانته الدولية. وعبره، بات التحول إلى الطاقة البديلة، بشكل شبه كامل، أقرب من أي وقت مضى. وبات المصدر الزراعي والحيواني للوقود الحيوي، موضع أهمية استراتيجية ونوعية. وعلى أساسه، عقد جمال الدمشقي صفقة أولى، بترليون دولار، لاستثمار مساحات هائلة في مصر، لاستخدام أكثر من نصف منتجاتها، في مصانع للوقود الحيوي. وكرر جمال الصفقة في تركيا. فتحولت مناطق التمركز الكردي في جنوب شرق تركيا إلى مناطق استثمار عالية الجدوى، بعد أن كانت من أقل المناطق التركية جذباً للاستثمارات والتنمية. وبفعل ذلك، تعاظم رغبة عموم أكراد تركيا بالبقاء في ظلال تركيا الموحدة، ما دام الاتفاق المعقود، تم بين الحكومة الرسمية في أنقرة، وبين كلٍ من البنك السويسري - البريطاني وجمال الدمشقي، الذين أدارا الصفقة.

وتعظمت قيمة الهدوء والاستقرار لدى عموم أكراد تركيا، فاضطرت النخبة الكردية المحسوبة على حزب العمال الكردستاني إلى مراعاة الرأي العام الغالب، والذهاب بعيداً باتجاه علاقات أكثر استقراراً وتفاهماً مع الحكومة المركزية في أنقرة.

ومع تقدم عمليات الاستثمار جنوب شرق البلاد، وارتفاع مستويات معيشة السكان، قّلت الحاجة لموارد تمويل كبيرة لإدارة النشاطات الدعائية والسياسية لحزب العمال الكردستاني، الذي كان يراهن على تمويل شبكات اجتماعية كبيرة لجذب الأكراد لصالحه. فتراجع تأثير تلك الشبكات، وتردت جدواها، وخفّض العمال الكردستاني التمويل لها، فقلّت النسبة المقتطعة من ميزانية الكيان الكردي السوري، لصالح حزب العمال الكردستاني في تركيا.

في هذه الأثناء، تراجعت القيمة الاستراتيجية للنفط والغاز، لدى تركيا، التي تلقت مصادر الطاقة بكميات كبيرة، وبأسعار رخيصة، من كل حدب وصوب. فمرت عبرها معظم أنابيب تصدير النفط والغاز الروسي، وحصلت من ذلك على نسب عالية. كما باتت تحصّل نسبة كبيرة من حاجتها للطاقة من الطاقة البديلة، بموجب الاستثمار الزراعي والصناعي الملحق به، المتأتي في جنوبها وشرقها.

بمعنى آخر، لم تعد تركيا تراهن كثيراً على النفط والغاز القادم من مناطق سيطرة الأكراد في شمال العراق وسوريا، وباتت حاجة الأكراد هناك، لتركيا، أكبر من حاجة تركيا لنفطهم. ومع بقاء تركيا الرئة الوحيدة لتنفس هذين الإقليمين الكرديين، وسط محيط معادٍ لهم جنوباً، تحت سيطرة "داعش"، وشرقاً، حيث إيران. لم يكن لدى الكيانين الكرديين، شمال العراق وسوريا، إلا رضا تركيا، وسيلة للبقاء والاستمرار بالمعنى الاقتصادي اللوجستي.

لذا، حينما اقتحمت قوات جمال الدمشقي دمشق، وحررتها من ربقة "داعش"، لتسيطر لاحقاً على معظم التراب السوري، باستثناء مناطق سيطرة الأكراد والعلويين. تعرّض الكيان الكردي شمال سوريا لهزة كبرى، إذ أغلقت تركيا الحدود معه، وطلبت منه التفاهم مع جمال الدمشقي، نحو مستقبل موحد لكامل التراب السوري.

لم تكن تركيا مستعدة للتخلي عن علاقاتها المميزة جداً مع جمال الدمشقي، والتي درت عليها استثمارات ونشاطات اقتصادية تتجاوز قيمتها المالية الـ 2 ترليون دولار حتى ذلك الحين، مقابل رهان متهالك على النفط والغاز القادم من شمال سوريا.

ومع عجز حزب العمال الكردستاني، جنوب تركيا، عن القيام بأي نشاط عسكري أو أمني، يقض مضجع الدولة التركية، كوسيلة ضغط، لإنقاذ حلفائه المقربين، شمال سوريا، لأن ذلك يعني انفضاض الجمهور الكردي نفسه عنه، والذي بات غير مستعد لأي تنغيص للاستقرار الذي تنعم به منطقته في جنوب تركيا، بعد ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي فيها إلى مستويات غير مسبوقة.. باتت النخبة الكردية في شمال سوريا، محشورة في زاوية ضيقة، وتفاقمت الضغوط عليها، وبدل من أن تتلقى الدعم من الأب التقليدي لها، الذي تتحدر منه فعلياً، وهو حزب العمال الكردستاني، عرض عليها الأخير الوساطة بينها وبين جمال الدمشقي، فيما قال الأخير كلمته، سوريا ستعود موحدة، والظلم الذي حاق بالعرب في مناطق السيطرة الكردية، سينتهي، والحواجز الفاصلة بين مناطق السوريين، جميعها، ستزول، إن لم يكن بالإقناع والمصلحة المشتركة، فسيكون ذلك بالقوة.

لكن الإقناع والمصلحة المشتركة كانت فعّالة جداً. فالنخبة الكردية في شمال سوريا، التي تعودت على رفاهية العيش بعد أن أصبحت تحكم كياناً غنياً بالموارد، قليلاً بالسكان، لم تكن مستعدة للعودة إلى عهود الحرب والقتال، والفرار للاحتماء بالجبال في شمال العراق، والتعرض لقصف الطائرات التركية، أو الحملات العسكرية للعرب بقيادة جمال الدمشقي، الذين استطاعوا في ثلاثة أشهر، إنهاء أسطورة "داعش" في عموم سوريا. ومع عرض جمال الدمشقي، أن تكون تلك النخبة جزءاً من قيادة سوريا الموحدة، شريطة أن تكون تحت قيادته، وأن تتولى إدارة مناطق الأكراد، بتوجيهاته، ومع نصيحة حزب العمال الكردستاني لحلفائه بالقبول، لأن الخيارات الأخرى مريرة.. تم الاتفاق. وخلال بضعة أشهر، أزيلت الحواجز، ودخل جمال الدمشقي في موكب مهيب إلى مناطق سيطرة الأكراد، ليزور عين العرب والقامشلي وعامودا والحسكة، حيث استُقبل بحفاوة، تُخفي مراراة المستقبلين، فيما كان عموم العرب في الشارع أكبر المبتهجين، حيث أزالوا اليافطات الكردية عن محلاتهم، ليعلقوا يافطات عربية، ورفعوا رؤوسهم عالياً، وهتفوا بنشوة كبرى، وهم يرون زعيماً عربياً يعيد لهم شيئاً من كرامتهم المهدورة قرابة عقدين من الزمان.

كانت الترتيبات مع النخبة الكردية سريعة، وكانت استجابتهم دقيقة، إذ تم إعادة المنهاج العربي للمدارس، مع وضع منهاج بالكردية للطلبة الأكراد. وتم وضع يافطات عربية إلى جوار الكردية في الدوائر الرسمية، التي باتت تستخدم اللغتين في تعاملاتها. وحصل جمال على وعود من النخبة الكردية، بأن التعامل مع العرب تحديداً، في تلك المنطقة، سيصبح على قدم المساواة، مع الأكراد. في المقابل، وعدهم جمال، إن التزموا بوعودهم، أن يكونوا جزءاً من قيادة مستقبل سوريا، الذي سيشهد نهوضاً اقتصادياً ومعيشياً، هائلاً، خلال بضع سنوات من الآن.

وبذلك، عاد شمال سوريا إلى حضن القيادة المركزية بدمشق، مع إدارة ذاتية محدودة الصلاحيات. كذلك، كانت السويداء، تحظى بإدارة ذاتية محدودة الصلاحيات، مع الإقرار بالتبعية المطلقة، للقيادة المركزية في دمشق.

***

كانت لدى العامة من العلويين في سوريا، يوم اندلاع ثورة العام 2011، قناعة أنهم إن انحنوا لهذه الثورة، فإنهم سيفقدون كل المكاسب التي كسبوها، بغير حق، في عهد الأسدين، الأب والابن.

لاحقاً، ومع تفاقم دور العلويين في التنكيل بالغالبية السُنية، أثناء الحرب، تفاقمت قناعتهم بأن الثورة إن انتصرت، فإن السُنة سيُنكلون بهم، وسينتقمون لكل الجرائم التي ارتُكبت بحقهم، خلال الثمانينات، وبعيد ثورة العام 2011.

لذلك، رغم طول سنوات الاقتتال بعد العام 2011، وتفاقم أعداد القتلى من شباب العلويين، لم يفكر معظم أبناء الطائفة بالانفكاك عن نظام الأسد، بصورة جدّية. كما لم يفكروا بأي محاولة لمد خيوط المصالحة مع السُنة، على حساب ولائهم للنخبة العلوية التي كانت تديرهم، وعلى رأسها، آل الأسد والعائلات القليلة المتحالفة معه.

وبعيد سقوط دمشق في قبضة "داعش"، واجتياح التنظيم لمدينة حمص وجزء من ريفها الغربي، فرّ أكثر من 400 ألف علوي إلى لبنان، قادمين من دمشق وحمص، فيما فرّ مئات الآلاف الآخرين منهم، إلى مناطق التمركز العلوي في جبال الساحل.

وبعيد انهيار نظام الأسد، ومقتل أو اختفاء معظم قيادات الصف الأول في الجيش والأجهزة الأمنية، في دمشق. فقدَ العلويون قيادتهم، واكتشفوا خلال السنوات التالية لذلك التاريخ، أن الخطر الأكبر عليهم، يكمن في أوساطهم ذاتها.

حاول عدد من قيادات العلويين، الذين كانوا مقربين من رأس السلطة في عهد الأسدين، القبض على زمام السيطرة على الطائفة. منهم مقربون من سهيل الحسن المعروف بالنمر، أحد أشرس قادة الأسد في الحرب التي تلت العام 2011. كذلك حاول آل جابر، الذي قاد بعضهم ميليشيا صقور الصحراء، قبل العام 2021. كذلك حاول أولاد أعمام بشار الأسد، سواء أولاد رفعت، أو أولاد جميل الأسد، أو أولاد عم حافظ الأسد، التحرك لانتزاع سدة الزعامة في الطائفة. ودخل السباق آخرون أيضاً، منهم زعامات دينية، وعائلات تقليدية وازنة في الجبل، منهم آل الخيّر.

ولأن "داعش" توقف عند حدود التمركز العلوي في جبال الساحل، وغرب حماه وحمص، ولم يتقدم إلى تلك المناطق لاحقاً. انتفى التهديد الخارجي للعلويين، فانكشف الغطاء عن تناقضاتهم، وتفاقمت صراعاتهم، وتحولت إلى اقتتال داخلي.

لم يكن تنظيم "الدولة الإسلامية – داعش"، مستعداً للخوض في حرب شعواء، في بيئة اجتماعية غير سُنية، بصورة تثير رعب العالم على مصير الأقليات. كان الدواعش يدركون أن تمددهم في المناطق ذات الغالبية السُنية، لن يثير غضب العالم الغربي، بقدر تمددهم في مناطق ذات غالبية من أبناء الأقليات، بما فيها العلويون.

ولأن الروس أرادوا الحفاظ على موطئ قدم لهم، على الساحل السوري، في المياه الدافئة، وقرب منابع محتملة للغاز في البحر، تصارع قادة العلويين المتنازعين على خطب ودّهم، في ظل تواجدهم الميداني في قاعدة برية وجوية في حميميم قرب اللاذقية، وأخرى بحرية في طرطوس.

وحاول الروس التوسط بين القيادات العلوية لوقف الصراع بينهم، لكن رغم ذلك، خلال السنوات التي تلت العام 2022 تحديداً، شهدت مدن اللاذقية وطرطوس، وكذلك، بلدات الجبل، صراعاً دموياً شرساً بين مختلف القوى العلوية المتنازعة.

وغاب أي تأثير للإيرانيين على العلويين، بعيد سقوط دمشق. فالعلويون كانوا واثقين، في جُلّهم، أن إيران هي من فتحت الباب لـ "داعش"، كي يدخل دمشق، ويفتك بالصف الأول من قياداتهم، العسكرية والأمنية. لذا، اتخذ العلويون موقفاً سلبياً من الإيرانيين. ولم يكن الإيرانيون بدورهم، راغبين في لعب أي دور، في كانتون الساحل العلوي، الذي رأوا فيه عبئاً أكثر مما فيه فائدة لهم. إذ لم تكن هناك مقومات اقتصادية تؤمن لذلك الكانتون الاستقرار ومقومات الازدهار، ناهيك عن أن الإيرانيين، بعد مقتل نخبة العلويين في دمشق، ضحوا فعلياً بالجهة التي كانت تشكل رأس الهرم في تحالفهم مع العلويين. وكانت الطائفة العلوية، بقياداتها الجديدة، وبعامتها، أميل للتحالف والتعاون مع الروس، من التعاون مع الإيرانيين. فالروس أقرب للمزاج العلوي المتحرر من أي قيود وضوابط دينية، مقارنة بالتزمت الديني الذي تتسم به الثقافة الشيعية الإيرانية، وفق منظور عموم العلويين.

ومع غياب أي قوة قادرة على ضبط الساحل والجبل، تفتقت النزاعات بين العلويين، على أسس مذهبية، بين المرشدية وبقية العلويين، وعلى أسس مناطقية، بين سكان السهل، وسكان الجبل، وعلى أسس عشائرية، وكذلك، على أسس عائلية تقليدية.

وفي المرحلة الأولى من الاقتتال الشرس بين العلويين، حصل تحالف عريض بين قوى مختلفة منهم، تجمعت حول هدف القضاء على من بقي من آل الأسد. وكشف الكثير من العلويين عن حنق كبير على آل الأسد، لأسباب عديدة، منها، تجاوزاتهم وتعدياتهم الكثيرة على أقرانهم من العلويين، في حقبة الأسدين، بفعل قرابتهم من رأس السلطة، ومنها أيضاً، تحميل كثير من العلويين آل الأسد، مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم من خسارة بشرية جسيمة، ومن خسارة لعموم الدولة السورية، والانحسار في شريط ساحلي، ومرتفعات جبلية، وسهل غير آمن مطل على الداخل السوري، حيث فقدوا كل نفوذهم.

بعيد انهيار نظام الأسد بسنة واحدة فقط، بدأت نقاشات العلويين، من الطبقة المثقفة، تتبدى على وسائل التواصل الاجتماعي، وتناقش ما آل إليه واقع العلويين. وبدأ الكثير منهم يكسر التابو التاريخي، لوحدة الصف خلف آل الأسد، ليعلنوا ندمهم، محملين هذه العائلة مسؤولية جرّ الطائفة العلوية إلى أكبر مقتلة في تاريخها، وأكبر قطيعة قد تحدث لها، مع عمقها السُني.

كانت الأرقام تشير حينها إلى مقتل أكثر من 250 ألف علوي، أي 10% من العلويين حينها. وكانت تلك الخسارة البشرية من شريحة الشباب، مما كان يعني أن 40% من الشباب في الطائفة العلوية، قُتلوا.

وبعيد انهيار النظام في دمشق، وقف العلويون بذهول أمام تلك الحقيقة. حقيقة أن آل الأسد جروهم إلى أكبر مقتلة لهم في تاريخهم الحديث. وأقرّ بعض مثقفيهم، أن خسارة العلويين بسبب انجرارهم خلف آل الأسد، كانت أكبر من تلك التي مُني بها أجدادهم في أعقاب الفتوى الشهيرة المنسوبة لابن تيمية، بتكفيرهم، قبل سبعة قرون، حسب المرويات الشعبية في أوساطهم.

لكن الوقوف على تلك الخسائر البشرية الهائلة، لم يجعل العلويين يهدأون، على العكس من ذلك، اقتتل العلويون من أجل التنازع على السيطرة، وكانت قيادات الميليشيات والنخب، المقربين سابقاً من آل الأسد، عماد ذلك الاقتتال. ومن العوامل التي غذت ذلك الاقتتال، الرغبة في الانتقام من آل الأسد، والعائلات المتحالفة معهم، لأنهم جروا العلويين إلى ما انجروا إليه.

وخلال العام 2023، تهاوى آل الأسد في الساحل، وتعرضوا لمقتلة عظيمة في أطراف القرداحة. كان من بين من ذُبح على أيدي العلويين أنفسهم، أولاد رفعت الأسد، الذين عادوا إلى الساحل، بعيد انهيار النظام في دمشق، في رهان منهم على السيطرة. فانخرطوا في الصراع، وكانت نهايتهم كارثية.

 وبعيد ذلك بأشهر قليلة أخرى، حصلت سلسلة تفجيرات واغتيالات غامضة، فتكت بجميع قادة الميليشيات المتحدرين من عهد نظام الأسد، واحداً، تلو الآخر. فازدادت الطين بلّة، ولم تبق رؤوس قادرة على ضبط المشهد العلوي، واختلط الحابل بالنابل، وكثُر القتل، ويأس الروس من وقفه.

وبعد ثلاث سنوات من الاقتتال الأهلي، العلوي – العلوي، توقف القتال، بعد أن ترسخت مناطق سيطرة ميليشيات مختلفة، لم يكن أي منها من ذلك العصر، عصر "آل الأسد" البائد. إذ ظهرت قيادات جديدة، وعائلات أخرى تصدرت المشهد، وبقي لبعض العائلات التقليدية مكانتها، من بينهم آل الخيّر في القرداحة. لكن عموم العلويين كانوا حينها في حالة مأساوية، كانوا يفتقدون للمحروقات التي انقطعت عنهم تماماً، ولم تعد هناك أي مؤسسة رسمية، تتبع للدولة، تعمل لديهم، فكان المشهد المعيشي، متردٍ للغاية، وشاع بين العلويين، لعن الأسد، حتى بات سُنة بينهم.

وقد تكبد العلويون خسائر بشرية جسيمة جراء الاقتتال الداخلي فيما بينهم، خلال ثلاث سنوات، قاربت تلك التي تكبدوها خلال عشر سنوات من القتال ضد الغالبية السُنية، قبل العام 2021. استيقظ العلويون، عام 2026، على واقع مهول، فغلب عليهم النسوة والكهول، وسادت ندرة الشباب، حتى بات كل شاب يقابل 4 نساء على الأقل.

***
 
كان الروس قد اكتشفوا أن الاحتياطيات من النفط والغاز، المُتاح استخراجها من البحر، قرب الشواطئ السورية، لا تتمتع بالجدوى الاقتصادية، بسبب استمرار تدني سعر المنتجات البترولية، وبسبب تزايد حالات الاعتماد على الطاقة البديلة، وتقدم سبلها. وفي عام 2026، مع ثبوت جدوى السبق العلمي الذي أعلنته شركة تتبع لمجموعة "الدمشقي" القابضة، في استخدام الوقود الحيوي المرفق برقاقة طاقة شمسية، في تحريك المحركات بسرعات ممتازة، أعلن الروس وقف كل نشاطات البحث واستخراج النفط والغاز من البحر قرب الشواطئ السورية، وغادرت شركاتهم المنطقة.

وفي قطاع السياحة، عجز الروس عن استثمار الساحل السوري، رغم اعتدال طقسه، وشمسه الممتازة في الصيف، التي يمكن أن تجذب السياح الروس إليها، بدلاً من الذهاب إلى تركيا ومصر. لكن اقتتال العلويين، والأوضاع الأمنية غير المستقرة، جعلت من المستحيل تحقيق جذب ذي جدوى اقتصادية، للسياح الروس، إلى شواطئ الساحل السوري. فغادرت آخر الشركات السياحية الروسية المنطقة، منذ العام 2025.

وتعرّض التجار السُنة من الحلبيين، ومن باقي مناطق الداخل السوري، الذين استوطنوا في الساحل السوري خلال الحرب التي تلت العام 2011، للكثير من الابتزاز والسلب شبه العلني، من الميليشيات العلوية المتعددة، حيث شاعت الفوضى في مدن وبلدات الساحل، وغادر الكثير من السُنة، باتجاه تركيا، أو إلى مصر، أو بلدان أخرى. وبقي الأقل حظاً منهم يشاركون أقرانهم من عامة العلويين، ظروفاً معيشية سيئة للغاية.

***

في مطلع العام 2032، وبعيد سيطرة جمال الدمشقي على معظم التراب السوري، والاتفاق الشهير الذي عقده مع النخبة الكردية في شمال شرق سوريا. أرسل جمال، ناجي الفتيحي إلى موسكو، للتفاوض مع الروس بخصوص استعادة الساحل السوري.

لم يكن الروس معارضين من حيث المبدأ، لكنهم كانوا يريدون الثمن، فلفت لهم جمال، عبر قناة ناجي الفتيحي، أن سيكون لهم نصيب من استثمارات إعادة إعمار سوريا، شريطة أن تُوكل السيادة العسكرية والسياسية الكاملة في الساحل، لحكومة دمشق.

لم يكتفِ الروس، فعرض عليهم جمال أن يرتب لصفقة كبرى لاستثمار مساحات زراعية واسعة في مناطق من روسيا، لصالح مشروع لصناعة الطاقة البديلة، بتمويل من صناديق سيادية دولية وإقليمية، كالمشروعين الذين أدارهما في مصر وتركيا. لكنه اشترط في المقابل إخلاء القاعدتين الروسيتين، البرية والبحرية، في الساحل.

رحب الروس، لكنهم اشترطوا الإبقاء على قاعدة طرطوس البحرية، مع التعهد بعدم استخدامها إلا في عمليات صيانة وتزويد السفن الروسية بالوقود، فقَبِل جمال.

وباشر الروس في تنفيذ الجانب المطلوب منهم، فضغطوا على قيادات الميليشيات المتعددة في الساحل، وأعلموهم أنهم قد يشاركون جوياً في أي حملة عسكرية لـ جمال الدمشقي ضدهم.

وبدأ جمال يتواصل مع القيادات الدينية والتقليدية للعلويين، عبر وسطاء من علويي تركيا، الذين نصحوا أقرانهم في الساحل بضرورة الانخراط في دولة سوريا الجديدة.

اشترط قيادات الميليشيات العلوية أن يحظوا بإدارة ذاتية لكيان علوي في الساحل، في صيغة مماثلة لتلك التي حصل عليها الأكراد والدروز. لكن جمال الدمشقي رفض ذلك، وأصر على حل جميع الميليشيات، مقابل الإبقاء على ثروات زعاماتها، وإلحاق عناصرها بمشاريع استثمارية في الساحل، تؤمن لهم فرص عمل، تقيهم الحاجة. رفض جمال الدمشقي بشكل مُطلق أي انخراط للعلويين في تكوين الجيش والجهاز الأمني، للدولة السورية، كما رفض أي مظهر من مظاهر الحكم الذاتي للعلويين في الساحل. لكنه تعهد بعدم فرض أي قوانين ذات طابع إسلامي، بصورة قسرية، على الساحل السوري. سوى ذلك، لم يكن جمال مستعداً لتقديم أي تنازلات. فرفضت قيادات الميليشيات العلوية الانصياع.

وفي مطلع صيف العام 2032، شنت قوات جمال الدمشقي حملة عسكرية، تمت مؤازرتها بالطيران الروسي، في صفقة تعهد فيها جمال بدفع تكاليف كل العمليات العسكرية، مضافاً إليها حيز من الأرباح، إضافة إلى تحمله تكاليف ترحيل قاعدة حميميم البرية – الجوية، الروسية، بعد انتهاء العمليات العسكرية فيها.

ودخلت قوات جمال الدمشقي الساحل، من بوابتي إدلب، وغرب حمص. وفي الشمال، اجتاحت قوات جمال بسهولة وسرعة عالية مناطق السيطرة العلوية وصولاً إلى الساحل قرب كسب، ومن ثم تقدمت لتسيطر على جبلي الأكراد والتركمان، وتصل إلى تخوم جبلة، على الساحل، وإلى تخوم صلنفة والقرداحة، في الجبل.

أما غرب حمص، فاجتاحت قوات جمال سريعاً، المنطقة، وسيطرت على منطقة تلكلخ، وتوغلت غربها باتجاه مدينة طرطوس.

تم كل ذلك، بمؤازرة من الطيران الروسي، فتقهقرت ميليشيات العلويين سريعاً.

وخلال شهر فقط، دخلت قوات جمال مدن، جبلة واللاذقية وبانياس وطرطوس، ومن ثم تقدمت نحو الجبل لتقتحم بلداته، بلدة تلو أخرى. وخلال أقل من ثلاثة أشهر، كان الساحل بأكمله مديناً لسيطرة قوات جمال، واستسلم معظم قادة الميليشيات العلوية، فيما فر القليل منهم إلى شمال لبنان، ليلتجئ لدى أقرانهم في طرابلس.

عاش عامة العلويين رعباً مهولاً، حينما كانت قوات جمال الدمشقي تتقدم لتدخل بلدة تلو الأخرى، في جبلهم. كانوا يتوقعون مذابح وإعدامات جماعية، لكنهم فُوجئوا بتعاملٍ تسوده الرحمة والمودة، من جانب مقاتلي جيش جمال. كان جمال قد درب عدة ألوية عسكرية خلال الأشهر السابقة لعملية اقتحام الساحل، لتنفيذ تلك العملية. وكانت التعليمات صارمة بعدم التورط بأي أعمال منافية لأخلاق الإسلام في الحرب. التقى جمال بجمهور الألوية المخصصة لمعركة الساحل، قبل بدئها بعدة أيام، في ساحة بلدةٍ شمال غرب حمص، وتوجه إليهم بخطابٍ حاسم، قال لهم فيه: "أنتم الأمل في أن نُحيي لُحمة السوريين من جديد، وأنتم الأمل في أن نمحي تلك القناعات عن رغبة السُنة بالانتقام والذبح، أنتم الأمل الذي إن تحقق، تحقق للسوريين وحدة التراب، من جديد.. أنتم الأمل في كل ذلك، ووقفٌ عليكم مصير هذا البلد، والعلاقة بين أبنائه".

وتوالى على المنبر خطباء، من علماء الدين الإسلامي، يحذّرون المقاتلين، "لا تقتلوا طفلاً، لا تقتلوا شيخاً، لا تقتلوا امرأة، لا تقتلوا من يُلقي السلاح، لا تقطعوا شجرة، ولا تهدموا بيتاً.. أنتم من سيُعرّف الإسلام الحقيقي إلى أولئك الذين يتوقعون الأهوال في الساحل. وعلى كواهلكم يقع عبء تقديم هذا الدين بصورته الصحيحة".

بعد اقتحام عدة بلدات في الجبل، وتوالي الأنباء عن التعامل السمح للمقاتلين، فتحت بلدات عديدة أبوابها للمقاتلين بلا قتال، ورمت النسوة في بلدات علوية عدة، الورود والأرز على مواكب المقاتلين أثناء دخول بلداتهم. كان مشهداً مفاجئاً للكثيرين، إذ اندحر رافضو الاندماج بدولة سوريا الجديدة، سريعاً، وتصدر المشهد قيادات وزعامات أعلنت ولائها لعلم الثورة، والتبرؤ مما سبق، والرغبة في الالتحاق بالركب السوري الذي انطلق من جديد.

واجتمع جمال، قرب اللاذقية، بقيادات الجبل، الدينية والتقليدية، وتناقشوا في مصير الجبل، وحسم جمال الأمر، بأن لا إدارة ذاتية للجبل، وأن عليهم الخضوع للحكم المباشر من دمشق، مع مراعاة خصوصية المجتمع العلوي. فوافقوا مُجبرين، وفي دواخلهم يتردد صدى مقولة شاعت بينهم حينما انتهى الأمر، "الحمدلله اللي خلصت عند هون".

وفي مطلع العام 2033، عادت سوريا موحدة من جديد، وأتم الروس انسحابهم من ساحلها، باستثناء القاعدة البحرية في طرطوس. وارتفع علم الثورة، علم سوريا قبل حكم البعث، عالياً في كامل التراب السوري.

***

في ربيع العام 2033، التم شمل ما أُطلق عليه حينها بـ "المؤتمر السوري التأسيسي"، الذي ضم قيادات ونخب سورية، معظمها مقرّب من جمال الدمشقي، إلى جانب نخب قليلة أخرى، معارضة له، مضافاً إليها، نخب كردية وعلوية ودرزية ومسيحية.

واتفق المؤتمرون، بعد سبعة أيام من النقاشات، التي سبقتها الكثير من المفاوضات السرّية، والضغوط والإغراءات، من جانب التكتل السياسي لـ جمال الدمشقي، على وثيقة دستورية مؤقتة، تقرّ وحدة التراب السوري، وتوافق على علم الثورة، علم سوريا قبل البعث، كعلم للبلاد، وتقرّ الإدارة الذاتية في مناطق الأكراد والدروز، بصلاحيات محدودة.

واتفق المجتمعون على انتخاب رئيس مؤقت للجمهورية، وحكومة مؤقتة من التكنوقراط، تدير فترة انتقالية، تستهدف إعادة بناء مؤسسات الدولة السورية، وإعادة إعمار البلاد، خلال خمس سنوات، حتى العام 2038، حيث سيتم الاستفتاء على دستور جديد للبلاد، وانتخاب سلطة تشريعية، وسلطة تنفيذية، في انتخابات حرة ونزيهة، وفق المعايير العالمية.

وحسب الوثيقة الدستورية المؤقتة، التي ستُنظّم الحكم في سوريا خلال السنوات الخمس التالية، كان النظام نيابياً، حيث كانت الصلاحيات التنفيذية الرئيسية في قبضة الحكومة، التي كان يغلب عليها كفاءات محسوبة على تكتل جمال السياسي. فيما كان رئيس الجمهورية المُتفق عليه، صاحب صلاحيات محدودة أقرب إلى الرمزية. واختير الرئيس من الشخصيات المحايدة التي تحظى بقبول مختلف القوى السياسية السورية الفاعلة حينها.

وكُلّف "المؤتمر السوري التأسيسي" بالاتفاق خلال ثلاث سنوات، على قانون للأحزاب، وآخر للانتخاب، وثالث للإعلام، تمهيداً لإطلاق الحياة السياسية الحرة الديمقراطية في البلاد، بعد أربع سنوات من العام 2033.

يومها، قدّر مجموعة من الخبراء التكنوقراط، تكاليف إعادة إعمار سوريا، بما لا يقل عن ترليون دولار، تعهد جمال بدفعها كاملة، بمعدل 200 مليار دولار سنوياً، دون أي مقابل، حسب ما أعلن حينها.

ومنذ اللحظات الأولى لبدء عمل حكومة دمشق الجديدة، في نيسان عام 2033، نشطت الحياة في سوريا، وبدأت رويداً رويداً، تستعيد ملامحها السابقة على العام 2011.

***

يتبع في الفصل الثالث عشر..

مواد ذات صلة:

نفق الصناعات السرّية قرب تدمر.. (الفصل الحادي عشر من "الترليونير السوري")



لقاء المحفل السرّي في بلودان.. (الفصل التاسع من "الترليونير السوري")

حوار مع مرجعية جهادية.. (الفصل الثامن من "الترليونير السوري")

وصولاً إلى الدرك الأسفل، قبل رحلة الصعود.. (الفصل السابع من "الترليونير السوري")

امبراطورية اتصالات كبرى، سرّية.. (الفصل السادس من "الترليونير السوري")

بداية مشوار أسطورة المال والأعمال – (الفصل الخامس من "الترليونير السوري")

سقوط دمشق – (الفصل الرابع من "الترليونير السوري")

عائلة جمال الدمشقي - (الفصل الثالث من "الترليونير السوري")

اللقاء مع اليهودي الأمريكي – (الفصل الثاني من "الترليونير السوري")

من شرفة القصر بالمالكي – (الفصل الأول من "الترليونير السوري")

ترك تعليق

التعليق