في حجرة الصلاة قبل الحرب.. (الفصل الخامس عشر من "الترليونير السوري")
- بواسطة إياد الجعفري - خاص - اقتصاد --
- 14 كانون الأول 2018 --
- 0 تعليقات
اختلى بنفسه، في إحدى خلواته المحببة، والمؤثرة للغاية في مساره النفسي، والسلوكي. في حجرة الصلاة المخصصة للتعبّد، في قصره، والتي يُحرّم على أحد دخولها، حالما يُغلق جمال الدمشقي أبوابها، على نفسه.. وبعد منتصف ليل الثالث من حزيران عام 2040، نفّذ الرجل الفائض بالعقلانية، طقسه التعبّدي المُعتاد، كلما كان هناك أمرٌ جللٌ، يُقبل عليه.
كانت قناعات متضاربة تتقاذف نفسه اللوّامة، ولم يكن مطمئناً تماماً لصوابية منهجه في الحياة. فهو بالفعل، مُسرف. هكذا يقول في نفسه أحياناً، ويشعر أنها نقطة ضعفه الدنيوية الكبرى. فهو يملك الإرادة على تجنب الأضواء، ولا تستهويه الشهرة، ولم يكن كرسي الحكم، يوماً، غايته. ومنذ التزامه الزوجي مع إيمان، لم يضعف أمام أي نزوات شهوانية تجاه الجنس الآخر، باستنثاء علاقته المُشبعة له، مع زوجته، والتي يتفنن معها، في تنفيذها، من حين لآخر، ليُخرجانها من الرتابة الزوجية، ويجعلانها مثيرة لهما بالفعل، ومُشبعة.
كانت نقطة ضعفه الوحيدة، عشقه للمال، وهوسه بالعقارات، وبرفاهية الحياة الرغيدة. ولو خُيّرت نفسه بين حكم بلد، وبين الانزواء في قصر رغيد، في ريف أوروبي يزخر بجمال الطبيعة الآخاذ، وكان هواه هو الحَكَم، لاختار الأمر الثاني. لكن، حينما يُحكم عقله، قبضته، على أهواء نفسه، تخضع الأخيرة لحكم العقل، ومفاده، أن يكون لشخص جمال الدمشقي، مشروع قيّم، يقدّم من خلاله شيئاً، للبشرية عموماً، ولأمته، وبلده، سوريا، خصوصاً. لا يبغي في ذلك تخليد ذكره، بقدر ما يبغي أن يحظى برحمة الله حينما يقف بين يديه، يوم الحساب، ليسأله، ماذا فعلت بالأمانة الثقيلة التي ألقيتها إليك؟، فيقول له، انتشلت بلدي وأمتي من الحضيض، ووضعتهما على سكة النهوض، وجعلتهما منارة لشعوب الأرض الأخرى، يكون الإسلام السراج الوهّاج فيها.
حينما يكون في حالة من الانتشاء والرضا عن الذات، يجادل نفسه اللوّامة، فيقول لها، إن امتلاك رجلٍ، تُقدّر ثروته بأكثر من ترليون دولار، وأنفق أكثر من ترليون ونصف دولار لخدمة أمته.. امتلاك هكذا رجل لبضعة قصور حول العالم، وحياته الرغيدة فيها، ليس إسرافاً. فالإسراف معياري، يعتمد على الموازنة بين ما يملكه الشخص، وما ينفقه. لكن الحملات الإعلامية التي تضرب على هذا الوتر من حين لآخر، ونصائح بعض الشيوخ ورجال الدين، سرّاً، له، بالحدّ من إسرافه، وهوسه بالعقارات والمزارع، والأثاث الفاخر، والحدائق الغنّاء،.. كل ذلك، يجعله يضعف، ويتعالى صوت نفسه اللوّامة، حتى يكاد يصبح "ولولة"، في بعض الأحيان، تقض مضجعه، وتجعله في خشية من غضب الله عليه.. غضب قد ينال منه في الدنيا، قبل الآخرة، وذلك كابوس آخر يقض مضجعه.
فقبل صعوده السريع إلى هذه القمة من النجاح والثراء، لم يكن يأبه كثيراً لما يمكن أن يُسلب منه من مكاسب الدنيا. لكن بعد أن عاش عقدين من الزمن، حياة فريدة غير مسبوقة من الثراء، ومسيرة متسارعة نحو النجاح، باتت خسارة كل ذلك، تُؤرقه.
وفي الأسابيع الأخيرة، وبعد تلقيه التهديدات الإسرائيلية العديدة باستهدافه، وبعد أن كابد بنجاح حالة الرعب التي استولت عليه، في بداية الأمر، وجد جمال أن في هذه التجربة فرصة قد يثبت من خلالها، مرة أخرى، لله عز وجل، أنه جدير بما خصّه به من ثروة ونجاح.
كان جمال يثق بمقدراته، وحنكته، ومواهبه العديدة التي أهلته لهذا النجاح الأسطوري، لكنه في الوقت نفسه، كان على يقين بأن توفيقاً إلهياً كان له السند والعون في كل نقلة نوعية حققها في العقدين الأخيرين من حياته. لذا، كان جمال يخشى أن يفقد ذلك التوفيق، في لحظة ما، فينتكس على أعقابه.
لكنه يجادل دوماً نفسه اللوّامة، ويصرخ بها، "لقد ضحيت كثيراً، وخاطرت كثيراً، في سبيل دين الله، وفي سبيل رفعة بلدي وأمتي. لم أكن أنانياً، لم أنزوِ لأكون مجرد رجل أعمال ثري، يتمتع بثرواته، ويرضي ضميره بفتات من المساعدات التي يقدمها للجمعيات الخيرية لمساعدة الفقراء من بلده".. كان أكثر من ذلك، سخّر ثروته وجهده ووقته، في سبيل رفعة بلده، دون مقابل حقيقي، ذي قيمة لديه.. فهو لا يُغريه كرسي الحكم حقيقةً، وما الذي يمكن أن يقدمه له كرسي حكم في بلدٍ مهدم كسوريا حينما تسلمها؟!.. الجاه؟.. هو يملك الجاه بالفعل، قبل ذلك بكثير، من خلال القيمة المعنوية الهائلة التي حصّلها إقليمياً ودولياً، بفعل ثروته وعلاقاته العامة.. وكان دوماً، يُستقبل بحفاوة بالغة، في بلاطات الأمراء والملوك، وفي مكاتب القادة والمسؤولين الكبار، حول العالم.. المال؟.. واقع الأمر أنه يُنفق على سوريا، ولا يستفيد منها بقرش، على العكس.. الشهرة والأضواء؟.. هو يأباها، ويميل للهدوء، ويعشق الحياة بعيداً عن كاميرات الإعلام، ولولا أن مشروعه النهضوي في سوريا تطلب ظهوره أكثر من مرة، على شاشات الإعلام، وفي اللقاءات السياسية والجماهيرية المبثوثة على الهواء مباشرةً، لما فكر يوماً في خوض كل هذا الضجيج، في رأيه.. السلطة والنفوذ؟.. هو يملكها بالفعل، قبل أن يستعيد سوريا من "داعش".. لا شيء يقدمه كرسي الحكم له.. إلا أمراً واحداً فقط، يقدم له فرصة القيام بفعلٍ في سياق مشروع متكامل، يقدمه يوم الحساب لله، كدليل على أنه كان جديراً باستخلاف الله له على الأرض، وأنه أعمرها، قدر استطاعته..
بحث جمال مراراً عن أي دليل عقلي جازم، يؤكد له عدم وجود الخالق، عله يفلت من صوت داخلي يذكّره دوماً بالنهاية، وما بعدها.. لكنه عجز.. كلما حكّم عقله الصرف في دليلٍ ما، ثبت له أكثر، أن وجود الخالق أمر صارخ، ينبض بالضياء، حتى ليكاد يُعمي بصر كل صادقٍ ونزيهٍ.
بعد ذلك، خاض جمال مراراً في صدقية النص القرآني، فخلص إلى ذات النتيجة، التي خلص إليها في القضية الأولى. لقد أصبح على يقين، شبه كلّي، أن لا فكاك من أمر الله. فهناك آخرة، وحساب. وعليه أن يستعد لذلك.
تستلبه الدنيا، وترون فتنها على قلبه، من حين لآخر.. لكنه لا يتيه كثيراً، إلا ليعود سريعاً إلى بحثه الدائم عن فعل يقدّمه لله، يوم الحساب، بصورة تدلل على أنه جدير برحمته.
وهكذا، كان جمال الدمشقي على موعدٍ مع طقسه التعبّدي المطوّل، المعتاد عند إقدامه على أي أمر جلل. وبعد منتصف ليل الثالث من حزيران عام 2040. أغلق جمال على نفسه أبواب حجرة الصلاة الخاصة. وانزوى قرب المحراب الموجود في صدرها، وصلّى. أطال السجود في كل ركعة. كان يدعو ويبتهل، والدموع تجلل وجهه. وفي صدره أمل ينتظر إشارة، أن الله فتح أبواب الإجابة له.. بكى بخشوع، وسأل الله ألا يعامله على قدر ضعف نفسه وزلاتها، سأله أن يعامله من جود كرمه، وأن ينظر إليه بعين رحمته.. بكى بخشوع، وسأل الله ألا يخذله بذنوبه وأفعاله، وألا يكتبه من "أخوان الشياطين"، ولا من "المنافقين".. سأله الرحمة بإلحاح.. وسأله التوفيق والنصر، بإلحاح أكبر.. وسأله الهداية، بإلحاحٍ أيضاً.. وسأله أن يعافيه من "الكِبر".. وأن يطهر نفسه من "أمراضها".. وأن ينصره على من عاداه، وأن يُنير بصره وبصيرته بما يرضيه..
وبعد أكثر من عشرين ركعة، شعر بعيدها براحة وطمأنينة حلّت على نفسه، هي الإشارة التي ينتظرها في كل مرة، والتي يقرأها على أن الله لم يغلق الأبواب في وجهه.. أدى جمال صلاة الاستخارة للمرة الثالثة، منذ أسابيع، وحسم أمره، وتوكل على الله..
***
في مساء ذلك اليوم، استُدعي جمال لاجتماع عاجل، رتبه مسؤولو استخبارات، بالتنسيق مع حسن إبراهيم، مدير غرف المراقبة والتجسس والاتصالات، التي يملكها جمال. وبإيجاز، أكد الطرفان، تقاطع معلوماتهما، بأن الإسرائيليين بصدد استهداف منشأة عسكرية تدريبية قرب دمشق، بالطيران، الذي سيخترق الأجواء السورية قادماً من لبنان.
وقدّر مديرو الاستخبارات أن الهجوم سيتسبب بحوالي 25 ضحية من العسكريين المتدربين في المنشأة، والذين يقضون لياليهم في مهجع مخصص داخل المنشأة.
قال له حسن: - المعطيات التي استطعت التأكد منها، عبر التجسس على مسؤولي الاستخبارات والدفاع، الإسرائيليين، باستخدام أقمارنا الصناعية، أن الإسرائيليين يريدون خسارة بشرية ضمن جنودنا، كي تشكل استفزازاً كافياً يجرك إلى الرد، كي يُقدّروا حجم مقدراتنا.
صمت حسن لوهلة، ثم استطرد: - رصدنا ما يؤكد علم المخابرات الأمريكية والبريطانية بالأمر، لكن، يبدو أن الفرنسيين والألمان، وأيضاً الروس، لا يعلمون شيئاً. وكانت هناك إجراءات إسرائيلية مشددة كي لا ترصد الاستخبارات التركية أي شيء عن الأمر.
طلب جمال تقديرات مسؤولي الاستخبارات ونصائحهم، وبعضهم عسكريون محترفون، فنصحوه بإتاحة الفرصة للإسرائيليين كي يحققوا أهدافهم، ذلك أن وقوع خسائر بشرية بين الجنود، سيكون ذريعة قوية لـ جمال، تبرر له إعلان الحرب.
لكن جمال رفض ذلك. قال لمسؤولي الاستخبارات أن عليهم تدبر الأمر، بحيث يظهر وكأن هناك خسائر بشرية قد وقعت بالفعل، لكنه لا يريد أن تُزهق أي نفسٍ من الجنود المتواجدين في المنشأة، إطلاقاً.
دار جدل مستفيض، إذ كان مسؤولو الاستخبارات ميالين إلى ترك الأمور لسياقها، لأنهم يخشون أن يُكشف أي تلاعب بهذا الخصوص، فيُضعف من موقف سوريا التي ستستغل مبرر وقوع قتلى، لإعلان الحرب. لكن جمال أصرّ على موقفه.
بعيد ساعات، تم توسيع الاجتماع، وانضم إليه رئيس الجمهورية ونائبه، ووزير الدفاع، وهيئة أركان الجيش، وقادة الأجهزة الأمنية السبعة، وعدد من المستشارين السياسيين والعسكريين المقربين من جمال. باختصار، اجتمع الصف الأول من قيادات سوريا في لقاء مستعجل، حيث وُضعت المعلومات الاستخباراتية المُستجدة بين أيدي الجميع، للنقاش.
وبعد أخذ وردّ، وطروحات عدّة، حسم جمال الأمر، وطرح التصور المُعتمد لكيفية التعامل مع العدوان الإسرائيلي، وتم تفعيل الخطة الأولى التي كانت قد وُضعت قبل أكثر من عشرة أيام، في الاجتماع السابق للمجموعة ذاتها، أُضيف إليها تطور وحيد، يتعلق بإصرار جمال على عدم ترك أي عسكري داخل المنشأة التي يُتوقع أن تستهدفها الطائرات الإسرائيلية، على أن تتولى أجهزة استخبارات سورية مسؤولية تقديم المشهد، وكأن ضحايا قد سقطوا بالفعل.
كانت المعطيات الاستخباراتية التي تتوافر لدى الإسرائيليين في معظمها غير دقيق، وتم تمريرها لهم عبر خلايا جاسوسية تعمل داخل الأراضي السورية، اكتشفتها أجهزة مخابرات سورية، لكنها تركتها تعمل، وأحاطتها بعملاء لها، كي تضمن تمرير ما تريد من المعطيات الاستخباراتية المُضللة للإسرائيليين. كان ذلك يُطمئن جمال، ويدفعه إلى عدم التضحية بأي نفسٍ من المقاتلين السوريين، هباءاً، إذ يمكن تمرير معطيات متعلقة بسقوط قتلى بالفعل، للخلايا الجاسوسية الإسرائيلية.
كان عدد تلك الخلايا، سبع، ولم تكن ترتبط ببعضها البعض مطلقاً، وقد مضى على عمل أقدمها، 3 سنوات على الأقل. وقد اكتشفتها المخابرات السورية منذ أكثر من سنتين، لكن لم يتم القبض عليهم، بل على العكس، تمت مراقبتهم بشدة، وتولى نشطاء للمخابرات السورية مهمة تمرير المعلومات لهم، بصورة تضمن أمن البلاد، وتحقق غايات تضليلية للإسرائيليين.
***
في مساء يوم الرابع من حزيران، 2040، أوى جمال إلى سريره مبكراً، ولحقته إيمان سريعاً. تحدثا قليلاً، كان هادئاً، لكنه كان يستشعر بأن الأمر اقترب. نظر إلى الساعة، كانت التاسعة والنصف مساءً. شعر بعجز عن النوم، فاستوى في سريره، وأخذ يقرأ في رواية أمريكية مترجمة، صادرة حديثاً، كان قد وصل إلى الفصل السابع عشر فيها. كانت تلك وسيلته المفضلة لتهدئة أفكاره المضطربة التي لا تتوقف عن التفاعل، خاصة حينما يأوي إلى السرير.
وبالفعل، داهمه النعاس. وضع الرواية على المنضدة المجاورة للسرير. نظر إلى الساعة التي كان قد تركها على المنضدة أيضاً، كانت تشير إلى العاشرة والنصف مساءً. استلقى في السرير، كانت إيمان قد غطت بالنوم. حملق قليلاً في الفراغ، ثم أغمض عينيه، نطق بالشهادتين، وقرأ بعض السور القرآنية القصيرة، ثم سرح بخياله إلى فيلا الريفيرا، في فرنسا، تلك التي يعشقها، بإطلالتها البهية على البحر، وبحدائقها الغنّاء. لقد عاش في جنانٍ عديدة على الأرض، فهل يحظى بمثلها في السماء؟.. طرد الفكرة من رأسه مباشرةً، وانتقل بخياله إلى قصره الصغير على بحيرة جنيف، حيث الأشجار الوارفة القديمة، وتلك الإطلالة الساحرة، من مرتفع قصره الصغير، على البحيرة، وذلك الممر الضيق المسور بالأشجار الباسقة، الذي يربط القصر بشاطئ البحيرة، حيث هناك مرسى خشبي صغير أُحكم إليه رباط زورق صغير أيضاً.. هل سيعود إلى هناك قريباً؟، لقد شغلته مهام حياته الجديدة منذ تحرير دمشق، فلم يعد يقضي أوقات إجازة في عقاراته المحببة إليه، إلا ما ندر.. يجب أن يذهب إلى هناك، إلى جنيف، حالما تنتهي هذه القصة، إن شاء الله.. ومن ثم، سرح خياله إلى بيته الخشبي الدافئ في جبال الألب النمساوية، حيث للشتاء طعمٌ آخرٌ، وللصيف أيضاً.. فجأة، قفز إلى ذهنه جدل سبق أن حسمه، حول إن كان من الأفضل إرسال عائلته إلى مكانٍ آمن أكثر من قصره بدمشق.. كان قد قرر أن لا داعي لذلك، خاصة أن القصر مزود بمنظومة دفاع جوية، تحت الأرض، موصولة بجهاز ترقب يجعل المنظومة قادرة على إسقاط أي طائرة معادية تقترب من القصر من مسافات بعيدة.. كما أن القصر يحوي ملاجئ آمنة، ويتصل بممرات خارجية تصله، من تحت الأرض، بقصر الشعب، مقر رئاسة الجمهورية، وبهيئة الأركان في ساحة الأمويين، حيث توجد هناك مخارج عديدة للخروج إلى سطح الأرض، وقد يجد المرء نفسه في قلب شوارع العاصمة دمشق، وبالتحديد، قرب سوق الجسر الأبيض، وتحديداً في إحدى محلات السوق، التي تُعتبر تمويهاً يغطي على حقيقة أنه مدخل لممرات سرّية على أعماق كبيرة تحت العاصمة دمشق. ويُدار المحل، الذي يبيع أزياء رجالية، من قبل أجهزة أمنية خاصة بـ جمال.
من جديد، حاول جاهداً طرد الأفكار المحتدمة في رأسه.. شعر بالتوتر، تقلب في الفراش أكثر من مرة، فاستيقظت إيمان، واستدارت نحوه. حدق فيها متأسفاً، وقال: "لا أستطيع النوم، أنا آسف، سأخرج لأتنشق بعض الهواء في الخارج، فإن بقيت هنا، لن تستطيعين النوم".. فابتسمت، ومدت ذراعها اليسرى لتداعب بها وجهه، وقالت له: "لا تخرج.. دعنا نتحدث قليلاً". شعر بارتياح كبير حالما قالت له ذلك، فالحديث معها يريحه دوماً، ويهدئ توتره.
تحدثا في مواضيع عديدة، كلها لا علاقة لها بموضوع الحدث الراهن. تحدثا عن هدوء كنان، العائد منذ بضعة أيام من الولايات المتحدة الأمريكية، قالت له إيمان: "أخشى أن يكون على علاقة مع فتاة أمريكية".. طمأنها: "هناك فريق متخصص لمراقبته، طمأنوني أن لا علاقة جدية بينه وبين أي فتاة، رغم أنه يحادث بعضهن، لكن محادثاتهم بريئة، حتى الآن". عقّبت: "لكن يجب أن تتحدث معه، وتحذره من خطورة ذلك".. فضحك، وقال لها: "بدأت غيرة الأم تنضح منك.. لتكوني عاقلة أكثر من ذلك، الشاب في أوج انطلاقته، هل تريدين الحجر عليه، يجب أن يخوض تجاربه بنفسه.. لقد أسسنا وربينا، وبإذن الله، الأسس راسخة، وعند هذه النقطة، انتهى الجزء الأكبر من دورنا، عليه هو بنفسه، أن يستكشف الحياة، وسيرتد، كلما أوغل في طريق خاطئ، مسترشداً بما ربيناه عليه، بإذن الله.. ورغم ذلك، هو يخضع للرقابة الدقيقة، حذراً من أن يمسه سوء بسبب نشاطاتي، وليس للحجر عليه، فأنا لن أتدخل في حياته الشخصية أبداً، لقد بات في العشرين".
ظهر عليها عدم الارتياح، لكنها فضلت أن تغيّر الموضوع، لم تكن تريد أن تتحدث في أمرٍ قد يزعج زوجها في هذه الظروف، فهي تريد تهدئة توتره، وليس العكس، فقالت على مضض: "حسناً، كما ترى". ومن ثم، خاضت في حديث عن ابنهما الثاني، إياد، قالت له أنها تلمح علائم الشخصية القيادية عليه، لكنها تخشى أنه بدأ يتحول إلى متنمّر، فهو يتدخل بكل صغيرة وكبيرة من شؤون أخوته، ويُؤنب بعضهم بطريقة لم تُرضها، أخبرها أنه سيتحدث إليه، ومن ثم تناقشا في الخجل الذي يغلب على شخصية أغيد، ابنهما الثالث، وكيف يمكن معالجته، ومن ثم تحادثا في الانطلاق البادي في شخصية وسام، ومواهبه التجارية الفطرية، لكن إيمان حذرت جمال من أن ميلاً للخداع يتبدى لديه، وهي تخشى أن يتحول ذلك إلى ميلٍ للـ "النصب" على الناس، حسب وصفها، وبدأا يتناقشان في كيفية معالجة الأمر، وأخيراً، تطرقا لشخصية ابنتهما الصغرى، سهى، وقالت له إيمان إنها ترى شيئاً من الدلع المبالغ فيه في تعامل جمال معها، بصورة جعلتها تتمرد أكثر من مرة على أمها، وهي ما تزال بعد في الثامنة، ووعدها جمال بالتعامل مع الأمر، بحكمة أكبر.. وبعد قرابة الساعة من النقاشات الهادئة، والأحاديث المتعلقة بالأسرة، غلب النعاس جمال، وحينما كانت إيمان تروي له قصصاً عن تجاربها المثيرة للضحك في صالونات اللقاءات النسائية التي تحضرها من حين لآخر، كان جمال قد نام بالفعل، كانت ابتسامة تغطي شفتيه، كانت إيمان تظنها مؤشر سخرية من القصص التافهة التي ترويها عن لقاءات الصالونات النسائية، لكنها بدأت تسمع شخيراً هادئاً يصدر عنه، فعلمت أنه غفا تماماً. فارتاحت. لقد استطاعت تهدئته، يجب أن يستيقظ في اليوم التالي، بكامل لياقته، فالأيام القادمة عسيرة عليه، وهي تعلم ذلك.. كانت إيمان تعرف أن الحديث عن أولاده، هي أكثر المواضيع التي قد تُهدئ توتره، وتريح أعصابه، وتُذهب الهواجس المتلاطمة عن ذهنه. ونجحت في ذلك، وقررت هي أيضاً أن تعود إلى غفوتها الآن، بسلام.
***
رنّ هاتف جوال، برنّةٍ مزعجة، ومهيبة، ومرتفعة للغاية. فتح عينيه، وكذلك إيمان، التي استوت في السرير سريعاً، والرعب بادٍ عليها. خلافاً لها، كان هادئاً، استوى في السرير، وتناول الهاتف الموجود بين مجموعة أشياء على المنضدة المجاورة لجانبه من السرير. أشعل كلوب الإضاءة المتواجد على المنضدة أيضاً. كانت إيمان مرعوبة لأنها تعلم أن هذا الهاتف، هو هاتف الحالات الطارئة، الموصول بشبكة اتصالات خاصة آمنة، ولا يتم الاتصال به، إلا في حالات الطوارئ القصوى.
وفيما كان الهاتف يواصل رنينه المزعج، تناول جمال ساعة يده الموضوعة على المنضدة ذاتها، أيضاً، إنها تشير إلى الساعة الثانية عشرة والنصف فجراً، والتاريخ يشير إلى يوم الخامس من حزيران، عام 2040. كان لديه شعور أن الإسرائيليين سيكررون التاريخ، ويشنون عدوانهم في ذات اليوم، الذي سبق أن شنوا فيه عدوانهم الشهير قبل 73 سنة.
ضغط بقبول الاتصال، وتحدث: - ألو.
- سيدي. الطائرات الإسرائيلية انطلقت، وباتت الآن في الأجواء اللبنانية. طائرتان. أقمارنا التجسسية تؤكد أنهما ستتجهان إلى المنشأة التدريبية المقصودة. خلال سبع إلى عشر دقائق، ستنفذ الطائرتان الضربة، وتعودان أدراجهما.
شهق بهدوء، وزفر بهدوء أيضاً، ثم قال: - عُلم.
أغلق الهاتف، والتفت إلى إيمان، كان الرعب الذي حلّ عليها منذ دقيقة، قد تهاوى قليلاً. فهمت ما حدث. ابتسم، وقال لها: "يبدو أنك اليوم لن تستطيعين النوم". قهقهت، واصطنعت المرح، كانت تحاول ضبط أعصابها، كي لا توتره، لكنه كان أهدأ منها بكثير.
عادةً ما يتصلب جمال في مواجهة الأزمات. قبلها، تجده متوتراً، وخائفاً، ومتردداً حيال كيفية مواجهتها، لكن حالما تقع، تجده هادئاً، منظماً، ومنهجياً، وبعد أن يتجاوز الأزمة، لا يندم على أي قرار اتخذه حيالها، لأنه دائماً يأخذ وقته الكامل من التفكير، ويقلّب الأمر من كل وجوهه، لذا، دائماً يقول في نفسه، لو تكرر الموقف ذاته، لاتخذت حياله ذات القرار الذي اتخذته. واليوم، لا يختلف الوضع عما سبقه، لقد محّص الأمر من كل وجوهه، وقد أراحه أن توقعات مخابراته صائبة، ورصدهم عالي الدقة، وأولى التوقعات المدروسة بعناية، تتحقق الآن.
غادر الفراش، واتجه إلى الحمام، حيث استحم، وتنشف، وتعطر، وغادر الحمام ليجد إيمان قد حضّرت له كوب النسكافيه الخاص به، والذي يحبذه عند بداية نشاطه اليومي المعتاد، لكنه اليوم مضطر لإطلاق ذلك النشاط في وقتٍ غير معتادٍ.
مرات قليلة في حياته، التي تطلب منه الأمر أن يعمل ليلاً نهاراً، دون انتظام محدد. إحدى أكثر المرات التي تطلبت استنفاره الكامل، كانت يوم بدء عمليات تحرير دمشق. احتاج أكثر من أسبوع، إلى أن بدأت المؤشرات تؤكد أن الأمور تسير على ما يرام. بعد ذلك استعاد نظام حياته اليومي، المنضبط وفق تسلسل محدد، يتكرر كل أيام الأسبوع، عدا يومي الجمعة والسبت.
شرب كوب النسكافيه الخاص به، بهدوء، وشاركته إيمان كوب نسكافيه أيضاً. وأكلا بضع حبات من التمر السعودي المحبب لديه. ارتدى ثيابه، وعدّل هندامه أمام المرآة، وغادر إلى غرفة العمليات المركزية في قبو قصره، حيث كان الفنيون هناك، في حالة استنفار قصوى. حالما دلف إلى غرفة العمليات، استقبله مدير الغرفة بوجهٍ ممتقعٍ، قائلاً: - لقد وجهوا ضربتهم، واستمعنا إلى قائدي الطائرتين يؤكدان تحقق الإصابة، وباتا الآن في الأجواء الإسرائيلية.
- جيد.
جلس وراء لوحة تحكم كبيرة، فيها شاشات عديدة، إحداها مركزية ضخمة، كانت تظهر مسار الطائرات التي هبطت للتو في إحدى المطارات العسكرية في الجليل. نفّذ الإسرائيليون العملية بنجاح، حسب ظنهم. وباتت الكُرةُ في ملعب السوريين.
سلّمه مدير غرفة العمليات الهاتف. سمع شخصاً من الطرف الآخر، هو ذات الشخص الذي اتصل به قبل ثلاثة أرباع الساعة، ليبلغه بالضربة، قبيل وقوعها. قال له الشخص: - سيدي، تفقدنا مكان الضربة، ولا توجد أية خسائر بشرية، لكننا أوهمنا ثلاثة عملاء من الخلايا التجسسية الإسرائيلية، كانوا متواجدين قرب المكان، بأن هناك عدداً كبيراً من القتلى. لقد دُمرت ثلاثة أبنية في المنشأة تماماً. عميلنا المزدوج في المنشأة أبلغ الجواسيس الإسرائيليين بنجاح العملية.
كان ثلاثة عملاء إسرائيليين يظنون أنهم تمكنوا من اختراق المنشأة التدريبية المستهدفة عبر تجنيد عميل داخلها. لم يعلموا أنه أحد عملاء المخابرات السورية، وتم دفعه لتزويدهم بمعلومات مضللة.
وصله تقرير مكتوب من حسن إبراهيم، على شاشة هاتفه الخاص الآمن، الذي يعمل بشبكة اتصالات خاصة. قال له حسن في التقرير الموجز: - الإسرائيليون يعتقدون أنهم نفذوا الضربة بنجاح، عملاؤهم على الأرض أبلغوهم بذلك، وهم ينتظرون ردنا.
لم يتأخر رد السوريين كثيراً. إذ بثت عدة قنوات فضائية سورية، إحداها مملوكة لـ جمال الدمشقي، وتُعد مقرّبة جداً من السلطات، أخباراً عاجلة عن تعرض منشأة عسكرية سورية، تقع غرب دمشق، قريباً من الحدود اللبنانية، لتفجير هائل.
وبعد أكثر من ساعة بقليل من تنفيذ الضربة، صدر بيان موجز عن وزارة الدفاع السورية، أعلن تعرض منشأة عسكرية سورية، لعمل عدواني.
استيقظ النائمون، وتسمّر معظم السوريين أمام شاشات قنواتهم. وكذلك حدث في دول عربية مجاورة، كلبنان والأردن والعراق، وحتى في تركيا ومصر.
بعد أقل من ساعتين من توقيت وقوع الضربة العسكرية، ظهر متحدث باسم وزارة الدفاع السورية، على شاشات التلفزة، ليُعلن في بيان مسجل أن الطيران الإسرائيلي استهدف منشأة عسكرية سورية تدريبية، غرب دمشق، وأن حصيلة القتلى الأولى، تُقدّر بـ 25 متدرباً عسكرياً، كانوا متواجدين في المنشأة، التي دُمرت فيها ثلاثة أبنية.
وبدأت الاتصالات تتوالى على جمال. اتصالات من مسؤولين أتراك وعرب، وغربيين وروس، لكنه لم يجب نهائياً. اعتذر سكرتيره الخاص من المتصلين مؤكداً أن جمال سيتواصل معهم حالما يسمح له الظرف بذلك.
كانت ليلة طويلة، على السوريين، وعلى الكثير من أقرانهم في دول مجاورة. وانشغلت كل محطات التلفزة العربية، وبعض الشبكات الإخبارية العالمية، برصد الخبر. وظهر محللون عسكريون وسياسيون للتداول فيه. وبات الحدث خبر الساعة، وانشغلت به مختلف وسائل الإعلام. وزخرت وسائل التواصل الاجتماعي بالحديث والتداول في الأمر.
وفي دمشق، بدا الليل وكأنه مُبصراً، من شدة الإنارة. فالجميع مستيقظ، وإنارات البيوت، كلها مُضاءة. كانت ليلة مشهودة في دمشق، وكذلك في المدن الإسرائيلية. في القدس الغربية، وفي تل أبيب، وفي حيفا، كانت هناك مخاوف جدية، ظهرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي الصباح، ازدادت حدة الاتصالات من المسؤولين في دول إقليمية وأجنبية. ولم يجب جمال نهائياً، على أي اتصال، فيما كانت ردود رئاسة الجمهورية موجزة، "سنوافيكم بردنا حالما نتخذ قرارنا".
اتصل الرئيس الأمريكي بالرئيس السوري، لكن الأخير اعتذر عن الإجابة في لحظتها. وتحدثت وسائل إعلام غربية عن أن حكومة دمشق لا تتحدث مع أحد، الأمر الذي يزيد من اللايقين حول ما يحدث، أو ما يمكن أن يحدث.
وفي الصباح، حوالي الساعة التاسعة والنصف، ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي على الهواء مباشرة، مُقراً، في سابقة غير معتادة لدى الحكومات الإسرائيلية، بمسؤولية حكومته عن استهداف المنشأة العسكرية السورية، مشيراً إلى أنها كانت تُدرّب متطرفين، حسب وصفه، من المنتسبين السابقين لتنظيمي القاعدة وداعش.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي: "هذه العملية رسالة إلى دمشق، وإلى حاكمها الفعلي، كي يفهم بأننا لن نبقى متفرجين حيال ما يُعده من تجهيزات عسكرية، وما يجريه من تدريبات لمقاتلين، على مقربة من حدودنا".
وعقّب: "لكننا لا نريد الحرب.. هي رسالة، نرجو أن يفهمها المسؤول في دمشق. أما إن اختار السوريون الحرب، فنحن مستعدون لذلك".
بعد أن أنهى رئيس الوزراء الإسرائيلي كلمته، توالت تعليقات عسكريين إسرائيليين، يؤكدون أن أقصى ما يمكن أن يفعله جمال الدمشقي، هو استخدام نفس أسلوب حزب الله اللبناني، قديماً، وهو أن يُطلق زخات من صواريخ الكاتيوشا، والصواريخ قصيرة المدى، على مستوطنات الجولان، وربما أيضاً، على مستوطنات الجليل، عبر قوات حليفة له في لبنان. ونصح المحللون الإسرائيليون سكان تلك المستوطنات بأخذ الحيطة، والنزول إلى الملاجئ بشكل مؤقت، إلى أن يتبين مسار الأحداث.
وبالفعل، نزل سكان المستوطنات الإسرائيلية في الجولان وفي شمال فلسطين، إلى الملاجئ، في سابقة لم يعهدها سكان مستوطنات الجليل، منذ 34 سنة، هو تاريخ آخر الحروب التي خاضها حزب الله مع إسرائيل. فيما لم يعهدها سكان المستوطنات في الجولان، أبداً.
أما في دمشق، فداهم الخوف بعض الناس، فيما كلل الحماس بعضهم الآخر، وكان الترقب سيد الموقف. إلا أن قلة قليلة جداً من سكان العاصمة، فكروا بالنزول إلى الأقبية في أبنيتهم.
أما المحللون السياسيون في الأقنية السورية والعربية، فرجحوا أن تحتفظ حكومة دمشق بحق الرد، في أحسن الأحوال، ولم يتوقع محلل واحد، أن تندفع الحكومة السورية إلى حرب شاملة مع إسرائيل. فيما ذهب قلّة من المحللين السوريين والعرب إلى احتمال أن ترد سوريا بزمان ومكان وطريقة، مختلفة. كان الجميع يعتقد أن جمال الدمشقي لن يتجاوز السقف الذي رسمه حافظ الأسد، تاريخياً، لحدود ما يمكن أن تفعله دمشق حيال إسرائيل. وكانت قناعة غريبة تسود معظم السوريين، أن جمال الدمشقي لن يتجرأ على ربيبة الغرب، ويخاطر بنهضة عمرانية واقتصادية هائلة، أنفق عليها أكثر من ترليون دولار حتى الآن. في أحسن الأحوال، سيرد جمال بطرق الحرب غير المباشرة، عبر وكلاء ربما، لكن من هم، تساءل محللون، فخلافاً لـ حافظ الأسد، تاريخياً، لم يكن جمال يدعم أي تنظيمات مقاومة، لا في لبنان، ولا في فلسطين. لذا كان التساؤل ملحاً، كيف سيرد جمال؟.. البعض توقع أن جمال سيلجأ إلى عقوبات اقتصادية ضد شركات متعاملة مع إسرائيل، مستخدماً حقوق الملكية الفكرية للوقود الحيوي ورقاقات الطاقة الشمسية، التي باتت وقود العصر الراهن. فيما رأى آخرون أن الدمشقي سيبتلع الغصّة، ويسعى إلى تسوية ما، وراء الكواليس، كما سبق وأجرى تسوية مع الإسرائيليين، عبر وسطاء غربيين، بعد أن كادوا يقتلونه في محاولة اغتيال، قضى عمّه، فيها، نحبه.. هذا أقصى ما يمكن أن يفعله الرجل.. هكذا كان معظم الناس، بما فيهم، معظم السوريين، يفكرون.
في الحادية عشرة والنصف صباحاً، أعلنت وكالة الأنباء السورية الرسمية أن رئيس الجمهورية سيتحدث للسوريين، على الهواء مباشرةً، بعد نصف ساعة من الآن. فتسمر السوريون، والإسرائيليون، ومعظم سكان الإقليم، أمام شاشات القنوات الإخبارية المتخصصة، ينتظرون إطلالة ناجي الفتيحي، المُرتقبة.
وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، بتوقيت دمشق، كانت المفاجأة صاعقة لجميع من كان يشاهد شاشات التلفزة حينها. ظهر الرئيس بهندامٍ عسكري، وبدأ بالبسملة، وبالصلاة على النبي وآله وصحبه، ثم قال: "أيها الشعب السوري العظيم.. يا من ائتمننا على تمثيله.. أتوجه إليكم اليوم بإعلانٍ قد يسوء بعضكم، ممن يبتغي السلام والاستقرار.. لكننا نسألكم الثقة بنا، وسنكون، بإذن الله، عند حسن ظنكم بنا.. ونسألكم الالتزام بتوجهيات السلطات الحكومية، بمختلف أجهزتها.. فالحدث جلل، والموقف عصيب، لكن حكومتكم، التي ائتمنتموها على تمثيلكم، والتي تتحمل مسؤولية حفظ أمنكم، والدفاع عن بلدكم، وعن كرامتكم، تتعهد أمامكم اليوم، بأن قرارها الذي سأُعلنه الآن، قد خضع للتمحيص والدراسة، ولم يكن مرتجلاً، أو ردة فعل.. وأتعهد أمامكم، بشخصي، وبحكم مسؤوليتي وموقعي الذي منحتموني إياه، بثقتكم بي، أنني، والمختصون معي، على دراية كاملة بمخاطر القرار الذي سأعلنه، وقد أعددنا العُدة لمواجهة هذا الموقف منذ سنوات، كي لا تكون بلدنا نهباً لمغامرات خارجية، وكي لا يكون أمننا مُستباحاً من جانب قوى تُثير نهضتنا غيظها، وترغب بوقف قطار تنميتنا المتسارع، بكل السبل.. وكي لا تكون أيضاً، دماء أبنائنا رخيصة، كأولئك الذين سقطوا شهداء، ظلماً وعدواناً، حينما كانوا نياماً آمنين، فقط لأن الإسرائيلي يريد تجريبنا.. أقول لكم ثقوا بنا، وسنتحمل أمامكم، وأمام التاريخ، مسؤولية قرارنا هذا.. ومن ثم، أتوجه للإسرائيلي، وأقول، وصلتنا الرسالة، وفهمناها، وسنرد بأحسن منها.. ومن ثم، أتوجه لرعاة وقف إطلاق النار بيننا وبين الإسرائيليين، الذين ضمنوا ذلك الاتفاق، لنقول لهم، لقد خرق الإسرائيلي الاتفاق، وحسب البنود التي اتفقنا عليها، بإشرافكم، وبضمانات منكم، بات ذلك الاتفاق لاغياً، وبموجب ذلك، أعلن، بصفتي، القائد الأعلى للقوات المسلحة السورية، ورئيس الجمهورية، الحرب على دولة إسرائيل. وأعلن حالة الطوارئ في الداخل السوري.. وأتوجه من جديد للإسرائيلي، فأقول، جررتمونا للحرب، فإن أردتموها حرب شجعان، فنحن لها، لنحيّد المدنيين من الطرفين، لكن إن أردتموها حرب جبناء، واستهدفتم المدنيين في سوريا، بأي وسيلة كانت، فسنرد بالمثل، ونستهدف المدنيين لديكم، وسنرسل الآن، خلال حديثي هذا، رسالة تؤكد قدرتنا على تنفيذ تهديداتنا، ونترك الكرة في ملعبكم.. وأختم حديثي هذا بالتأكيد، على أننا كنا، وما زلنا، دعاة سلام، لكننا لم نكن، ولن نكون يوماً، دعاة استسلام.. الرحمة لشهدائنا، والكرامة لأمتنا.. والسلام على كل من يبغي السلام.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
كان المشهد مثيراً للذهول، وللصدمة. بقي معظم السوريين محملقين في الشاشة لبضع دقائق بعد انتهاء الخطاب. وكان المحللون في القنوات المختلفة في حالةٍ واضحةٍ من الارتباك. فآخر ما كانوا يتوقعونه أن تعلن دمشق الحرب على إسرائيل. إنها سابقة لم يشهدها السوريون، ولا العرب، منذ 67 سنة. معظم السوريين والعرب، الذين شاهدوا خطاب الرئيس السوري قبل دقائق، لم يعيشوا حرباً مع إسرائيل. كانت صدمة هائلة، جللها الذهول.
وبعيد دقائق من انتهاء خطاب الرئيس السوري، توالت الأخبار العاجلة على شاشات القنوات الإخبارية.. صفارات الإنذار تنطلق في معظم المدن الإسرائيلية.. الإسرائيليون في هالة هلع، وسكان مستوطنات الجولان والجليل ينزلون إلى الأقبية.. قصف مدفعي مكثف على جانبي الحدود في الجولان.. إجلاء قوات الفصل الدولية في الجولان إلى الأراضي السورية.. قوات سورية تشتبك مع لواء غولاني الإسرائيلي في الجولان..
ومن ثم، ساد الصخب وسائل التواصل الاجتماعي، وبدأت تعليقات السوريين تنهال، بعضهم من القلّة، هلل، وسأل الله الثبات والنصر، فيما غلبت على الكثرة، الاستنكار لقرار حكومة دمشق، التي نالها الكثير من السُباب والشتم، ولم يسلم جمال الدمشقي نفسه من الإهانات. وتساءل سوريون، "كيف يجرّونا إلى حرب مع إسرائيل، المكللة بدعم كل القوى العظمى في العالم، ولم يمض على خروجنا إلى واحة الاستقرار والأمن إلا بضع سنوات".. فيما علق سوريون "لسه ما دفي تحتنا، ليش حابين يولعوها من جديد".. وعلّق آخرون، "على أي أساس يستندون ليعلنوا حرباً على دولة تحظى بدعم العالم كله؟".. وتساءل بعضهم: "هل حدث انقلاب على جمال الدمشقي.. يستحيل أن يكون الرجل وراء هذا القرار المجنون"...
لم يكن السوريون وحدهم الذين انفلتت تعليقاتهم بالملايين على "فيسبوك"، وتغريداتهم "المولولة" على تويتر. كذلك كان اللبنانيون، فالغالبية منهم استنكرت قرار حكومة دمشق، وندبت حظها على استقرار لم يهنئ اللبنانيون بثماره بعد.
أما في أوساط القيادة الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية الضيقة، كان الرعب يستولي عليهم. فقد أطلق السوريون صاروخاً بالستياً، عبَرَ الأجواء الإسرائيلية، وتسبب بإطلاق صفارات الإنذار في معظم المدن، ليسقط في موقع صحراوي مهجور، في صحراء النقب، على مسافة قريبة جداً من مفاعل ديمونا النووي.
وحالما سقط الصاروخ، اتصل مسؤول أمني سوري رفيع بمدير الموساد، وعلى هاتفه الخاص. صُعق الرجل، وخاطبه المسؤول الأمني السوري، فيما كانت المكالمة على السبيكر، ويسمعها معظم المسؤولين الإسرائيلين في غرفة العمليات الخاصة، "أعداؤنا الأعزاء، الصاروخ الذي وقع قرب مفاعل ديمونا، كان رسالة، أرجو أن تفهموها، إن قُتِل مدني سوري واحد، بصواريخكم أو طائراتكم، ستجدون عشرات الصواريخ البالستية تستهدف مدنكم، وتقتل مدنييكم، لذا، دعنا نحصر حربنا بالجولان، وعلى البرّ، ولتكن حرب شجعان.. شلوم".
استولى الذهول على قادة إسرائيل لوهلة، وحالما استردوا وعيهم، بدأت النقاشات، قال مسؤول عسكري رفيع:
- يبدو أنهم اخترقونا بصورة لم نكن نتوقعها، هناك تقصير استخباراتي فظيع.
فردّ مدير الموساد وقد امتقع وجهه: - أن يحصلوا على رقمي الخاص، ويتصلوا بي، لا يعني بالضرورة أنهم اخترقونا أمنياً.
فتابع المسؤول العسكري الأول: - إذاً، ماذا تسمي أن يحصل مسؤول أمني سوري رفيع، على رقم هاتفك الشخصي؟
وفيما كان مدير الموساد يعتزم الرد، وضع وزير الدفاع حدّاً للجدل، وقال بلهجة آمرة: - ليس الآن الوقت المناسب لتبادل الاتهامات، حينما تضع الحرب أوزارها، نتحدث في هذه التفاصيل.. أريد الآن تصوراتكم للوضع، فقد فُوجئنا بأمرين لم يكونا في الحسبان، امتلاكهم لصواريخ بالستية بعيدة المدى، ووجود اختراق أمني لهم في أوساطنا، لم نعرف مداه بعد.. في ظل هذين التطورين ماذا يجب أن نفعل؟
علّق رئيس هيئة الأركان العامة: - الجبهة الشمالية تتعرض لهجوم شرس، والمعلومات الواردة تواً تفيد بهجوم غير متوقع للقوات السورية، أعتقد أن هذه هي أولويتنا الآن، إن انهار لواء غولاني، قد نخسر الجولان، بكل بساطة.
كان لواء غولاني، لواء النخبة الإسرائيلية، كما يُوصف لعقود، هو المسؤول عن حماية هضبة الجولان في هذا التوقيت.
ظهر التوتر جلياً على رئيس الوزراء الإسرائيلي، وقال وملامح الارتباك تكسو وجهه: - كيف سنتصرف؟
فعلّق وزير الدفاع بلهجة صارمة: - لا نريد نوبات ذعر في هذه الظروف.. أقترح أن نُعدّل خطتنا الأولية، وبدلاً من أن نُرسل سرب الطائرات الذي كنا نعتزم قصف دمشق بواسطته، دعنا نحول وجهته ليتولى تدمير فرق المشاة والمدفعية السورية قرب خط الاشتباك في الجولان.. بذلك، سنتجنب سقوط مدنيين سوريين، كي نتجنب بدورنا أية مفاجأة تتعلق بامتلاكهم صواريخ بالستية دقيقة يمكن لها أن تستهدف مدننا.. وفي نفس الوقت، نزيل الخطر العاجل المترتب على لواء غولاني في الجولان.
قال رئيس هيئة الأركان العامة: - أؤيد ذلك.
وأيّد جميع المسؤولين العسكريين والأمنيين، اقتراح وزير الدفاع، وصدر قرار عاجل بتنفيذه.
***
بعيد ساعة واحدة فقط من خطاب الرئيس السوري في دمشق، ظهر رئيس الوزراء اللبناني، إيهاب الصلح، في مؤتمر صحفي على الهواء مباشرة، وقال بإيجاز: - نُدين بأشد العبارات العدوان الإسرائيلي غير المبرر على الشقيقة سوريا، وقد تواصلت مع الأشقاء في دمشق، وسألتهم إن كان بمقدورنا تقديم أية مساعدة في المواجهة التي انخرطت فيها الدولة السورية ضد دولة إسرائيل، وقد وصلتني معلومات مؤكدة عن اشتباكات شرسة في الجولان تجري الآن.. لكن في لبنان، كدولة وحكومة، وبعد التشاور مع الأشقاء في دمشق، نعلن التزامنا باتفاق وقف إطلاق النار مع الإسرائيليين.. وأُوضح بشكل جلّي، أن لبنان لن يكون منخرطاً بأي عمليات عسكرية ضد إسرائيل، وليس بصدد القيام بأي عمل عسكري ضدها.. وسنتولى ضبط حدودنا بشكل صارم.. وفي المقابل، نتوقع من الإسرائيليين عدم القيام بأي عمل عدواني ضد لبنان، وفي حال حصل خلاف ذلك، فإن لبنان، جيشاً وشعباً ومقاومةً، سيكون على أتم الاستعداد للردّ، وبصورة تؤلم العدو، أكثر بكثير، مما يظن.. وأطمئن اللبنانيين، أنني أجريت اتصالات مع وسطاء غربيين أعلمتهم أن الدولة اللبنانية ليست بصدد حربٍ مع إسرائيل، وأنها، رغم دعمها السياسي والمعنوي الحازم، للأشقاء في دمشق، إلا أنها لن تكون منخرطة في أي عمل عسكري مباشر، وهو أمر وافَقَنا عليه الأشقاء في دمشق، الذين أكدوا أنهم لا يحتاجون أي عون أو مساعدة من أي طرفٍ كان، وأنهم استعدوا جيداً، منذ سنوات، لردّ أي عدوان إسرائيلي على أراضيهم..".
بعيد أقل من نصف ساعة، خرج رئيس الوزراء العراقي، الذي يُدير حكومة وسط العراق، ليؤكد بدوره، دعم دمشق في مواجهة العدوان الإسرائيلي، مع الإشارة إلى أن دولة وسط العراق، غير منخرطة في أي عمل عسكري ضد الإسرائيليين، وأن حكومة دمشق أعلمت بغداد، أن لا داعي لأي تورط عراقي في تلك المواجهة.
بعيد ذلك، خرج وزير الخارجية السوري، في مؤتمر صحفي على الهواء مباشرة في دمشق، وأكد حياد حكومة وسط العراق، ولبنان، ونصح الإسرائيليين بعدم فتح جبهات جديدة عليهم، وأكد أنه بدأ بالتواصل مع مختلف عواصم القرار الإقليمي والدولي لتوضيح موقف حكومته، مشيراً إلى أن العدوان الإسرائيلي لم يكن من الممكن قبوله، وأن دمشق سبق أن أكدت أمام جهات إقليمية ودولية عدة، وقد وصل ذلك للإسرائيليين، بطرق مختلفة، أن دمشق اليوم، ليست دمشق في عهد حافظ الأسد، وأن استراتيجية "الاحتفاظ بحق الرد"، ليست في قواميسنا الراهنة. لكن الإسرائيليين رفضوا الإنصات.
الحياد العراقي واللبناني، وتحديداً الحياد اللبناني، أراح الإسرائيليين كثيراً، إذ أنهم فهموا أن ردّ دمشق لا يندرج في سياق حرب شاملة تشكل تهديداً وجودياً للإسرائيليين، فبدأوا يتحركون بأريحيةٍ أكبر.
***
وحوالي الساعة الثانية والنصف ظهراً، كانت 56 طائرة حربية إسرائيلية، من أكثر المقاتلات الأمريكية تطوراً، تخترق أجواء بحيرة طبريا باتجاه خط الاشتباك بين السوريين والإسرائيليين. وكان الهدف توجيه عشرات الصواريخ "جو – أرض"، لقصف فرق المشاة والمدفعية السورية، في مسافة محدودة، وراء خط الاشتباك.
كانت الطائرات الإسرائيلية من أحدث أجيال طائرات بوينغ العسكرية. لم تكن مرئية على الرادارات، وكانت تحمل أحدث طراز من أسلحة "جو – أرض"، وبها العديد من أجهزة الاستشعار والكترونيات الطيران. وتطير بسرعات فوق صوتية، دون استخدام الاحتراق اللاحق المستهلك للوقود. كما تتمتع بقدرات عالية على المناورة ضد أنظمة الصواريخ المضادة للطيران.
وهنا كانت المفاجأة الثانية، الصادمة للقيادة الإسرائيلية في هذه الحرب. فقبل أن تصل الطائرات الإسرائيلية إلى المدى الجوّي الذي كانت تعتزم إطلاق الصواريخ منه، وداخل أجواء هضبة الجولان المحتلة، وقبل أن تُطلق أياً من صواريخها الموجهة، أخذت تتساقط واحدةً تلو الأخرى. كان الطيارون يصرخون متحدثين لعسكريي غرف المراقبة والتحكم، "صواريخ غريبة وسريعة جداً تلاحقنا"، "لديهم صواريخ مضادة للطيران"، "لا أستطيع الإفلات، لقد أطلقت كل صواريخي المضادة ولم ينفع ذلك"، "أطلقت كل أسلحة التشويش على الصاروخ، ورغم ذلك ما يزال يلاحقني، إنه يقترب مني، سرعته فوق صوتية"، "صواريخ غريبة، لم أستطع تمييزها أهي صواريخ حرارية أم رادارية"، "إنهم يسقطوننا".
وصدرت أوامر للطائرات الإسرائيلية بالانسحاب، لكن، كان الأوان قد فات. فمن أصل، 56 طائرة كانت متجهة لتدمير قوات المدفعية والمشاة السورية، عادت 7 طائرات فقط، سالمة إلى قواعدها.
وشاهد سكان المستوطنات الإسرائيلية في الجولان، طائرات تتساقط. وتناقل بعضهم، سريعاً، عبر يوتيوب، فيديوهات مُلتقطة بالموبايل، لطائرات تسقط، ظنوها للوهلة الأولى، طائرات سورية أسقطتها دفاعاتهم الجوية، وكانوا يهللون فرحين. لكن، بالتدريج، بدأ سكان المستوطنات هناك، يكتشفون أن الطائرات التي تتساقط هي إسرائيلية. وعمّ الذعر في أوساط الإسرائيليين في وسائل التواصل الاجتماعي. وبدأ الناس يتداولون سريعاً تسجيلات تؤكد أن الطائرات التي تم إسقاطها إسرائيلية.
وصدر بيان عاجل عن وزارة الدفاع السورية، قال بإيجاز: "بحمد الله، تمكنت منظوماتنا الصاروخية من إسقاط 49 طائرة إسرائيلية، داخل أجواء الجزء المحتل من الجولان". وبقيت السلطات الإسرائيلية صامتة، وسط ضجيج إعلامي، ومطالب بالكشف عن حقيقة ما يحدث في أوساط الإعلاميين الإسرائيليين، وفي وسائل التواصل الاجتماعي.
في هذه الأثناء، كانت غرفة قيادة العمليات الإسرائيلية في القدس الغربية في حالة ارتباك شديد، وصدمة. واتصل بهم مسؤول عسكري أمريكي رفيع، قال لهم: "عجزنا حتى الآن عن رصد ما يحدث في الجولان ومحيطها، هناك تشويش غريب على أقمارنا الصناعية، لم نستطع رؤية شيء على الأرض". لاحقاً، وافاهم مسؤول استخباراتي روسي رفيع بذات النتيجة. كان الإسرائيليون يعلمون ذلك، لكنهم كانوا يأملون أن تكون الأقمار الصناعية الأمريكية والروسية أفضل حالاً من أقمارهم الصناعية التي أُصيبت بعمى مفاجئ عمّ مساحة جغرافية واسعة، تشمل هضبة الجولان، وتصل حتى جنوب دمشق.
وبدأت اقتراحات تتوالى من مسؤولين داخل الغرفة بقصف دمشق، لكن وزير الدفاع، الذي كان أكثر المسؤولين هدوءاً ورزانة، في تلك اللحظة، قال لهم بلهجة صارمة: "هل أنتم واثقون أن دمشق لا تملك صواريخ بالستية عالية الدقة، قادرة على استهداف مدننا؟.. إننا نراهن على أن الصاروخ الذي أسقطوه في أراضينا، والذي اجتاز معظم أجواء مدننا، بما فيها القدس، وسقط في منطقة صحراوية مهجورة في أقصى الجنوب، لم يكن عالي الدقة.. هل أنتم واثقون أنهم لا يملكون القدرة على تنفيذ تهديداتهم؟.. لقد قالوا أنهم أرسلوا هذا الصاروخ كرسالة تؤكد امتلاكهم القدرة على استهداف مدننا بصواريخ عالية الدقة هذه المرة.. هل أنتم واثقون أنها حرب نفسية فقط، وأنهم لا يملكون بالفعل، القدرة على تنفيذ تهديداتهم؟.. لقد صُعقنا جراء امتلاكهم صواريخ مضادة للطيران، عالية التقنية والتطور.. لقد سقطت طائرات أمريكية من أحدث جيل، لم نفهم بعد كيف حدث ذلك.. فهل تريدون الذهاب إلى أبعد من ذلك، وتجريب قدراتهم الأخرى؟!".
صمت الجميع، وساد الوجوم وجوههم. وأخيراً، نطق مدير الموساد: - أعتقد أن علينا أن نسارع لفتح قنوات تواصل عبر أصدقائنا المشتركين مع دمشق.
قال وزير الدفاع: - أعتقد أن جمال الدمشقي لن يتوقف قبل أن يسيطر على الجولان، في أقل الحدود.
- ولماذا تثق بأن جمال الدمشقي هو من يدير المشهد؟.. إنه مختفٍ منذ ليلة أمس، ولم يُجب على كل الاتصالات التي وردته من مسؤولين غربيين وإقليميين.
- إنها عادته، وأنت أكثر من يجب أن يلحظ ذلك.. فهذا الرجل يتحدث قليلاً جداً، ويفعل الكثير.. إنه ليس من طراز الحكام الذين اعتدنا التعامل معهم.
- لكنه يتجاوب دوماً مع القنوات السرّية، ويتقبل، ببراغماتية عالية، ترتيب الصفقات والتسويات.
- نعم.. ودوماً هنك مقابل لكل شيء.. عام 2034، حصل على إقرار دولي وإقليمي، بسيادته على سوريا، ولبنان أيضاً، مقابل تطبيعه لوقف إطلاق النار معنا، وضمان أمن الحدود.. اليوم، بعد أن خرقنا من جانبنا وقف إطلاق النار، هل تعتقد أنه سيقبل إعادة إحيائه، دون مقابل؟
- أعتقد أن من المبكر الجزم بما يدور في دمشق.. لدي مخاوف من أن يكون المتطرفون في قيادة الجيش والأمن انقلبوا عليه.
وارتفعت وتيرة النقاشات الحامية بين المسؤولين الإسرائيليين، لكن خطورة الوضع في هضبة الجولان، وتدهوره السريع، اضطرهم إلى حسم نقاشاتهم، وطي ملفات خلافاتهم الشخصية، إلى حين. واتفقوا مبدئياً على حثّ حلفائهم الغربيين، للضغط على جمال الدمشقي، والحكومة في دمشق، بغية وقف عاجلٍ وسريعٍ لإطلاق النار.
***
بعد أن تداولت وسائل إعلام عربية وعالمية، الأنباء المترددة في تعليقات لإسرائيليين في هضبة الجولان، حول سقوط طائراتهم، بالتزامن مع صدور بيان من وزارة الدفاع السورية، يؤكد ذلك. تحوّل مزاج كثير من السوريين إلى حالة من الارتياح، وعبّرت تعليقاتهم على فيسبوك وتويتر، عن مشاعر تفاؤل حذرة تسود غالبيتهم. علّق بعضهم: "دمشق هادئة، والطيور بالفعل تزقزق، وكأنه لا توجد حرب". فيما علّق سوريون في قرى حدودية: "هناك اشتباكات شرسة على الحدود، لقد تم إخلاء القرى القريبة جداً من السياج الحدودي، لكن يمكن رصد دخان الاشتباكات والمعارك من مناطق مرتفعة بعيدة". وعلّق آخرون: "الإسرائيليون مرعوبون، والنسخة الإنكليزية من هآرتس العبرية تقول إن اليهود في مستوطنات الجولان في حالة رعب".
وذهب محللون عسكريون غربيون في وسائل إعلامية عالمية، إلى أن الصور الأولية المتداولة بكاميرات مستوطنين يهود في الجولان، لطائرات سقطت، تؤكد أنها طائرات أمريكية الصنع، ناهيك عن نجمة داوود التي تحملها، والتي تؤكد إسرائيليتها.
ومع مرور الوقت، ببطء على الجميع. كان بعض مستوطني الجولان قد التقطوا أولى الصور لجثة طيار إسرائيلي قتيل، على مسافة من إحدى الطائرات التي سقطت، وصوّروا هويته العسكرية التي تؤكد أنه طيار إسرائيلي. ومن ثم، تكرر الأمر مع قتيل إسرائيلي آخر. وعمّت التعليقات المرعوبة أوساط الإسرائيليين، وشتم معظمهم القيادات في القدس الغربية، متسائلين، "أين هم؟، لماذا لا يشرحوا ما الذي حدث؟".
ومع تفاقم البلبلة التي سببتها كاميرات الهواة من المصورين الإسرائيليين في الجولان المحتل، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي انتقلت إلى أوساط الإسرائيليين في عموم فلسطين المحتلة، ظهر متحدث باسم وزارة الدفاع الإسرائيلية، ليُعلن أن 49 طائرة إسرائيلية حربية أُسقطت في أجواء الجولان المحتل، حينما كانت في طريقها لتنفيذ مهمة حربية قرب خطوط "العدو". وناشد المتحدث الشارع الإسرائيلي بالهدوء، مطالباً بوقف عمليات النشر على فيسبوك وتويتر ويوتيوب، محذراً من التسبب بانهيار في المعنويات العامة للشعب الإسرائيلي، ومؤكداً أن الأمر ما يزال تحت السيطرة، رغم تلك الخسارة الفادحة، وأن حلفاء إسرائيل، وفي مقدمتهم، الولايات المتحدة الأمريكية، وعدوا بالتدخل العاجل، إن تطور الأمر بصورة تهدد الأمن القومي لدولة إسرائيل.
وبعيد كلمة المتحدث باسم وزارة الدفاع الإسرائيلية، حجبت السلطات في إسرائيل، وسائل التواصل الاجتماعي تماماً، وتوالى متحدثون عسكريون على وسائل إعلام إسرائيلية، ليُطمئنوا الشارع بأن الأمور تحت السيطرة، وبأن أقوى دولة في العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، ستتدخل في الوقت المناسب، إن بات هناك تهديد جدّي للأمن القومي الإسرائيلي.
لكن النقاش عبر وسائل الإعلام حرف المتحدثين العسكريين الإسرائيليين عن غايتهم، قسراً، وتحت وطأة أسئلة مقدمي النشرات الإخبارية، أقرّ بعضهم بأن الطائرات التي سقطت هي من مجموعة استلمتها إسرائيل مؤخراً، تنتمي إلى أحدث جيل من الطائرات الحربية المصنوعة في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي دفع إعلامياً إسرائيلياً إلى إحراج متحدث عسكري، متسائلاً، "إن كانت أحدث الطائرات الحربية الأمريكية تتساقط بهذه الطريقة الغريبة، وغير المفهومة، كيف ستتدخل الولايات المتحدة الأمريكية؟.. إن كان أحدث جيل من طائراتها الحربية سقط بالتجربة في معركة الجو مع العدو؟"..
وبدلاً من أن يُهدّئ ظهور متحدثين عسكريين إسرائيليين، الشارع المضطرب في مدن فلسطين المحتلة، زاد الطين بلّة، وفاقم الأمر حجب السلطات لوسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أوحى بأن السلطات تريد حجب حقائق مرعبة عن الشارع الإسرائيلي.
أما اللبنانيون، فكان الارتياح يسود غالبيتهم العظمى، مع شيء من الحماس الذي غالب شريحة منهم، جراء التطورات المشجعة للمعركة في سوريا. أما الارتياح، فكان لموقف رئيس الوزراء اللبناني، شقيق زوجة جمال الدمشقي، والذي حيّد لبنان عن الحرب، الأمر الذي رفع من أسهمه في أوساط الكثير من اللبنانيين. وإن بقيت شريحة منهم، خاصة من الموالين المتناقصين يوماً تلو الآخر، لحزب الله، تبحث عن أي تفسير آخر لما يحدث، غير تفسير أن حرباً مباشرة تجرأت عليها دمشق ضد إسرائيل.. دمشق التي يحكمها جمال الدمشقي، الداعم الرئيس لحكومة الصلح في بيروت.
وأخذت منصات إعلامية مُحتسبة على حزب الله، تتحدث عن مسرحية تُدار، بغية رفع أسهم جمال الدمشقي، الحليف وطيد الصلة بالغرب، حسب وصف تلك المنصات. لكن تلك التفسيرات لم تحظَ بجمهور مقتنع، خاصة في أوساط شيعة لبنان.. فلماذا يتم إعداد مسرحية بهذه الكلفة، تنال من هيبة الإسرائيلي، بغية رفع أسهم جمال الدمشقي؟.. فـ جمال يسيطر على سوريا ولبنان ووسط العراق، ولا يوجد أي تهديدات تنال من سيطرته المطلقة على هذه البلدان، فما هو مبرر هذه المسرحية بهذا التوقيت؟..
كان معظم شيعة لبنان قد كسروا منذ أمد تابو الولاء المطلق لمرجعياتهم الدينية. ومنذ التورط الأليم في سوريا، الذي خسر فيه الشيعة اللبنانيون الآلاف من خيرة شبابهم في حرب عبثية، جرّت لاحقاً غزواً داعشياً للبنان،.. منذ ذلك الحين، تحول ولاء معظم شيعة لبنان بعيداً عن حزب الله، الذي أخذ يفقد يوماً تلو الآخر، المزيد من رصيده الشعبي.. وكانت محاولة اغتيال الدمشقي في بيروت، عام 2033، وثبوت تورط حزب الله، وما جرّه ذلك من توتر وخوف، في أوساط شيعة لبنان، من انتقام السُنة المدججين بميليشيا قوية يقودها شقيق زوجة الدمشقي.. كانت تلك، القشة التي قصمت ظهر ولاء مئات آلاف الشيعة لحزب الله، الذي انحصر جمهوره بقلّة، تذهب تقديرات إلى أنها لا تتجاوز الـ 15% من الجمهور الشيعي في ذلك البلد.
***
في هذه الأثناء، كانت التطورات تتسارع بحدّة على خط الاشتباك في الجولان. فقيادة لواء غولاني بدأت تنهار. اتصالاتهم يتم التشويش عليها، ويدخل على الخط، في كثير من الأحيان، متحدثون من السوريين، يحدثون قيادات في اللواء، بالعبرية، بضرورة الاستسلام السريع، وإلا فسيكون مصيرهم الموت. ومع تداول أنباء في أوساط المقاتلين الإسرائيليين، مفادها، سقوط الغطاء الجوي الإسرائيلي، كانت المعنويات في طريقها للانهيار.
وقبل أن يحل الظلام تماماً، مساء يوم الخامس من حزيران، عام 2040، كانت غرفة عمليات قيادة لواء غولاني قد تلقت عدة قذائف صاروخية شديدة التدمير، أتت على كل القادة الذين كانوا هناك. وأصبح اللواء بلا قيادة. وبعيد ذلك بقليل، فُقدت الاتصالات تماماً، لم يعد أي مقاتل قادراً على التواصل مع أحد. هواتفهم باتت صماء خرساء، لا شبكات تغطيها، وقبضات اللاسلكي العسكرية الخاصة بهم، باتت هي الأخرى، قطعاً معدنية لا قيمة لها البتة. لا صوت أبداً من الطرف الآخر. الجنود الإسرائيليون الذين كانوا يتمترسون داخل خنادق، وتحصينات، كانوا في حالة من الرعب والانهيار الكامل للمعنويات. فقد تحول كل تحصين أو خندق، إلى جزيرة منعزلة عن باقي اللواء.
وبدأت تلك التحصينات تُستهدف واحدة تلو الأخرى بقذائف مدفعية وصاروخية، عالية الدقة، وشديدة التدمير، لتُحيل الجنود داخل تلك التحصينات إلى أشلاء. وتقدمت فرق المشاة السورية، وبدأت تُمشط مساحات تقدمها، بروية عالية. كانت هناك تعليمات صارمة، بألا يتقدموا قبل أن يتأكدوا من تدمير كل التحصينات والخنادق التي تحويها المساحات التي يتقدمون إليها. كانت التعليمات فحواها: "ليس المهم تحصيل مساحات واسعة من الأرض، الأهم، تأمينها، والتأكد أنها خالية من أي تواجد لقوات العدو تماماً".
في بعض التحصينات التي وصلتها قوات المشاة السورية، رفع جنود إسرائيليون أعلاماً بيضاء، وسلموا أنفسهم، وتوالت الانهيارات، فيما كانت الجولان محجوبة عن سمع وبصر العالم. كانت بقعة خفية عن أعين الأقمار الصناعية حول العالم، وكان الارتباك يسود كل الأوساط المهتمة بالتطورات على الجبهة.
أما في القدس الغربية، كانت فوضى عارمة تسود غرفة قيادة العمليات. قال أحد قادة الجيش الإسرائيلي لزملائه: - لقد فقدنا الاتصال تماماً مع قيادة لواء غولاني.. لا نعرف ما الذي يحدث هناك.. فقدنا الاتصال حتى مع سكان المستوطنات بالجولان.. لا اتصالات في عموم الجولان، وأقمارنا الصناعية عاجزة عن رؤية أي شيء.
فقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، وتقلصات لا إرادية تسود عضلات وجهه: - إنها هرمجدون.
فصرخ فيه وزير الدفاع ناهراً: - كفى خزعبلات.
لكن عبارة رئيس الوزراء الإسرائيلي حلّت على معظم الموجودين في الغرفة كما لو وقع عليهم جدار، إذ بدوا كالصرعى، والفزع يتبدى من نظراتهم، والجمود يكتسي أجسادهم. أجال وزير الدفاع بصره بينهم، فشعر بخشية شديدة، إن القيادة تنهار، لم يعودوا قادرين على تحكيم المنطق، استولت عليهم مخاوف جمعية لاواعية، موروثة بين اليهود المستوطنين في فلسطين، جيلاً بعد جيل، أن يوماً ما سيجتاح المسلمون الأراضي المحتلة، فيُعملوا فيهم، قتلاً وتنكيلاً.
نهض وزير الدفاع الإسرائيلي من مكانه، ودون أن يناقش أياً من زملائه، اتصل بالخط الساخن مع مدير المخابرات المركزية الأمريكية، وقال له: "أنجدونا، إننا ننهار".
كان الأمريكيون يعملون على مدار الساعة، بجهد جهيد، كي يفهموا، ما الذي يحدث في الجولان. فقد انقطعت كل أنواع الاتصالات، سواء مع العسكريين أو المدنيين، في الهضبة. فيما باتت الأقمار الصناعية عمياء تماماً عن تلك البقعة.
وللمرة الثانية، فشل الرئيس الأمريكي في التحدث مباشرةً إلى جمال الدمشقي، فأغضبه ذلك كثيراً، "كيف يتجاهلني بهذه الطريقة؟". لاحقاً، اتصل به وسام شرف، نائب الرئيس السوري، وأبلغه بأن القيادة في دمشق كلفته بتولي الاتصالات مع مختلف الجهات الإقليمية والدولية، فقال له الرئيس الأمريكي بإيجاز، وبنبرة آمرة: "أريد الحديث إلى جمال". قال له وسام ببرود: "جمال غير متاح الآن".
كان المشهد بالنسبة للأمريكيين ضبابياً. واختلفت تقييمات مسؤوليهم، بين من ذهب إلى أن المتطرفين في قيادة الجيش والأمن بدمشق، انقلبوا على جمال، وبين من ذهب إلى أن الأخير يدبر مكيدة كبرى للإسرائيليين بعد أن استجرهم بنجاح إلى خرق وقف إطلاق النار، وبين رأي ثالث دعا إلى ضبط النفس، وعدم التهور، على الأقل، إلى أن يتم فهم نوعية الأسلحة المتطورة التي أسقط بها السوريون أحدث الطائرات الحربية الأمريكية.
لكن الرئيس الأمريكي حسم أمره، وقال بحزم: "سنتدخل إن لم يتحدثوا إلينا، أريد الحديث إلى جمال الدمشقي شخصياً، وإلا فسنتدخل".
انبرى رئيس هيئة الأركان محذراً: "سيدي الرئيس، من غير المناسب التدخل قبل أن نفهم ماهية ما لديهم من أسلحة، لا نريد أن تتساقط طائراتنا في الأجواء السورية، على مرأى وسمع من العالم بأكمله، سيكون ذلك ضربة كبرى للهيبة الأمريكية".
أجاب الرئيس: "إذاً، استخدموا صواريخ بالستية بعيدة المدى، أطلقوها من قواعدنا في الخليج وشرق أوروبا، افعلوا شيئاً".
فتدخل وزير الخارجية وقال: "سيدي، أقترح التالي، لتخرج بتصريح على الهواء مباشرة، تُنذر فيه بالتدخل، ولنرى ردة فعلهم على التهديد، إن تواصلوا معنا، نكون قد حققنا غايتنا".
شدد الرئيس الأمريكي: "لا أريد أن تتحدث معي حكومة دمشق، أريد أن أتحدث إلى جمال الدمشقي شخصياً".
وهنا، تدخل مدير المخابرات المركزية الأمريكية: "اهدأ سيدي أرجوك، الأمر يتطلب ضبط النفس، لا نريد مفاجآت، أؤيد اقتراح وزير الخارجية، وأعتقد أن جمال حينها، سيتصل، ربما عن طريق أحد أصدقائنا المشتركين في أوروبا".
عقّب وزير الخارجية: "في هذه الأثناء سنكثف ضغوطنا وتحذيراتنا عبر حلفاء السوريين، وتحديداً الأتراك. سننقل عن طريقهم رسالة إلى دمشق مفادها، أن لا خطوط حمراء في المواجهة، إن لم يتم فتح قناة تواصل مباشرة مع صاحب الكلمة العليا في دمشق".
وأجمعت الإدارة الأمريكية على ذلك. وبدأ التحضير لمؤتمر صحفي موجز للرئيس الأمريكي.
***
قبل ذلك بساعات، ومنذ ما بعد عصر الخامس من حزيران 2040، كانت أعصاب جمال الدمشقي قد استرخت تماماً، وحلت طمأنينة وثقة عالية في نفسه. "لقد ثبتت جدوى أسلحتنا، وتساقطت طائراتهم كالذباب". كان شعور بالنشوة يغمره، لكنه كابده، "الوقت مبكر جداً للاحتفال بالنصر".
غادر غرفة العمليات التي قضى فيها أكثر من 12 ساعة متواصلة من المراقبة والتواصل مع مختلف المسؤولين السياسيين والعسكريين السوريين.
صعد إلى جناحه العائلي في القصر. تلقته إيمان بابتسامة عريضة، وكانت آثار السهر بادية على وجهها. احتضنته، ثم قالت له بنبرة كلها عُذوبة: "حضّرت لك غداءً شهياً، والأولاد يريدون تناوله معك". ابتسم وقال لها: "هذا ليس الوقت المناسب أبداً للإغراء، طبعاً لا أقصد الطعام". قهقهت، وقالت له: "أنت مثير. كلما تُبهرني، أشعر حيالك بالإثارة أكثر". تراخى بين ذراعيها قليلاً، ثم احتضنها بشدة، لكنه تذكر، "يا إلهي، لازلنا في أروقة الجناح العائلي، قد يرانا أحد الأولاد، أو إحدى الخادمات".
وتناول غداءً شهياً مع العائلة، كان الأولاد في معظمهم متحمسين، قضوا ساعات طويلة يتابعون شاشات الأخبار، ويقلبونها من قناة إلى أخرى، وكانت أنباء إسقاط 49 طائرة إسرائيلية، أمريكية الصنع، خبر الساعة الجلل.
وأطلق الأولاد سلسلة تعليقات، أبدى كل منهم فيها رأيه، فيما كان التحفظ يسود إياد، ليُطلق من حين لآخر، نظرات ترقب نحو والده، على أمل أن يُحدّثه بأشياء سرية، مما يحدّثه بها من حين لآخر، تعبيراً عن ثقته العالية به.
كان كنان هو الوحيد، الذي بدا عليه شيء من الوجوم، فيما كان المرح يغلب على البقية، أشار إليه جمال كي يجلس بجواره، وحالما استوى قربه، قال له: - ما بك؟
- لا شيء يا أبي؟.. لا تقلق.
- سأقلق أكثر إن لم تصارحني بما يشغل بالك.
زم شفتيه، ولاح عليه التردد، فرمقه جمال بنظرات مشجعة، فقال: - أشعر بشيء من الانزعاج بسبب حجب الاتصالات عنا.. شاهدت قبل قليل تقريراً في قناة "الشام".. الناس في شوارع دمشق يمرحون، والاتصالات ناشطة، ووسائل التواصل الاجتماعي تعج بالنقاشات بينهم.. شعرت وكأننا محتجزون، فيما الناس يعيشون هذه اللحظة التاريخية بمرحٍ ملحوظٍ.
ابتسم جمال، ثم قال: - لمكانتنا يا كنان، ضريبتها، وعلينا دفعها.. أعتقد أنك تثق أنني ما كنت لأحجب الاتصالات عنكم، ما لم يكن لذلك دواعٍ أمنية، تخص أمنكم بالدرجة الأولى، وتخص أمن المعلومات التي قد تهم العدو في هذا التوقيت، والذي قد يستفيد من أي معلومة، مهما رأيتها تافهة، بخصوصنا، في هذه المرحلة بالذات.
والتفت إلى البقية، الذين كانوا يتناقشون بمرح حول ما يحدث، وكأن الحرب لعبة "بلايستيشن" يتابعون التعليقات عليها عن بعد، ولديهم قناعة بأن والدهم، هو اللاعب الفائز فيها. قال جمال محدثاً الجميع: - أقترح عليكم أن تزوروا شوارع دمشق، وأن تقضوا أوقاتاً لطيفة في أسواقها، وتفرحوا مع فرحة الناس هناك..
ووجه أنظاره إلى إيمان، التي بدا عليها الاستغراب، فقال لها: - ما رأيك؟
ارتبكت قليلاً، ومن ثم قالت: - كما تريد.. هل ستأتي معنا؟
- لا.. طبعاً، لا.
تحمس الأولاد للاقتراح جداً، وأصرت سهى على الذهاب إلى إحدى مولات دمشق الشهيرة، في قلب المدينة، فيما ألح إياد على الذهاب إلى الحميدية، والاختلاط بعموم الناس، "كي نشعر بنبض الشارع"، حسب وصفه.
فيما نهض جمال، لينزوي بـ إيمان بعيداً عنهم، ويقول: - لا تخافي.. سأبلغ الأجهزة كي تقوم بالاحتياطات الأمنية المناسبة.. أعتقد أنكم بحاجة للخروج في هذه الظروف.. إن استشعرت أي خطر عليكم، سأستجلبكم مباشرةً إلى أقرب موقع آمن..
لم يبدو على إيمان أنها اقتنعت باقتراحه، لكنها سايرته، ولأنها تعلم أن زوجها عادةً ما يستهدف عدة عصافير بحجر واحد، كانت على قناعة بأن جمال لم يقترح ذلك فقط للتخفيف من وطأة شعور الاحتجاز الذي يعاني منه كنان.
وبالفعل، كان جمال يريد أمراً آخر، إلى جانب دفع أولاده لقضاء أوقات طبيعية، كأقرانهم، وتجنيبهم ضريبة مكانته، قدر المستطاع. كان جمال يستهدف من اقتراحه ذلك، إيصال رسالة إلى الغرب، بأن جمال غير محتجز، بل على العكس، هو من يدير الأمور، وأين سيجد أفضل من الأطفال ببراءتهم، ليُثبتوا، عبر وسيلة إعلامية تلتقط صورهم يمرحون مع أقرانهم في شوارع دمشق، أن عائلة جمال في أفضل أحوالها.
كان جمال يعلم تماماً أن بعض مسؤولي الغرب سيتوقعون أنه محتجز، وأن متطرفين في قيادة الجيش والأمن بدمشق، انقلبوا عليه. فذلك الهاجس الغربي لطالما نُوقش في لقاءات عقدها مع شخصيات من نخبهم، وطالما أشارت إليه وسائلهم الإعلامية من حين لآخر.
كانت قيادة الجيش والأجهزة الأمنية السورية تتضمن قيادات جهادية سابقة، كانت منخرطة فيما سبق، في أوساط تنظيمات جهادية، يراها الغرب متطرفة، لذا، كانت نظرية جمال عن استيعابهم، بدلاً من إقصائهم ودفعهم للمزيد من التطرف، غير مقنعة لدى الغرب، إذ كيف ستستوعب متطرفين، في سياق علاقات طبيعية مع الغرب؟.. بعض من يسيئون النية حيال جمال في الغرب، عادةً، كانوا يرون تلك النظرية، بروباغندا، يضحك بها جمال على الغرب، ليُخفي ميوله المتطرفة، التي تعتمل في وجدانه، حسب قناعاتهم.
***
يتبع في الفصل السادس عشر والأخير..
مواد ذات صلة:
بيروت وبغداد تُحكمان من دمشق.. (الفصل الرابع عشر من "الترليونير السوري")
إعادة إعمار سوريا قبيل العام 2040.. (الفصل الثالث عشر من "الترليونير السوري")
بعث سوريا الفاشلة.. (الفصل الثاني عشر من "الترليونير السوري")
نفق الصناعات السرّية قرب تدمر.. (الفصل الحادي عشر من "الترليونير السوري")
منعطف العام 2020.. (الفصل العاشر من "الترليونير السوري")
لقاء المحفل السرّي في بلودان.. (الفصل التاسع من "الترليونير السوري")
حوار مع مرجعية جهادية.. (الفصل الثامن من "الترليونير السوري")
وصولاً إلى الدرك الأسفل، قبل رحلة الصعود.. (الفصل السابع من "الترليونير السوري")
امبراطورية اتصالات كبرى، سرّية.. (الفصل السادس من "الترليونير السوري")
بداية مشوار أسطورة المال والأعمال – (الفصل الخامس من "الترليونير السوري")
سقوط دمشق – (الفصل الرابع من "الترليونير السوري")
عائلة جمال الدمشقي - (الفصل الثالث من "الترليونير السوري")
اللقاء مع اليهودي الأمريكي – (الفصل الثاني من "الترليونير السوري")
من شرفة القصر بالمالكي – (الفصل الأول من "الترليونير السوري")
التعليق