المفاوضات على ضفاف بحيرة جنيف.. (الفصل السادس عشر والأخير من "الترليونير السوري")


مساء دمشق، يوم الخامس من حزيران، 2040، كان مشهوداً، وكأنه عيد. كانت النشوة تغامر الجميع، واندفعت عائلات كثيرة لتجوب المولات، والأسواق التقليدية، مع أولادها. وكأن دمشق ليست في حرب. وكانت وسائل الإعلام تنقل مشاهد الاطمئنان الواضحة في شوارع العاصمة، على الهواء مباشرةً. وفي غمرة التقارير الميدانية، تمكنت كاميرا إحدى القنوات الإعلامية من التقاط فيديو لعائلة الدمشقي، زوجته، وأولاده الخمسة، في الحميدية، يحيط بهم بضعة أفرادٍ من الأمن، ويصافحهم الناس، فيما كانوا يعتزمون دخول محل "بكداش" الشهير، للبوظة الدمشقية.

 وتحدث إياد للكاميرا، قائلاً: "أردنا أن نكون مع بقية السوريين في الشوارع". سأله الصحفي: "لست خائفاً من الحرب". فضحك إياد باستهانة بادية، وردّ: "هل ترى أية مظاهر للخوف بين عامة الناس في الشوارع.. هناك شعور عارم بنصرٍ مؤزرٍ بإذن الله".

حالما بثت القناة الإعلامية التسجيل، وصل تقرير استخباراتي مستعجل إلى مكتب الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض، حيث كان الرجل في حالة استنفار قصوى. قرأ التقرير: "عائلة جمال تمرح في الأسواق، والثقة بادية على الأولاد، والارتياح كان جلياً على زوجته، فيما بقي جمال بعيداً عن الأضواء حتى الآن".

أغضبه التقرير أكثر.. "إذاً، هو يمسك بزمام الأمور، ويدير مكيدة كبرى لإسرائيل".

واجتمع مجلس الأمن القومي الأمريكي، وانضم إليه مسؤولون آخرون، وقال الرئيس الأمريكي بحزم: - يبدو أن جمال يستخف بنا، بشكل جلّي.

قال مدير المخابرات المركزية الأمريكية: - سيدي، أقترح أن نسير وفق الخطة التي اتفقنا عليها. بصراحة، فيديو العائلة أراحني بالفعل، لأن انقلاب المتطرفين على جمال، كارثة أكبر بكثير من كونه يدير الأمور بنفسه. وحالما يستوعب جديتنا في التهديد، سيتواصل معنا. كن واثقاً بذلك سيدي. الدمشقي لن يجرّ سوريا، الآن على الأقل، إلى مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

أيّد معظم المسؤولين الأمريكيين وجهة نظر مدير المخابرات. وتسارعت التحضيرات لمؤتمر الرئيس، الذي كان البيت الأبيض قد أعلن عنه بالفعل.

***

قبيل ذلك بأقل من ساعة، كان 20 ألفاً من قوات المشاة السورية تقتحم بلدات وقرى مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا وعين قنية، ومدن وبلدات عربية أخرى في هضبة الجولان المحتلة. وسط دهشة وذهول سكان تلك البلدات من السوريين المُتبقين في الجولان حتى ذلك التاريخ.

 ووصل المقاتلون إلى ضفاف بحيرة طبريا، وكانت فرق عدة منهم، تقتحم المستوطنات الإسرائيلية في الجولان، الواحدة تلو الأخرى.

في حالات نادرة، واجهت القوات السورية مقاومة محدودة في بعض المستوطنات، فيما استسلم اليهود في معظم المستوطنات حال دخول القوات السورية، والعلم السوري يعلوهم، والتكبيرات ترافقهم. كان الذعر هائلاً في أوساط المستوطنين الإسرائيليين. وبدأ المقاتلون السوريون يمشطون البيوت في المستوطنات، ويجمعون سكانها في ساحاتها، فيما كان النساء والأطفال يبكون، والرجال يتوسلون، وظن بعضهم أن قصة الإعدامات الجماعية التي عاشها فلسطينيون عام 1948، في دير ياسين وبلدة الشيخ وسواهما، ستتكرر هذه المرة، بهم. لكن، لم يتم أذية أحد، إلا من قاوم. وقضت القوات السورية التي دخلت المستوطنات، ليلتها، حتى الفجر، تمشط البيوت، وتصادر الأسلحة، وتجمع النساء والرجال والأطفال من المستوطنين، وتُحصيهم، وتجمعهم في أبنية كبيرة.

***

في تمام الثانية عشرة من منتصف الليل، بتوقيت دمشق، ظهر الرئيس الأمريكي، في مؤتمر صحفي، على الهواء مباشرة، وألقى بياناً، قال فيه بإيجاز: "لقد أوعزت لقواتنا المتواجدة في الشرق الأوسط، بالاستعداد، وأقولها بشكل صريح، وواضح، إن لم يتوقف العدوان السوري على إسرائيل، سنتدخل، ولن تكون هناك خطوط حمراء".

وعقّب الرئيس الأمريكي: "حاولنا التواصل مع جمال الدمشقي في دمشق، لكنه يرفض التواصل معنا، وذلك تصرف غير بنّاء، فالجميع يعلم أنه صاحب الكلمة العليا في دمشق. لا أريد أن أناقش تفاصيل وقف إطلاق النار، المُستعجل، مع مسؤولي حكومة دمشق، أريد مناقشتها مباشرة مع جمال الدمشقي".

وفي رده على أسئلة أحد الصحفيين، أقرّ الرئيس الأمريكي بسقوط 49 طائرة إسرائيلية، أمريكية الصنع، وقال: "لا نعرف من الذي زوّد السوريين بأسلحة مضادة للطائرات، ذات تقنية عالية". فسأله أحد الصحفيين: "هل تُلمّح للروس"، فردّ: "لا أعرف بعد".

سأله أحد الصحفيين: "هل ستقصفون دمشق؟". فأجاب: "لا نحبذ ذلك، لكن كل الخيارات مطروحة على الطاولة، إن لم نجد وسيلة لوقف عاجل لإطلاق النار، وإعادة الهدوء إلى الحدود السورية – الإسرائيلية".

حالما انتهى تصريح الرئيس الأمريكي، فُوجئت شخصية بريطانية تتمتع بنفوذٍ كبيرٍ، وصلات صداقة وطيدة، مع صنّاع القرار في واشنطن من جهة، ومع جمال الدمشقي من جهة أخرى، باتصال من الأخير. قال جمال: "صديقي، أبلغ الأمريكيين أن تدخلهم يعني سقوط كل الخطوط الحمر، من جانبنا أيضاً، وستكون العواقب وخيمة أكثر بكثير مما يظنون".

فأجابته الشخصية البريطانية: "جمال، ما رأيك لو نهدأ جميعاً، لنلتقي في ويلز مرة أخرى".

"أبداً.. ليس الآن.. بعد أن خرق الإسرائيليون تعهداتهم، وصف الرئيس الأمريكي ما يحدث بالعدوان السوري، أين كان ليلة أمس، ألم تصله تقارير مخابراته بأن طائرات إسرائيلية، انطلقت لتقصف موقعاً عسكرياً قرب العاصمة.. صديقي.. نحن نعلم أنكم كنتم تعلمون بنيّة الإسرائيليين، وأنكم أجزتم لهم ذلك.. إذاً، ليتحمل الجميع العواقب.. وإذا أراد الأمريكيون دفع الأزمة إلى أقصاها، صدقني، ستكون المفاجآت أثقل بكثير مما يتوقعون".

"جمال.. ما دمت تعلم أننا نعلم بنيّة الإسرائيليين.. إذاً، أنت تعلم أيضاً سبب إقدام الإسرائيليين على ذلك. لقد كانوا واثقين من أنك تطوّر مقدرات عسكرية تشكل خطراً على أمنهم، وكنت تنفي، وكنا نهدئهم دوماً ونقول لهم، إنكم تبالغون.. لكنك اليوم أثبت للجميع، أن الإسرائيليين كانوا على حق..جمال.. لن يترك الغرب إسرائيل تغرق وحدها، سيغرق الجميع معها".

"ما دام، لم يتدخل الأمريكيون، أو أحد آخر، فعجلة الأمور يمكن أن تعود إلى الوراء، لكن الوقائع على الأرض ستتغير.. ولن أقبل بأقل من ذلك".

"تقصد أننا نستطيع إعادة إحياء وقف إطلاق النار".

"سنتفاوض على ذلك، في الوقت المناسب".

"ما المدى الذي تنوي الذهاب إليه في عمليتك العسكرية؟".

"يتوقف ذلك على موقف الغرب تحديداً.. كلما كان تدخلهم مُنصفاً، كلما كنا مستعدين مبكراً، للجلوس على طاولة المفاوضات، من جديد، برعاية الغرب.. وكلما تصرف الغرب بانحياز أعمى لإسرائيل، كلما اضطررنا إلى الذهاب في عمليتنا العسكرية، إلى مدىً أبعد".

***

وصلت الرسالة سريعاً إلى واشنطن. وقبيل أذان الفجر في دمشق، بهُنيهة، خرج وزير الخارجية الأمريكي في تصريح متلفز، وعاجل، يؤكد بأن واشنطن منفتحة على كل المساعي للتواصل مع دمشق، وأنها تثق بأن حكومة دمشق جديرة بالثقة والتعاون، وأن واشنطن تقدّر غضب السوريين حيال التهور الإسرائيلي، لكنها تنتظر إجراءات بنّاءة للتواصل مع المسؤولين بدمشق، وحلحلة الأمر سريعاً.

واتصل وزير الخارجية الأمريكي، بنظيره السوري، وتحدثا مطولاً، وعرض عليه لقاءً عاجلاً في جنيف. ووعده الوزير السوري بدراسة المقترح، ببرودٍ كبيرٍ.

وحالما تنفس الصبح، يوم السادس من حزيران، عام 2040، تمكنت مراصد إسرائيلية في الجليل، من رصد تحركات الجيش السوري، بشكل جلّي، على الضفة الأخرى من بحيرة طبريا. "لقد وصلوا إلى بحيرة طبريا". وصل الخبر إلى غرفة العمليات في القدس الغربية.

كانت الاتصالات ما تزال مقطوعة تماماً عن هضبة الجولان، ولم يكن أحد يعرف ما الذي يحدث هناك. ولم يكن قد صدر أي بيان أو إعلان عن السلطات الرسمية السورية، يتحدث عن أية تفاصيل جديدة بخصوص الاشتباكات الجارية في الجولان. كان آخر إعلان ذاك الذي تحدث عن إسقاط 49 طائرة إسرائيلية، عصر اليوم السابق. ومنذ ذلك الحين، والتعتيم يسود الأخبار عن تطورات المعركة، الأمر الذي دفع بعض السوريين إلى الاستياء، متسائلين: "لماذا لا يُطلعونا على تطورات الأحداث؟". وزخرت وسائل التواصل الاجتماعي بالنقاشات والتعليقات، وأدلى كل السوريين بآرائهم، وكانت الغالبية العظمى منهم تشعر بارتياح كبير لمجريات الأمور، ذلك أن كل وسائل الإعلام، خاصة تلك التي ترصد الأصداء في إسرائيل، تؤكد أن الإسرائيليين في حال رعب شديد، وأن وسائل المراقبة والرصد عاجزة عن الكشف عما يحدث في الجولان.

وحوالي الساعة التاسعة والنصف، صباحاً، تعرضت القوات الإسرائيلية المُرابطة في مزارع شبعا وكفرشوبا، اللتين تُعتبران، لبنانيتين، وما تزالان تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، منذ أن أوقف حزب الله، في نهاية عام 2006، كل عملياته القتالية ضد إسرائيل.. تعرضت تلك القوات لهجوم مباغت من قوات سورية، وكان الهجوم شديداً، لكن لم يتم التشويش على الاتصالات، فأوعزت قيادة الجبهة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، للقوات الإسرائيلية في المنطقتين، بالانسحاب فوراً. وانسحبت تلك القوات سريعاً، لتتقدم القوات السورية، وتبسط سيطرتها على كامل المنطقتين، وتتوقف تماماً عند خط الحدود التاريخي، الفاصل بين فلسطين ولبنان، حسب ترسيم الحدود عام 1923.

توقف القوات السورية عن التقدم، فُسّر في غرفة قيادة العمليات بالقدس الغربية، تفسيرين متناقضين، الأول، أن جمال الدمشقي يرسل رسالة مفادها، أنه سيتوقف عند استعادته كامل الجولان، ومزارع شبعا وكفرشوبا، أي سيتوقف عند حدود فلسطين التاريخية، وفق ترسيم الحدود عام 1923. ودعا أصحاب هذا التفسير إلى تقبّل ذلك، والتعامل معه كأمر واقع، بغية تسريع عملية وقف إطلاق النار. كان وزير الدفاع من أصحاب ذلك التفسير، قال: "علينا ألا نعاند، لقد انتصروا، لنُحجّم نصرهم، لأننا إن عاندنا، وعبروا إلى شمال إسرائيل، ستكون كارثة، قد لا نتمكن من تلافي تبعاتها".

لكن أصحاب التفسير الثاني، كان لديهم رأي آخر، كانوا يرون أن جمال ربما يعتمد استراتيجية تأمين المناطق التي يسيطر عليها، بشكل جيد، قبل أن يتقدم إلى مناطق أخرى. واقترح أصحاب هذا التفسير أن على إسرائيل استخدام قدراتها الصاروخية عالية الدقة، والتهديد علناً بالسلاح النووي، كي تردع جمال، وتوقفه عند حدّه.

وانقسمت القيادة الإسرائيلية، بين راغبين بوقف عاجل لإطلاق النار عبر التفاوض، وبين من يريد الذهاب بعيداً في استخدام القدرات العسكرية الإسرائيلية الأخرى، التي لم تُستخدم. وانعكس ذلك الانقسام على صنّاع القرار الأمريكي في واشنطن، الذين كانوا بدورهم، منقسمين أيضاً، حول ذات الموضوع، بين مسؤولين يريدون ضبط الأمور، والتواصل مع جمال سريعاً، للوصول إلى وقف لإطلاق النار، وبين من يريد التحرك عسكرياً، لإعطاء جمال درساً، كي لا يُختم المشهد بصورة تنال من الهيبة الأمريكية حول العالم.

كان بعض رموز القيادات الإسرائيلية، الذين كانوا في حالة انهيار كامل مساء الخامس من حزيران، قد تجلدوا، صباح اليوم التالي، وانقلبت آراؤهم إلى الضدّ. ذلك أن الأنباء التي وصلتهم من واشنطن، والتي تُفيد بإصرار الرئيس الأمريكي على إظهار قدرٍ أكبرٍ من الحزم حيال السوريين، قد أشعرتهم بشيء من التوازن النفسي. يُضاف إلى ذلك، أنهم اطمئنوا للتحركات الأمريكية المكثفة للتواصل مع السوريين في دمشق. وكان رأي تلك القيادات، أن من الأفضل تعضيد خط التفاوض، عبر إجراء عسكري إسرائيلي، ولو كان على سبيل التهديد، بصورة تدعم الموقف الإسرائيلي في المفاوضات المُزمعة.

ورغم معارضة وزير الدفاع لوجهة النظر هذه، إلا أنه خضع لغالبية الآراء التي اتفقت على ضرورة إظهار المزيد من الحزم حيال دمشق، كي لا يتحول الأمر إلى هزيمة مطلقة ونكراء، بصورة تهدد الأمن الإسرائيلي مستقبلاً. وافق وزير الدفاع على رأي الأغلبية، على مضض. كان يخشى أن يكون في جعبة جمال مفاجآت نوعية أكبر من مجرد مضادات للطيران، وأجهزة التشويش والتعتيم على الاتصالات والأقمار الصناعية. كان يخشى من أن يكون الذهاب في المواجهة إلى مراحل أخطر، يعني، تنازلات أكبر، في المستقبل.

في دمشق، كان جمال الدمشقي قد علم للتو، خلاصة مجريات اجتماع القادة الإسرائيليين في غرفة العمليات بالقدس الغربية. كانت الأقمار الصناعية السورية، المُصغرة، الخفية عن الأعين، حتى الآن، ترصد من الفضاء الخارجي، حتى الهمسات، في داخل غرفة قيادة العمليات الإسرائيلية.

وأوعز جمال للجيش، ولجهازه البحثي والتقني، بتنفيذ الخطة ب. كانت كل الأمور معدة مسبقاً. وفي بقعة مهجورة، محاطة بإجراءات أمنية مشددة، في عمق البادية السورية، كان فريقٌ من العسكريين والباحثين يعملون كخلية نحل، تجهيزاً لمفاجأة من النوع الثقيل.

وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بخطاب متلفز، على الهواء مباشرة، توجه فيه للشعب الإسرائيلي، مُقرّاً بوصول القوات السورية إلى بحيرة طبريا، وبغياب الجولان تماماً عن شاشات الأقمار الصناعية، بصورة لم تسمح حتى الآن للقيادة الإسرائيلية بالكشف عن مصير لواء غولاني وسكان المستوطنات، هناك. لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي، عقّب: "نظراً لوصول الخطر على الأمن القومي الإسرائيلي إلى مراحل غير مسبوقة، حيث بات الشمال الإسرائيلي مهدداً بعبور مقاتلين متطرفين من السوريين إليه.. أُعلن، أن إسرائيل بصدد استخدام السلاح النووي، وتوجيهه للعاصمة السورية، أو أي مدينة أخرى، ترتأي المصلحة استهدافها، إن تقدمت القوات السورية أكثر. وننذر المسؤولين في دمشق، أن عليهم سحب قواتهم، عاجلاً، من المناطق التي دخلوها، والكشف عن مصير مقاتلينا ومدنيينا المفقودين، وإلا، فإن إسرائيل ستلجأ لكل الوسائل المتاحة لوقف العدوان السوري، وردعه".

في هذه الأثناء، كان الأسطول الأمريكي السادس، يقترب من الشواطئ السورية. وتداولت وسائل إعلام غربية تسريبات عن وجود قرارات بتوجيه ضربات أمريكية صاروخية، لعمق الأراضي السورية، تنتظر توقيع الرئيس الأمريكي.

وبدأت مشاعر الخوف تتسرب إلى السوريين، وظهر ذلك جلياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وبدأت شريحة منهم تطالب حكومتها، بلفلفة الأمر، قبل أن تنجر البلاد إلى حرب شاملة، لا قِبل لها عليها.

في خضم تلك الأجواء، ظهر متحدث عسكري سوري، على شاشات القنوات السورية، معلناً عن حدث جلل في تاريخ السوريين، والأمة العربية والإسلامية، دعا الجميع لمتابعته بعد أقل من نصف ساعة من الآن.

وتسمّرت شعوب عديدة أمام شاشات القنوات الإخبارية، العربية والعالمية، التي كانت تنقل بث قناة "الشام" الدولية، المملوكة لـ جمال الدمشقي، والتي عادةً ما تبث أحدث الأخبار والتسريبات.

بعد أقل من نصف ساعة، انتقل بث قناة "الشام" الدولية، إلى بقعة صحراوية، ومن ثم ظهر قادة عسكريون يجلسون وراء إطلالة زجاجية ضخمة، وآخرون يرصدون بالمناظير تلك البقعة الصحراوية.

وبعيد وهلة من الزمن، نقلت الشاشات صورة تفجير هائل، شكّل سحابة مهولة اتخذت شكل "الفطر". وبعيد دقائق فقط، اكتظت مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات، "إنها قنبلة نووية"، "سحابة الفطر"، "تجربة نووية في سوريا".

وبعيد انتهاء البث المباشر من مكان التفجير، وفيما كان محلل عسكري على شاشة "الشام" الدولية، يتلعثم من هول المفاجأة، ظهر على الشاشة خبر عاجل، يعلن بأن الرئيس السوري، سيظهر في كلمة متلفزة بعد قليل.

وبعد أقل من عشر دقائق، ظهر ناجي الفتيحي، في تسجيلٍ مصور، ليقول: "نعلن لشعبنا العظيم، وللعالم أجمع، أن الجمهورية السورية دخلت اليوم، النادي النووي. فقد تم اليوم، وبنجاح، تجريب قنبلة نووية، هي واحدة من عشرات القنابل الأخرى، التي تمتلكها قواتنا المسلحة. ونقول للعالم أجمع، هو سلاح لردع أي عدوان، ورسالة تحذير بغرض السلام، نأمل أن تصل إلى من تعنيهم".

وحالما انتهت كلمة الرئيس السوري، أُطلقت صفارات الإنذار في عدة مدن إسرائيلية، من بينها القدس الغربية. وعمّ الذعر الشوارع والمحلات، وسارع الإسرائيليون إلى الملاجئ، ونقلت وسائل إعلامية عديدة صوراً من شوارع القدس الغربية وقد فرغت خلال دقائق من الناس، بصورة شبه كاملة، فيما كانت صفارات الإنذار تولول.

وفي غرفة قيادة العمليات، بالقدس الغربية، اتصل المسؤول الأمني السوري الرفيع ذاته، بمدير الموساد، الذي وضع المكالمة على السبيكر، وتحلق حوله المسؤولون ليستمعوا. قال المسؤول الأمني السوري: "أعداؤنا الأعزاء، الصاروخ الثاني سيسقط بعد دقائق في إحدى مباني مفاعل ديمونا، لكن لا تخافوا، فهو سيسقط في مبنى بعيد عن الأبنية التي تتضمن الوقود النووي والأسلحة المخزنة. ويمكن لكم، بعيد سقوطه، أن تتأكدوا بأنه صاروخ بالستي، قادر على حمل رؤوس نووية. أرجو أن تكون قد وصلت الرسالة. شلوم".

أما في دمشق، فنزل الناس إلى الشوارع، ورغم مخاوف بعض الأمهات، وثلة أقل من الآباء، إلا أن معظم الشباب، والكثير من النسوة والأطفال، وحتى الكهول، كانوا يرقصون ويحتفلون في شوارع دمشق، وأرتال من السيارات تُطلق زماميرها بنغمات فرحة، ويخرج من نوافذها شبان وفتيات، يلوحون بالعلم السوري، علم الثورة، علم سوريا قبل البعث. وتكرر المشهد في مختلف المدن السورية، حتى في اللاذقية وطرطوس، وفي القامشلي وعامودا والحسكة، وفي السويداء أيضاً.

وفي واشنطن، ظهر متحدث عسكري في البنتاغون، في مؤتمر صحفي موجز، ليؤكد: "رصدت أقمارنا الصناعية تفجيراً نووياً هائلاً في عمق البادية السورية". وعقّب: "السوريون يملكون السلاح النووي". ثم استطرد: "ولدينا معطيات تؤكد أنهم يملكون صواريخ بالستية بعيدة المدى، قادرة على حمل رؤوس نووية، أطلقوا أحدها قبل قليل، في الأجواء الإسرائيلية، لكنهم لم يستهدفوا أية مدينة أو موقع إسرائيلي، لقد سقط الصاروخ في الصحراء، فيما يبدو أنها رسالة تحذير".

لم يقل المسؤول العسكري الأمريكي أن الصاروخ البالستي الثاني، سقط داخل مفاعل ديمونا، ولم تعلن السلطات السورية شيئاً عن الأمر، في حينه.

ومع التصريح الأمريكي هذا، عمّت الاحتفالات مدناً عربية وإسلامية عدّة، بيروت، عمان، بغداد، القاهرة، ومدناً خليجية، وأخرى يمنية. وكذلك، في اسطنبول وأنقرة وغازي عينتاب. كانت الفرحة عارمة في الشارع العربي والإسلامي. فيما كان الإسرائيليون مختبئين في الملاجئ، والرعب يداعب أذهانهم، والعاقل منهم، يقول في وجوم: "يبدو أنها هرمجدون بالفعل".

***

ومع حلول ظلام، يوم السادس من حزيران، عام 2040، حصل تطور نوعي جديد، إذ أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي أمر بتفعيل حالة الاستعداد الدفاعي من مستوى "ديفكون 2". وهي أعلى مستوى من حالات الاستعداد العسكري، وصلتها الولايات المتحدة الأمريكية، في تاريخها، مرة في أزمة الصواريخ بكوبا، ومرةً في حرب الخليج الأولى عام 1991. وتعني، أن هناك خطر حرب نووية، متوقع. ويُفيد هذا الإعلان، بأن القوات المسلحة الأمريكية، حول العالم، باتت في حالة تأهب واستعداد، مع التأكيد على جاهزيتها للعمل في حدود ست ساعات.

كانت رسالة واضحة لـ جمال الدمشقي، بأن الولايات المتحدة الأمريكية في طريقها للتدخل. وبدأ المحللون العسكريون في مختلف وسائل الإعلام، يوضحون ماذا يعني الإعلان الأمريكي. وفهم السوريون، جلياً، أن بلدهم باتت قاب قوسين أو أدنى من مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

في هذه اللحظات، اتصلت الشخصية البريطانية المتنفذة، بـ جمال الدمشقي. قال المتحدث: "جمال.. ما رأيك لو نلتقي في ويلز بعيداً عن الأضواء؟.. هناك العديد من الأصدقاء يصرّون على هذا اللقاء بشكل عاجل".

"نعم.. لكن، ليكن في جنيف. سأبلغ أصدقائنا في سويسرا بإعداد الأمر. سنعقد اللقاء في قصري الصغير على البحيرة، بعيداً عن ضجيج المدينة، وكاميرات الإعلام".

"حسناً".

***

قبل أن يغادر، احتضنته إيمان لوهلة، ثم تهاوى صوتها، وقالت: - لا تذهب.. أرسل أحداً مكانك.

أمسك برأسها، برفق، ونظر في عينيها، ومسّد شعرها، كانت عيناها تتلألأن بالدمع. قال: - لا تخافي يا حبيبتي.. لن يجرؤوا على مسّي بسوء.. على العكس، هم يريدون التفاهم معي بأي طريقة.. وهم يفضلون التفاهم معي، على أن يتخلصوا مني، فتصبح القدرات النوعية التي نمتلكها في قبضة قيادات لا يعرفونها، ولا يعرفون كيف يمكن التعامل معها.

-    أعلم ذلك.. ولكن.. يمكن لك أن ترسل أحداً آخر.
-    لقد تعبنا كثيراً كي نصل إلى هذه اللحظة، يجب أن أُشرف بنفسي على استثمارها.

ودّعته، بمرارة. وانطلق جمال بواسطة حوامة خاصة من مهبط خاص في قصره بدمشق، نقلته إلى مطار دمشق الدولي، حيث انتقل إلى طائرته العملاقة الخاصة، ليُغادر دمشق قبيل منتصف الليل.

وفي صباح اليوم التالي، السابع من حزيران، عام 2040، اجتمعت ثلة مُصغّرة من صفوة النخبة في العالم، مع جمال الدمشقي، في قصره المطل على بحيرة جنيف. كان جُلّهم من الأمريكيين، من بينهم، مدير المخابرات المركزية، ووزير الخارجية، ورئيس هيئة الأركان العامة، إلى جانب شخصيات بريطانية، وفرنسية، وألمانية، وسويسرية، وثلاث شخصيات إسرائيلية، هم، وزير الدفاع، ورئيس هيئة الأركان ومدير الموساد.

كانت بداية الاجتماع متوترة للغاية، إذ كان الغضب مُتجلياً في وجوه الشخصيات الإسرائيلية، مع نبرة لؤم واضحة في الكلام. فيما كان جمال هادئاً جداً. وكان معه، ثلاثة مستشارين شخصيين، ومسؤول دبلوماسي سوري رفيع يثق به، إلى جانب المسؤول الأمني الرفيع الذي سبق أن تحدث إلى الإسرائيليين بعيد إطلاق الصاروخين البالستيين، جلس إلى جواره ثلاثة مسؤولين عسكريين رفيعي المستوى من هيئة أركان الجيش السوري.

جلست الشخصيات الرئيسية حول طاولة مستديرة ضخمة، من خشب الزان الموشّى بالموزاييك، فيما جلس مساعدو كل شخصية حاضرة، على مقاعد قريبة من الطاولة، كل مجموعة مساعدين خلف الشخصية الرئيسية الخاصة بهم، قريباً من الطاولة المستديرة، بصورة تسمح لهم بسماع تفاصيل النقاش.
 
حاولت الشخصية البريطانية المُتنفذة ذاتها، إدارة الجلسة، وبدأت الكلام حول الضرورة الملحة للفلفة الأمور قبل أن تفلت تماماً من زمام سيطرة كل الأطراف. وتوجه بالكلام إلى جمال، قائلاً:

-    جمال.. أنت تعلم أننا نعدّك واحداً منا.. فأنت من شخصيات المحفل النادرة، التي تحمل جنسية عربية.

فانبرى وزير الدفاع الإسرائيلي ليتحدث بنبرة حادة: - لكنه لم يكن عند حسن ظننا به.

قال جمال بهدوء: - لم أكن أظن أن مشاركتي في لقاءات المحفل المذكور، تعني نيلي العضوية فيه، فحضوري، كما يعلم جميع الموجودين هنا، كان حضوراً شرفياً، لتعزيز صلات الصداقة بين رجالات النخبة في العالم، ولإيجاد قنوات هادئة لحلحلة المشكلات حول العالم، بعيداً عن ضغوط الإعلام والرأي العام..

قاطعته الشخصية البريطانية المتنفذة: - وهذا ما قصدته.. ونحن هنا في سبيل ذلك..

لكن جمال استطرد: - أما أنني لم أكن عند حسن ظنكم بي.. فلم أكن أعرف أن المطلوب مني إثبات حسن ظن شخصيات إسرائيلية بي.. ولم أكن أظن أن هذا المحفل، قيادته إسرائيلية.. كنت أظنه محفلاً لصفوة القيادات في العالم..

تدخلت الشخصية البريطانية سريعاً: - وهو كذلك.. أرجوكم، لا نريد تحويل دفة الحديث نحو مهاترات جانبية.

وتدخل وزير الخارجية الأمريكي ليقول: - دعنا ننسى موضوع المحفل الآن.. نحن هنا لأمر طارئ.. الشرق الأوسط على شفا حرب نووية.. سيد جمال، لقد خدعتنا طوال سنوات.. لقد كان الإسرائيليون محقون في أنك تطوّر قدرات تهدد أمنهم ووجودهم.

قال جمال: - سأوجز.. كي لا نضيع الوقت الثمين المُتاح لدينا.. عدم الثقة المتبادلة هي أساس المشكلة، فحينما أجد إسرائيل منكبة سنوياً على تطوير قدراتها العسكرية، رغم أنها في حالة سلام أو وقف إطلاق نار مع كل دول الطوق المحيطة بها، فيما إيران باتت تتمتع بعلاقات قريبة من التطبيع معها، ولم يعد هناك تهديد حدودي لهم.. فالأمر يوحي بأنهم يعدون العدّة لأمر ما.. لذا من الطبيعي أن نُعد بدورنا العدّة لحماية أنفسنا من أية مغامرات، كتلك التي تورطت بها القيادة الإسرائيلية فجر الخامس من حزيران. ومن ثم.. لم أسمع من الضامنين لوقف إطلاق النار، وأعني تحديداً الأمريكيين، أي موقف حازم حيال إسرائيل طوال 12 ساعة أعقبت عدوانهم، ولم نتحرك خلالها بانتظار موقف عادل ممن كنا نظن أنهم الضامنون حقاً لوقف إطلاق النار. فعلاً، لا قولاً.

شهق وزير الخارجية الأمريكي، وزفر بهدوء، ثم قال: - نعم.. سأكون صريحاً معك.. لقد أخطأنا في ذلك، لكننا كنا تحت ضغط مخاوف حلفائنا الإسرائيليين من أنك تمتلك قدرات تهدد أمنهم، وقد ثبت أن ذلك صحيح.

-    سيدي الوزير، أنا أعلم، بشكل يقيني، أنكم وافقتم على خطة العدوان الإسرائيلي، وكفلتم لهم حمايتهم إن تطورت الأمور بصورة غير متوقعة.. وهذا ما تفعلونه الآن..

تدخلت الشخصية البريطانية المُتنفذة: - لن تسير دفة الحديث إلى نتيجة مثمرة، وفق هذه المنهجية.. ليطرح كل طرف ماذا يريد، ولنجري تفاوضاً على أساس ذلك.

قال وزير الدفاع الإسرائيلي: - حسناً.. بإيجاز.. نريد من السوريين أن ينسحبوا من المناطق التي سيطروا عليها، وأن يكشفوا عن مصير لواء عسكري كامل، وعشرات آلاف المدنيين الذين لا نعرف شيئاً عن مصيرهم حتى الآن. لتعود الأمور إلى سابق عهدها، ومن ثم، يمكن تحديد قواعد جديدة لوقف إطلاق النار.

قال جمال بحدة: - لقد انتهى عهد الإملاءات الخاص بكم.. هذا عهد جديد.. لا تحلموا بالجولان إلا على جثتي.

قال وزير الدفاع مبهوتاً: - ماذا؟

قالت الشخصية البريطانية المُتنفذة: - جمال.. اهدأ.. النقاش لا يكون بهذه الطريقة أرجوك، نحن في وضع حرج جداً، وبلدك ليست في مأمن تماماً.

-    صدقني يا صديقي، بلدي في مأمن تماماً.. وما دام هناك عقلية تقوم على الإملاءات، فلن نستطيع إيجاد سبيل بنّاء للنقاش.

قال وزير الدفاع الإسرائيلي: - لقد طرحنا ماذا نريد.. لم نُملي.

تدخل مدير المخابرات المركزية الأمريكية: - سيد جمال.. لقد بت تملك قنبلة نووية، أو ربما أكثر، وذلك يرتب عليك مسؤولية كبرى.. فالمواجهة النووية ليست لعبة.. إن كنت تملك عشرات القنابل النووية، فإسرائيل تملك المئات، والولايات المتحدة الأمريكية تملك الآلاف.. لا يمكن لك أن تفكر بهذه الطريقة.

-    جميل.. إذاً، لنُحيّد التهديد النووي، الذي أطلقه الإسرائيليون بالمناسبة، ولست أنا.. إن حيّدنا ذلك التهديد، ونسينا تماماً أن السلاح النووي مطروح في المواجهة.. لقد انتصرت قواتنا، ومن حقنا الاحتفاظ بالأراضي التي استعدناها، مع التذكير، لمن غاب عن ذهنه ذلك، هي أرضنا بالأساس، حتى أنها ما تزال حتى اليوم، بموجب القرارات الدولية، أرضاً محتلة، وقد استعدناها، فعلى أي أساس يتحدث السيد وزير الدفاع عن الانسحاب.. طريقته في الكلام تُوحي بأنه يهدد بإدخال عامل غير تقليدي في المواجهة، لأنه وفق الظروف الميدانية الراهنة، وباستخدام الأسلحة التقليدية، يبدو أن الطريق مفتوح أمامنا حتى القدس.

قال وزير الدفاع الإسرائيلي بحدّة: - تهديد جلّي لن أقبله.

نهض جمال من خلف الطاولة المستديرة الضخمة التي تجمع الشخصيات الرئيسية المُجتمعة، وقال: - اعذروني، أعتقد أن النقاش بات عبثياً، لم آت إلى هنا من أجل ذلك.. أنا مضطر للانسحاب.

وغادر جمال الغرفة، ولحقت به الشخصية البريطانية المُتنفذة، أمسكته من ذراعه برفق وهو في إحدى أروقة القصر التي كان يغادر عبرها، وقالت له: - أرجوك يا جمال.. لقد كنا سعداء للغاية أن عثرنا على شخصية سورية مثلك، يمكن أن نثق بها في إدارة هذا الجزء الكبير من الهلال الخصيب بصورة لا تهدد أمن القوى الإقليمية أو الدولية.. لا تهدم كل معالم الثقة بيننا.. لا يمكن لك أن تفكر بإنهاء إسرائيل.. لا أحد من الكبار سيقبل بذلك، وستجر بلدك لمواجهة دولية كبرى، لا قدرة لك على صدّها.

-    من قال أنني أفكر بإنهاء إسرائيل..
-    إذاً، ما معنى عبارتك، "الطريق مفتوح أمامنا حتى القدس".
-    صديقي العزيز.. لن نتمكن من الحوار مع الإسرائيليين إن كانوا ما يزالون يتوقعون مني العودة إلى ما قبل فجر الخامس من حزيران.. الآن، هناك على الأرض وقائع جديدة، يجب أن يكون التفاوض على أساسها. أما أن يناقشوني من منطلق، إما أن تنسحب، أو نستخدم السلاح النووي.. فما فائدة النقاش إذاً؟
-    حسناً.. اهدأ، دعنا نأخذ استراحة لبضع ساعات، ونعاود النقاش بعد العصر.
-    حسناً.

***

في مسعى لمنع انهيار المفاوضات، استطاعت الشخصيات الأوروبية الوسيطة إقناع الإسرائيليين بعدم المغادرة، فيما اتهم هؤلاء جمال الدمشقي بالمماطلة المقصودة، بغية فرض وقائع جديدة على الأرض، لتعزيز موقفه التفاوضي أكثر، بواسطتها. لكن تدخل الأمريكيين الذين أيدوا زملائهم الأوروبيين أدى إلى الاتفاق على استراحة تدوم إلى ما بعد عصر السابع من حزيران.

كان جمال، قبيل مغادرته إلى جنيف في الليلة الفائتة، قد اتفق مع القيادات بدمشق على تنفيذ سلسلة من الأفعال، حالما يُوعز لهم بذلك، من جنيف. وكانت التحضيرات جارية على قدم وساق، لتهيئة متطلبات تنفيذ التعليمات حالما يصل الضوء الأخضر لتنفيذها من جنيف. وحالما غادر جمال الاجتماع التفاوضي الصباحي، أعلم القيادات في دمشق، بتنفيذ ما اتفقوا عليه.

وظهر وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان في الجيش السوري، على شاشات التلفزة، وهما ينفذان جولة تفقدية في الجولان، جابا خلالها بعض التحصينات والخنادق الإسرائيلية المدمرة، ثم استعرضا عدة مئات من الأسرى من مقاتلي لواء غولاني الإسرائيلي، طلبا من الجنود السوريين الإحسان إليهم، ومن ثم، رفعا العلم السوري على نقطة تقع على ضفاف بحيرة طبريا، وسط هتاف الجنود السوريين وتكبيراتهم. ومن ثم، بدأ الوزير ورئيس الأركان بجولة مراقبة ورصد، بالمناظير، في أفق البحيرة، التي تقع على طرفها الآخر، فلسطين التاريخية.

بعيد ذلك، خرج الرئيس السوري في تسجيل مصوّر، يُعلن استعادة كامل هضبة الجولان السورية، المحتلة منذ 73 عاماً. وأكد أن الجنود السوريين يسبحون الآن في شاطئ البحيرة الشرقي، وسط استعدادات محتملة للعبور إلى الطرف الآخر. وطلب من السوريين الدعاء للجنود البواسل بالنصر المؤزر، مشيراً إلى أن الحرب لم تتوقف بعد.

ومن ثم، تجولت كاميرا قناة "الشام" الدولية، في إحدى المستوطنات الإسرائيلية، وتحدثت إلى مستوطنين ظهر عليهم الوجوم، وتحدثوا بالعبرية، بشيء من التحفظ، والخوف جلّي على محياهم.

كان هناك 100 ألف مستوطن في الجولان، باتوا في قبضة القوات السورية، فيما كان هناك 15 ألف مقاتل من لواء غولاني الإسرائيلي، مجهولي المصير، بالنسبة للإسرائيليين.

وقبيل العصر ببرهة، ظهر نائب الرئيس السوري، وسام شرف، في حديث صحفي مع إعلامي سوري مخضرم، ليقول: "هناك قناة تفاوض قائمة الآن، لكن الإسرائيليين يتعنتون، لم يستوعبوا بعد بأن الحقائق الميدانية، التي تعودوا عليها منذ أكثر من سبعين سنة، تغيرت، وأن لا رجعة للوراء، لذا أعتقد بأننا قد نكون مقبلين على حرب داخل الأراضي الفلسطينية.. لن نتوقف إلى أن نضمن شروطاً عادلة لوقف إطلاق النار هذه المرة".

ولليوم الثاني على التوالي، عمّت الاحتفالات شوارع دمشق ومختلف المدن السورية، وبعض المدن العربية والتركية. وفي دمشق، ملأ الناس الشوارع في مهرجانات فرح. بالأمس احتفلوا بامتلاك بلدهم سلاحاً نووياً وصواريخ بالستية قادرة على نقله، تغطي المدى الإسرائيلي. واليوم، يحتفلون بالسيطرة على كامل هضبة الجولان المحتلة منذ أكثر من سبعة عقود. كانت دمشق تعيش أيام فرحٍ زاهية، وكأنها لم تكن تلك المقصية عن الحضارة الإنسانية، والمنزوية تحت لواء حكم قروسطي، منذ تسع سنوات فقط.

كانت دمشق هذه الأيام، قبلة الاهتمام العالمي، ومصدر إلهام مُشع لجماهير عريضة من العرب والمسلمين، ومكمن فخر مُنتشٍ في نفوس أبنائها من السوريين.

***

وبعد عصر السابع من حزيران، رفض الإسرائيليون حضور جلسة المفاوضات، وأصرّوا على أن يُقدّم جمال الدمشقي إجراءات حسن نيّة، قبل حضورهم، متذرعين بأنه تسبب بإحراج هائل لهم أمام الرأي العام في بلدهم، بعد ما بثته وسائل الإعلام من صور للأسرى الإسرائيليين وللمستوطنين الخائفين. مشيرين إلى أنهم لن يقبلوا برسائل التهديد المرسلة من دمشق، بالعبور إلى داخل فلسطين.

وحاولت شخصيات أوروبية وأمريكية تشكيل قناة تفاوض غير مباشرة، يكونون الوسطاء فيها، دون أن يجلس الطرفان على طاولة واحدة. لكن جمال رفض أي تفاوض إلا وفق أسس متفق عليها، ويُقر عليها الإسرائيليون. وتعقّد المشهد. وفي هذه الأثناء، عبرت وحدات من الجيش السوري بزوارق، ليلاً، إلى الشطر الغربي من البحيرة، وسط قصف مدفعي مكثف، وتشويش على الاتصالات.

وفي وقت متأخر من مساء السابع من حزيران، غابت مدينة طبريا، ومعظم الساحل الغربي لبحيرة طبريا، عن عالم الاتصالات ورقابة الأقمار الصناعية. وسرعان ما فرّ الجنود الإسرائيليون من مواقعهم، حالما فقدوا القدرة على التواصل مع قياداتهم، تجنباً لمصير مماثل لذلك الذي حل بأقرانهم في الجولان. كما فرّ معظم المدنيين الإسرائيليين من طبريا ومن المستوطنات في تلك البقعة. وبات جلياً أن الشطر الغربي من بحيرة طبريا، أصبح في قبضة السوريين، وأن الحرب باتت داخل الأراضي الفلسطينية، في شمالها بالتحديد.

وقبيل منتصف ليل السابع من حزيران، طلب الإسرائيليون اجتماعاً عاجلاً مع جمال الدمشقي، نجحت الشخصية البريطانية المتنفذة في ترتيبه بعد أن أقنعت الأمريكيين بعدم الانجرار وراء دعوات التصعيد من جانبهم، لأن لدى جمال، كما هو جلّي، مفاجآت أخرى، والخطر بات محدقاً أكثر بعمق الأراضي الإسرائيلية، وما عاد يحتمل أي مشادات، أو تصعيد غير محسوب العواقب.

وتم الاتفاق على اجتماع عاجل، وافق عليه جمال، بحضور الشخصيات الإسرائيلية الثلاث. وكانت الشخصية البريطانية المتنفذة قد اشترطت أن تتولى إدارة المفاوضات، وألا يخرج أي من الطرفين عن المسار المتفق عليه للنقاش. وافق الطرفان على ذلك.

واجتمعت الشخصيات من الطرفين، بوجود الوسطاء الأوروبيين، إلى جانب مسؤولين أمريكيين، من جديد، في قصر جمال، حول طاولة الزان المستديرة الضخمة. وقالت الشخصية البريطانية المُتنفذة:

-    أقترح كأساس للتفاوض، القبول بالوقائع الميدانية الجديدة.

قال وزير الدفاع: - نوافق، لكن ذلك لا يشمل عبورهم الأخير إلى طبريا.

قال جمال: - يجب أن يشمل القبول بكل الوقائع الميدانية الجديدة، والتفاوض على أساسها.

فتدخلت الشخصية البريطانية المُتنفذة: - أقترح أن يكون النقاش محصوراً بمصير الجولان ومزارع شبعا وكفرشوبا، أما التقدم الأخير إلى عمق فلسطين، يجب التخلي عنه من الجانب السوري.

فقال جمال: - أرفض ذلك.. هناك وقائع ميدانية جديدة على الأرض، تحققت بالقوة وبتضحيات من جنودنا، لن أتركها تذهب هباءً.. التفاوض يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كل التطورات الميدانية، ويتم على أساسها.

قال وزير الدفاع: - في هذه الحالة، نشترط وقف إطلاق نار مؤقت، على الأقل. لا يمكن أن نفاوض تحت النار.

وهنا تدخل مدير المخابرات المركزية الأمريكية: - بالتأكيد.. يجب أن تكون هناك إجراءات حسن نُية.

فقال جمال: - لكننا نجتمع هنا لنناقش شروط وقف إطلاق النار. فكيف تريدون وقف إطلاق النار، قبل الاتفاق على شروطه؟

فرد وزير الدفاع الإسرائيلي: - لكننا لن نقبل التفاوض تحت النار. قواتك تتقدم. ولا نعرف ما الذي يجري الآن في طبريا. وصفد في خطر. لن نقبل بذلك.

قال جمال: - حسناً.. كي أُثبت لجميع الموجودين هنا، حسن نيتنا، وعدم رغبتنا بتهديد الوجود الإسرائيلي، كما يعتقد خصومنا الإسرائيليون. سأوافق على وقف مؤقت لإطلاق النار. لكن، في حال تم خرقه من جديد، من جانب الإسرائيليين، لن نقبل أي نقاش هذه المرة.

قالت الشخصية البريطانية المُتنفذة: - ممتاز، بدأنا نتقدم.. بطبيعة الحال، هذا وقف مؤقت لإطلاق النار، بغية تهيئة أجواء سليمة للتفاوض. وغاية التفاوض الأخيرة هي تثبيت وقف إطلاق النار المؤقت، وتحويله إلى دائم، من جديد، وفق نقاط جديدة متفق عليها.

أعلن الطرفان السوري والإسرائيلي موافقتهما على مبدأ الوقف المؤقت لإطلاق النار. وتم فضّ الاجتماع بتعهد من جمال بتنفيذ هذا الوقف المؤقت لإطلاق النار، فوراً، على أن يتم الاجتماع مجدداً صباح اليوم التالي.

وبالفعل، في أقل من نصف ساعة، أعلن متحدث باسم وزارة الدفاع السورية، في دمشق، وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار. وقال في تصريح صحفي متلفز: "قواتنا أوقفت تقدمها. وهناك مفاوضات تجري لتثبيت وقف دائم لإطلاق النار يراعي الوقائع الميدانية الأخيرة".

وحالما صدر التصريح الأخير عن وزارة الدفاع السورية، انهال سيل من التعليقات الغاضبة في أوساط السوريين، على وسائل التواصل الاجتماعي. فقال أحدهم: "لماذا توقفتم، القدس على مرمى حجر؟"، فيما علّق آخر: "لا تخضعوا للضغوط، إننا منتصرون والإسرائيليون في حالة انهيار نفسي كامل، إنها الفرصة التاريخية المُنتظرة، لا يجب تفويتها"، فيما تحدث ثالث بغضب: "يبدو أن جمال باع فلسطين، واكتفى بالجولان، يا حيف، على الأقل استعيد القدس".

فيما كانت شريحة من السوريين تناقش التطور من زاوية أكثر عقلانية، فعلّق أحدهم: "يا جماعة، طولوا بالكم، هل تعتقدون أن الولايات المتحدة الأمريكية ستتفرج علينا نسرح ونمرح في فلسطين.. جمال يفاوض الآن أقوى دولة في العالم، لا يفاوض الإسرائيليين فقط".

أما في إسرائيل، كان الارتياح قد عمّ الأجواء، بعد أن كان الرعب يُخيّم على النفوس، والمعنويات في أقصى حالات الانهيار. وعلّق إسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعي، التي رفعت السلطات الحجب عنها بعيد الاجتماع التفاوضي الليلي المُثمر. وقال أحدهم: "جدوا حلاً سريعاً، ستكون كارثة لو انهارت المفاوضات". فيما علّق آخر: "نريد السلام، لا تجرونا إلى أبعد من ذلك في مغامراتكم الغبية".

بدورهم، علّق بعض الفلسطينيين عبر وسائل التواصل الاجتماعي: "إنها عادة الحكام العرب، يتاجرون بقضيتنا، وحالما يلوح في الأفق تطور يخدم تلك القضية، يتخاذلون ويجبنون". كان الاستياء صارخاً في أوساط الكثير من الفلسطينيين، في الداخل، وفي بلدان اللجوء. كانوا يشعرون أن أملاً برّاقاً، لاح لهم بعد عقود من القنوط حيال أي تطور إيجابي في قضيتهم، قد أُطفئ هو الآخر في مهده، قبل أن يُضيء. كما أُطفئت قبله آمال مضيئة كثيرة. قبل أن ينسوا الأمل تماماً في العقود الأخيرة.

وكان جلياً أن وقف إطلاق النار المؤقت أثار سخطاً نسبياً في الأوساط الشعبية التي كانت مُنتشية بتقدم السوريين المفاجئ. وفيما كان كثير من السوريين، في الساعات الأولى لإعلان الحرب، يشتمون قيادتهم، وينالون من جمال شخصياً، مُتهمينهم بالتهور والعبثية. تحولوا ذاتهم إلى شتّامين لقيادتهم ولـ جمال من جديد، لكن هذه المرة، لأنهم قرروا وقف الحرب، بشكل مؤقت.

في هذه الأثناء كان جمال يتابع تلك التطورات التي كان يتوقعها. وكان يراها من زاوية مختلفة. كان يجد فيها ورقة قوة تفاوضية. أما قضية إرضاء الرأي العام السوري، بالتحديد، فكان جمال لا يراهن عليها، فالعامة من الناس لا يعرفون خفايا الأمور، ولا يدركون أن الذهاب في المواجهة إلى أبعد من ذلك، يعني جرّ البلاد إلى مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل مباشر، وقدرات سوريا اليوم، لا تؤهلها لتحمل تلك المواجهة. أو أنهم يدركون ذلك، لكنهم لا يقدرون العواقب، التي تعني، فيما تعني، تدمير كل ما بنوه خلال عقدٍ من الزمان.

***

في صباح اليوم التالي، فُوجئ المفاوضون والوسطاء، بطلب جمال تأجيل الجلسة إلى ما بعد ظهر اليوم نفسه. كان يوم جمعة. وقبيل الصلاة، نقلت شاشات وسائل الإعلام السورية حشوداً هائلة في ساحة الأمويين بدمشق. وأُعلن عن أن الشيخ أسامة عز الدين، المرجعية الدينية السلفية الكبيرة، سيُلقي خُطبة الجمعة، ويؤم الصلاة، في الساحة، بعشرات آلاف السوريين المحتشدين.

وبدأ الشيخ أسامة خُطبته، بحمد الله والثناء عليه، وشُكره على النصر المؤزر المُحقق في الأيام الأخيرة، مؤكداً أن الشهداء من الجنود السوريين اليوم، في جنان الخلد، ينعمون بالملذات، ويسألون متى سيلحق بهم رفاقهم الذين تركوهم في الحياة الدنيا. وبعد استطراد مطوّل حول تلك النقاط، علت نبرته، وقال: "حانت اللحظة، مجاهدونا داخل الحبيبة فلسطين، أرض الرباط، تلك التي كرّمها الله، وامتدحها الرسول صلى الله عليه وسلم، إنها اللحظة التاريخية المنتظرة، لا يجب أن نجبن أو نتخاذل.. لذا، أقول للمفاوضين في جنيف، لا تهنوا ولا تحزنوا، وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.. وأذكرهم بقول الله، "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم".. لذا أقول للمفاوضين في جنيف، لن يمسسكم سوء إن اتبعتم رضوان الله، فلا تخشوهم، ولا تهنوا لتهديداتهم، ولا تُضيعوا هذه الفرصة التاريخية، فالقدس..".. وتهاوى صوته، وتهدج.. ثم استطرد: "القدس على مرمى حجر، فيا جمال، شرف عظيم لك أن تكون صلاح الدين الأيوبي في هذا العصر، فلا تجبن أو تضعف".

وتعالت الهتافات: "الله أكبر، الله أكبر".. وردد أحد المتسلقين على إحدى أعمدة الإنارة، "يا جمال.. يا جمال.. لا تجبن ولا تنهان".. ورددت عشرات آلاف الحناجر ذلك الهتاف. وبعيد صلاة الجمعة، جابت تظاهرة ضمت ما يفوق المئة ألف سوري، شوارع دمشق، تطالب الحكومة وجمال الدمشقي بالثبات في المفاوضات، وبمتابعة القتال حتى القدس.

ووصلت التقارير إلى المسؤولين الإسرائيليين، والأمريكيين، والأوروبيين، تُفيد بضغوط كبيرة في الشارع، ومن الإسلاميين، تستهدف جمال الدمشقي، وتطالبه بمواصلة القتال، حتى القدس.

بعيد ذلك، عُقدت الجلسة الثالثة للتفاوض. قال جمال: - أعتقد أنكم تعرفون جميعاً ما يحدث في دمشق.. أنا الآن في موقف لا أحسد عليه.

دار في أذهان المفاوضين الإسرائيليين، والمسؤولين الأمريكيين والوسطاء الأوروبيين، جميعاً، فكرة واحدة مفادها، أن جمال يبتزهم بالرأي العام في بلده، وبفزاعة الإسلاميين.. لكن هاجساً كان يقلّص حنقهم على جمال، ويعقلنه. ذلك أنه، إن غاب جمال، فالكارثة التي تنتظرهم كبيرة، فالكثير من القيادات الجهادية المخضرمة، تحتل مواقع مسؤولية حساسة في الجيش السوري، الأمر الذي يعني، أن تلك المقدرات مجهولة المدى بالنسبة لهم، ستصبح في قبضة قيادات من النوع الذي تُلهبه خطابات أمثال الشيخ أسامة عز الدين. وحينها، ستكون الكارثة. إنه السلاح النووي، وصواريخ قادرة على حمله.

 قال وزير الدفاع الإسرائيلي محدثاً نفسه: "يا إلهي، إنه يبتزنا ما بين إرضائه وما بين كارثة لا يمكن تصور عواقبها".

قالت الشخصية البريطانية المُتنفذة: - جمال.. ماذا تقترح؟

-    يجب أن يشمل تفاوضنا موضوع القدس.

فصرخ وزير الدفاع الإسرائيلي: - ماذا؟

حدّقت فيه مختلف الشخصيات الأوروبية الوسيطة، إلى جانب المسؤولين الأمريكيين، بما يُفيد، بأن الجميع يؤيد ما طرحه جمال. فقال وزير الدفاع: - لكن.. أنتم جميعاً تعلمون، لا أستطيع التفاوض في قضية القدس، الشارع الإسرائيلي يرفض ذلك.

قال جمال: - اسمع يا صديقي.. إن كنا نريد حلاً لا ينال من هيبة أي طرف أمام جمهوره، فيجب أن نجد حلولاً وسط.

قال وزير الدفاع الإسرائيلي، وهو يتوقع الردّ مسبقاً: - ماذا تقترح؟

-    وضع الأبنية المقدسة، الإسلامية والمسيحية، في المدينة القديمة، وكذلك الحرم الإبراهيمي في الخليل، تحت رعاية دولية، تحرص على عدم إجراء أي تغييرات فيه.
-    لقد اتفقنا في ويلز على ذلك.
-    لكنكم لم تلتزموا.. الحفريات ما تزال تتوسع أسفل الحرم القدسي. تصوّر لو انهار. ماذا تتوقعون أنني أستطيع أن أفعل أمام جمهوري الغاضب حينها.. سأتحمل بنفسي مسؤولية تضييع القدس، أمام الجمهور السوري والعربي الغاضب.
-    إذاً؟
-    لنعدّل اتفاق ويلز بهذا الخصوص، بحيث يتم إنهاء سلطتكم الكاملة على تلك المنشآت، بما فيها الأقصى وقبة الصخرة. وتتولى الأمم المتحدة إدارة تلك المنشآت بالتعاون مع الأوقاف الإسلامية المسؤولة عنها. ويجب ترميم كل الأنفاق أسفل الحرم، ووقف أية حفريات. ويجب أن يصدر ذلك بموجب قرار دولي، مؤزر بالفصل السابع.
-    لكن..
-    اسمع يا صديقي.. أنت رجل عقلاني حسبما أعرف.. لقد بحثتم عن أدلة أثرية جازمة، تؤكد وجود هيكل سليمان، في تلك البقعة، لعقود، ولم تجدوا شيئاً.. وبدلاً من أن تحلّوا مشكلة الأثر المفقود الذي جلبتم اليهود بناءً عليه إلى فلسطين، ها أنتم تهددون أثراً إسلامياً قائماً، يعتبر مليار ونصف مسلم حول العالم، أنه إحدى القبلتين بالنسبة لهم.. لنجد حلاً لذلك. يمكن لليهود أن يصلوا أمام حائط البراق بالأقصى، لكن برعاية أممية. على أن تتوقف أية نشاطات بحثية أسفل الحرم القدسي، وأن يتم ترميم كل الأنفاق. يجب أن يبقى الأقصى وبجواره، قبة الصخرة، صامداً، لأنه إن انهار، لن أستطيع ضبط مشاعر السوريين وملايين العرب والمسلمين حينها. ولن أقف في وجه ذلك السيل من الغضب أبداً. سأكون إلى جانبه في حرب وجود حاسمة. لذا، لنتلافى مقدمات تلك اللحظة، ولنجعل التطبيع بيننا، مبنياً على أسس آمنة، يمكن بناءً عليها، أن نخوض مسيرة تفاوض هادئة، قد تفضي إلى سلام نهائي وكامل بيننا.

ظهر الوجوم جلياً على الشخصيات الإسرائيلية المفاوضة، فيما كانت ملامح الشخصيات الغربية الوسيطة، بما فيها الأمريكيون، تُوحي بتأييدهم لاقتراح جمال. كانت معظم الأطراف الغربية لا تحبذ مواجهة كبرى بين العرب والإسرائيليين. خاصة بعد أن اتضح وجود قدرات نوعية لدى السوريين، ستجعل انخراط الأمريكيين بالحرب، غير مضمون العواقب أيضاً.

طلب الإسرائيليون عرض سلة متكاملة من الأفكار، للنقاش حولها، ورفضوا مبدأ تقسيم القضايا، والتفاوض على كل منها، على حدى. وافق جمال، وعرض سلة متكاملة من الأفكار، فقال:

-    تقرّون بالتخلي الكامل والنهائي، عن الجولان، ومزارع شبعا وكفرشوبا. فيما يتم تحويل منطقة الشاطئ الغربي لطبريا إلى منطقة منزوعة السلاح، برقابة دولية، وأجهزة إنذار مبكر، برعاية دولية، يشترك فيها جنود أتراك، لحفظ أمن الحدود، ومنع أي احتمالات للاشتباك بين الطرفين مستقبلاً. من جانبنا، سنطلق جميع المدنيين الإسرائيليين المتواجدين في الجولان، شريطة أن يغادروا تماماً، أراضي الجولان، ويتخلوا عن أي مطالبات بصكوك ملكية أو سواه. أما بالنسبة للأسرى الإسرائيليين من العسكريين، يمكن إطلاقهم، شريطة إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين، الـ 12 ألف، الموجودين في السجون الإسرائيلية. يتم إصدار قرار دولي، مؤيد بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ينص على ما سبق، إلى جانب إقرار فرض رعاية دولية على المباني الإسلامية والمسيحية المقدسة في القدس القديمة، وفي الخليل، مع رفع يد الإسرائيليون عنها، تماماً، على أن تكون الأوقاف الإسلامية، والجهات الدينية المسيحية المعنية، هي المسؤولة عن إدارة المنشآت والمباني المقدسة، وتتولى قوة دولية تأمين تلك المنشآت، وحمايتها من أي عبث، فوق الأرض، أو تحتها. يصدر قرار دولي آخر، يفرض على مختلف الأطراف بدء مفاوضات سلام عاجلة، بناء على القرار الدولي الخاص بتقسيم فلسطين عام 1947، وفق تعهد إسرائيلي بالقبول بدولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جوار دولة إسرائيل، وعلى أرض فلسطين التاريخية. وتوقّع الأطراف، السورية والإسرائيلية، برعاية دولية، علناً، اتفاقاً منشور البنود، ينص على منع الاعتداء المتبادل، بشروط، من بينها، عدم القيام بأي ترانسفير للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، أو داخل فلسطين 48، وعدم القيام بأي اعتداء على المنشآت الإسلامية والمسيحية المقدسة في القدس وبيت لحم والخليل، وعدم خرق أمن الحدود المتبادل بين سوريا وإسرائيل، وعدم الاعتداء أو خرق الحدود المتبادل بين إسرائيل ولبنان، وكذلك عدم الاعتداء المتبادل بين إسرائيل وحكومة وسط العراق. ويجب التحديد بصيغة واضحة وجازمة، بأن عدم الاعتداء يشمل كافة أشكال الاعتداء، بما فيها، خرق الأجواء دون إذن، أو خرق المياه الإقليمية، دون اتفاق مُسبق.

وبعد فاصل زمني، تدارس خلاله المسؤولون الإسرائيليون عرض جمال، وتواصلوا مع زملائهم في القيادة الإسرائيلية بالقدس الغربية.. بدأت جلسة رابعة من المفاوضات، اشترط الإسرائيليون في بدايتها، الكشف عن مصير مقاتلي لواء غولاني الإسرائيلي، قبل متابعة التفاوض.

فقال جمال: - الحصيلة مؤلمة، وليس من صالحكم الإعلان عنها على الملأ.

أكد الإسرائيليون أنهم لا يقصدون ذلك، يقصدون إبلاغ المسؤولين الموجودين في جلسة التفاوض الآن، تفاصيل عن مصير مقاتلي اللواء. وتحديد أعداد القتلى والمصابين والأسرى.

وافق جمال، وأعلن أمام الموجودين أن عدد القتلى من جنود اللواء، يقاربون الـ 10 آلاف قتيل، قُتلوا خلال المعارك، فيما حدد أعداد المصابين والأسرى المتواجدين في قبضة القوات السورية بـ 5123 جندياً إسرائيلياً.

كانت حصيلة القتلى كارثية في نظر الإسرائيليين. ظهر الغضب عليهم، وخرج مدير الموساد عن طوره، وقال لـ جمال: - لقد استهدفتم قتل كل هذه الأعداد من الجنود. كيف تريدون أن نحصّل سلاماً متبادلاً بعد هذه المجرزة الفظيعة.

قال جمال: - لنتذكر سوياً.. لم أكن قد ولدت، وأنتم كذلك.. عام 1967، بدأتم حرباً على ثلاث دول عربية، قتلتم خلالها على الأقل 20 ألف جندي في مختلف الجيوش العربية. وكنتم تقتلون الجنود المصريين في سيناء، بدمٍ باردٍ، ويتم تصيدهم على سبيل التسلية من الجنود الإسرائيليين باستخدام الطائرات وهم يفرون في حالة بؤس شديد، داخل صحراء سيناء.

فانفلت الغضب من عقاله لدى المسؤولين الإسرائيليين، وأطلقوا سيلاً من الاتهامات، رافقها شيء من الإهانة، وحاول الوسطاء الغربيين تهدئة الأجواء، عبثاً، فنهض جمال، وانسحب للمرة الثانية من المفاوضات.

***

في جناحهم الخاص، في فندق فخم بقلب جنيف، كان المسؤولون الإسرائيليون الثلاثة يتناقشون بصوتٍ مرتفعٍ. سمع أحد موظفي الفندق، الذي مرّ قرب باب جناحهم، صوت أحدهم يتحدث بنبرة هستيرية مرتفعة للغاية، لكن رجل أمن نهره بنظرة من عينيه كي يبتعد.

كان مدير الموساد واقفاً وهو يتحدث بغضب، ويحرك يديه يميناً وشمالاً، في حالة واضحة من الهستيريا. قال:

-    تعلمون أننا ننتظر محاكمة في إسرائيل حالما تهدأ الأمور.. لماذا تريدون الاستسلام لذلك الوغد؟.. لنذهب بالأمور إلى أقصاها..

قال وزير الدفاع بهدوء: - أعلم أننا ننتظر محاكمة أو إقصاء كامل من الحياة السياسية والمهنية في إسرائيل، في أدنى الحدود، حالما تهدأ الأمور.. لكنها إن لم تهدأ، ربما ننتظر نهاية دولة إسرائيل.

فاستشاط غضب مدير الموساد أكثر: - هُراء.. لا يستطيع ذلك الوغد الذهاب إلى ذلك الحد.. الأمريكيون لن يسمحوا له، سيتدخلون.. هل سيخاطر بتوجيه ضربة نووية أمريكية له؟.. إنه يراهن على حالة الانهيار في معنوياتنا..

لم يستطع مدير الموساد الإسرائيلي تحمّل صدمة عدد القتلى الضخم من الجنود الإسرائيليين، إنها كارثة بكل المعايير، كيف سيقف  أمام الجمهور الإسرائيلي ليقول له أنه يتحمل، بمشاركة مسؤولين آخرين في الحكومة، مسؤولية سقوط 10 آلاف قتيل. كان مدير الموساد فعلياً، يخاف على حياته السياسية والمهنية. بل أبعد من ذلك، كان يخشى محاكمة، بتهم الإهمال أو سوء الإدارة، تؤدي به إلى السجن. كان يعلم أن النخبة الإسرائيلية ستحاول تهدئة الشارع عبر تقديم عدة رؤوس ككبش فداء، سيكون، دون شك، أحدها.

أما وزير الدفاع، ورغم أنه يعلم تمام العلم، أن مستقبله السياسي، وربما الحياتي، قد بات في خبر كان، إلا أنه كان يشعر بمسؤولية كبرى حيال مستقبل بلده، برمته. فهو يخشى أن يكون العناد، الذي قادهم في بادئ الأمر إلى مغامرة الاعتداء على سوريا، هو العامل الذي سيقودهم إلى حتف دولتهم، برمتها.

أما رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، فكان في حالة ارتباك شديد. كان يخشى من الذهاب قدماً في التفاوض مع جمال الدمشقي، وكان يخشى أيضاً من سيناريو الذهاب إلى حرب شاملة مع السوريين، قد تهدد الوجود الإسرائيلي بشكل جدّي، هذه المرة. لذا، لم تكن تعليقاته تُوضح في أي اتجاه يريد الذهاب. كان ذاهلاً، وقدرته على المحاكمة العقلية في أدنى حدودها.

في جناحٍ آخر، من الفندق ذاته، كان مدير المخابرات المركزية الأمريكية يجتمع مع وزير الخارجية، ومع الشخصية البريطانية المتنفذة، بوجود رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي. وكانت الشخصية البريطانية المُتنفذة قد طلبت هذا اللقاء المنفرد، وبدأت الحديث قائلةً:

-    أصدقائي.. إسرائيل في خطر حقيقي.. وجمال جُرّ فعلياً إلى مواجهة اضطر معها للكشف عن جانب من مقدراته، وهي مقدرات ليست هينة. لا أعتقد، والسيد رئيس هيئة الأركان الأمريكية، أدرى مني في ذلك، لكنني لا أعتقد أنه من الممكن، في المدى القريب، تقدير مدى قدرة جمال الدمشقي، على الصعيد العسكري، لذا فالانزلاق في مواجهة معه، أمر غير حكيم البتة.

علّق رئيس أركان الجيش الأمريكي: - أتفق معك بذلك، تماماً.. عجزنا حتى الآن عن رصد أي معلومات استخباراتية تسمح لنا برسم تصور لما يملكه الرجل من مقدرات عسكرية. بل حتى، ليس لدينا تصور واضح لمنظومة صنع القرار داخل المؤسسة العسكرية السورية.

قال مدير المخابرات المركزية الأمريكية: - علينا أن نُقرّ بأن جمال خدعنا ببراعة. وأؤيد دون شك عدم الانجرار إلى مواجهة معه في الوقت الراهن. يجب علينا وقف إطلاق النار، وفرض الهدوء بين سوريا وإسرائيل، وضمان الاستقرار، ومن ثم، تجنيد كل  مواردنا، للكشف عن مقدار ونوعية القدرات العسكرية للسوريين، ومنظومة صنع القرار داخل مؤسساتهم العسكرية والأمنية.. الذهاب إلى حرب معهم، في ظل العمى الاستخباراتي الذي نواجهه، ضرب من الغباء المُفرط.

قالت الشخصية البريطانية المُتنفذة: - جميل.. إذاً، جميعنا متفقون على ضرورة وقف إطلاق النار، وتطبيع الوضع بين السوريين والإسرائيليين، ولو مؤقتاً.

قال وزير الخارجية الأمريكي: - نعم، جميعنا متفقون. لكن المذبحة البشعة التي نفذتها القوات السورية في الجولان بحق الجنود الإسرائيليين، ستجعل من الصعب على القيادة الإسرائيلية قبول اتفاق مع دمشق.

قالت الشخصية البريطانية المُتنفذة: - وهنا يجب أن نتدخل.. سأكون صريحاً معكم.. أعتقد أن الثلاثي الإسرائيلي المفاوض هنا، غير جدير بحفظ مصالح إسرائيل، لأنه ببساطة، يخشى من المحاسبة حالما يرجع إلى بلده، وتهدأ الأوضاع. لذا، قد يجرون بلدهم إلى حرب مسعورة غير محسوبة العواقب، فقط، كي لا يجدوا أنفسهم موضع مساءلة حول أسباب هذا الفشل العسكري والاستخباراتي الذريع، الذي جرّوه على مواطنيهم.. يجب علينا أن نتدخل عبر أصدقائنا من النخب اليهودية في نيويورك تحديداً، وأيضاً، في تل أبيب، لإزاحة الفريق المفاوض الحالي، ويفضل أيضاً، إزاحة كامل الحكومة الإسرائيلية الحالية، كي يتمكن فريق آخر من المفاوضين الإسرائيليين، من غير المرتبطين بصورة مباشرة بمواقع صنع القرار والمسؤولية في هذه الهزيمة الكبرى، من التفاوض بعقلانية أكبر، مع جمال..

قال مدير المخابرات المركزية الأمريكية: - أتفق معك من حيث المبدأ.. لكنني أرى أن هناك طريقة أسهل وأقصر، من إزاحة حكومة وتشكيل أخرى في القدس الغربية. نستطيع ببساطة أن نضع الفريق المفاوض الموجود هنا في صورة مفادها، لن تتدخل واشنطن في مواجهة عسكرية مباشرة مع السوريين، وإن أفشلتم المفاوضات، ستتحملون العواقب، وسنتنصل بدورنا من المسؤولية، باعتبارنا تمكنا عبر تدخلنا من إيصال الطرفين إلى اتفاق، لكن الإسرائيليين أفشلوه.

قال وزير الخارجية الأمريكي: - هذه مخاطرة كبيرة، قد تثير علينا عش دبابير اليهود في نيويورك.
-    لا أعتقد ذلك.. حالما نضعهم في صورة الواقع.. لن يطلب منا أحد في نيويورك أن نذهب إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع طرف لا نعرف ما هي الأسلحة التي يملكها بالضبط.. هذه الحرب أفادتنا في جانب، لقد كشفت لنا أن مشروع جمال الدمشقي، خطير، وأننا استهنا به، وظننا أنه قائد عربي جديد، يهوى كرسي الحكم، ومستعد لإرضائنا، حفاظاً عليه.. لذا، في المستقبل، سيكون تعاملنا مع هذا الرجل مختلفاً.. سنُكن له كل الاحترام والتقدير في العلن.. أما في الخفاء، سنعمل جاهدين للكشف عن الثغرات في مشروعه، ونقاط الضعف في المؤسسات التي يُديرها، وفي الوقت المناسب، سنوجه ضربتنا القاصمة له.. أعتقد أننا إن أوضحنا كل ذلك لنخبة اليهود في نيويورك، سيتقبلون التضحية بفريق سياسي إسرائيلي محدد، في سبيل حماية وجود دولة إسرائيل.

اتفق الأربعة بالفعل، على ذلك.. وبدأ العمل.. اجتمع رئيس الأركان ومدير المخابرات الأمريكية، بالمفاوضين الإسرائيليين الثلاثة، وأوضحوا لهم بصريح العبارة، أن المواجهة العسكرية المباشرة مع السوريين، في هذا التوقيت، مرفوضة، ولن تتورط واشنطن فيها، وأن عليهم أن يقبلوا بما يستطيعوا تحصيله من جمال، مهما كان ذلك أليماً.

في هذه الأثناء، كان وزير الخارجية الأمريكي، والشخصية البريطانية المُـتنفذة، يتواصلان مع نخب يهودية محفلية، حول العالم، وتحديداً، في لندن ونيويورك. تمكنا خلال تلك الاتصالات من تحصيل إجماع نخبوي يهودي، عالمي، مفاده، لتقف الحرب سريعاً، مهما كان الثمن. ليبدأ العمل بعد ذلك للقضاء على جمال الدمشقي، ومشروعه، بروية، وبأساليب خفية.

وفيما كان مدير الموساد الإسرائيلي يجادل نظيره الأمريكي، كانت نخب يهودية عالمية تتصل بنظيرتها في القدس الغربية وفي تل أبيب، لتقول لها: "انحنوا للعاصفة كي تمر، وإلا، قد يكون الوجود الإسرائيلي برمته، في خطر حقيقي".

وفي نهاية جلسة النقاش بين المسؤولين الأمريكيين، وبين المفاوضين الإسرائيليين، قال مدير المخابرات الأمريكية بشكل جازم: "لن نقبل أن تجروا إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، إلى حرب نعرف كيف ستبدأ، لكننا لا نعرف كيف ستنتهي".

في هذه الأثناء، رن هاتف وزير الدفاع الإسرائيلي. كان يعرف الرقم جيداً. انزوى جانباً، وقال: "آلو".. جاءه الصوت من الطرف الآخر: "فاوضوا للتوصل إلى أحسن شروط ممكنة لوقف إطلاق النار مع جمال الدمشقي، وبأي ثمن.. لا تعودوا إلى إسرائيل إلا باتفاق وقف إطلاق نار يؤمّن حدودنا الشمالية.. أو لا تعودوا أبداً".

فهم وزير الدفاع الرسالة، إن خالفوا التوجيهات، ستتم إقالتهم وهم في الخارج، وستتم ملاحقتهم بتهم عديدة مُعدة مسبقاً. تقدم الوزير باتجاه زميليه الآخرين، فيما كانا يواصلان نقاشاتهما مع المسؤولين الأمريكيين، قال: "لقد قُضي الأمر، يجب أن نحصل على اتفاق وقف إطلاق نار، بأي ثمن".

***

حاول المفاوضون الإسرائيليون تحصيل أي تنازل من جمال، لكن الأخير كان متصلباً جداً. طلبوا تعويضات عن الخسائر المادية الكبيرة التي سيتعرض لها المستوطنون الإسرائيليون في الجولان، فهم سيخسرون ملكياتهم التي دفعوا أثمانها، في معظمهم. لكن جمال رفض بشكل غاضب هذا الاقتراح. قال: "لا أذكر أنكم عوضتم النازحين من الجولان، عام 1967 عن خسارة أرضهم وملكياتهم، أو عوضتم السوريين عن الدمار الذي لحق بالقنيطرة التي دمرتموها قبل أن تنسحبوا منها عام 1973، لا أذكر أنكم عوضتم أحداً من الجنسيات العربية التي أفقدتموها وطنها، وفي مقدمتهم الفلسطينيون.. في أي قاموس دولي، يتم الحديث عن تعويض محتل، ينسحب مخذولاً من أرض احتلها لعقود، ليستعيدها أصحابها.. لم أسمع بهذا من قبل".

حاول المفاوضون الإسرائيليون إقناع جمال بتخفيض عدد المعتقلين الفلسطينيين الذين سيتم إطلاق سراحهم، مقابل أكثر من 5 آلاف أسير إسرائيلي. فقال لهم: "سنعطيكم مضافاً إليهم، جثث قرابة 10 آلاف قتيل إسرائيلي، دون مقابل، أعتقد أن هذا كرم جزيل من جانبنا".

طلب المفاوضون الإسرائيليون أن يتم توقيع معاهدة سلام شاملة، بين سوريا وإسرائيل، مقابل التخلي نهائياً عن الجولان، فرد جمال: "ذلك يمكن أن يحدث فقط، حينما يتم إنشاء دولة فلسطينية، تكون القدس الشرقية، في أدنى الحدود، جزءاً منها، وتكون دولة قابلة للحياة والتواصل الجغرافي بين أقاليمها، وتتمتع باستقلال كامل، وبضمانات أمنية.. حينها يمكن طي ملف العداء التاريخي بين سوريا وإسرائيل، إلى الأبد.. قبل ذلك، لا أستطيع فرض اتفاق سلام على الشارع السوري، فيما الإسلاميون في أوج حماسهم، جراء انتصارنا الساحق عليكم.. يجب أن تجدوا حلاً لقضية فلسطين، كي تُحل كل مشاكلنا، وإلى الأبد".

طلب المفاوضون الإسرائيليون أن يكون لإسرائيل امتيازات داخل الجولان، فرفض بشدة، وبعصبية بالغة. طلبوا أن تكون المنطقة منزوعة السلاح التي تحوي قوات دولية فاصلة، من الجانب السوري في الجولان، فرفض أيضاً، مصراً على أن انسحاب السوريين من الضفة الغربية لبحيرة طبريا، سيكون لقاء تحويل تلك المنطقة إلى موقع فاصل بين الطرفين، بضمانات دولية، وبمشاركة تركية، تحديداً.

حاول المفاوضون الإسرائيليون ترحيل ملف المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، فرفض جمال، ملمحاً إلى أن ذلك يسبق كل ما سبق، وأكثر أهمية منه، كي يتمكن من مواجهة الشارع السوري، وإقناعه بعدالة الخاتمة التي آلت إليها الحرب.

وأخيراً، أصرّ المفاوضون الإسرائيليون على التفاوض بخصوص فلسطين، على أساس القرار الدولي الصادر عام 1967، الذي يشير إلى الضفة والقطاع، باعتبارهما أراضٍ محتلة. لكن جمال رفض، وألح على التفاوض على أساس القرار الدولي الخاص بتقسيم فلسطين، بين اليهود والعرب، عام 1947، والذي يمنح أراضٍ أكثر للفلسطينيين، مقارنة بالقرار اللاحق عام 1967.

وحينما تعنت المفاوضون الإسرائيليون بخصوص المعضلة الأخيرة، طلب مدير المخابرات المركزية الأمريكية، الانفراد بالمفاوضين الإسرائيليين، لبرهة، وقال لهم بغضب واضح: "لماذا تصرون على قضايا تافهة؟.. من قال لكم بأن سلاماً سيحصل بينكم وبين جمال الدمشقي؟، أو بينكم وبين الفلسطينيين؟.. لتبدأ مسيرة مفاوضات، ولتطول، ولتتعثر، كما تعثرت عشرات المسيرات السابقة، بغض النظر عن الأساس المتفق عليه، الذي انطلقت منه.. نريد الآن وقفاً لإطلاق النار، يتعهد فيه جمال بضمان أمن الحدود، كما سبق.. أي شيء آخر، لا يهمنا.. اتركوا المستقبل بخصوص عملية السلام لوقتها.. وقبل أن تؤول أية مفاوضات سلام إلى نتائج حاسمة، سنكون قد امتلكنا تصوراً واضحاً حول قدرات جمال، وسنتعامل معه، حينها، بالطريقة التي يستحقها".

وبالفعل، خضع المفاوضون الإسرائيليون لكل مطالب جمال. كان استسلاماً أكثر منه تفاوضاً.

وفي القدس الغربية، وقف رئيس الوزراء أمام الكنيست الإسرائيلي، ليُعلن أن المفاوضات في جنيف تمخضت عن اتفاقٍ مع السوريين، ينص على التخلي الكامل عن هضبة الجولان ومزارع شبعا وكفرشوبا، وتحويل الشاطئ الغربي لبحيرة طبريا إلى منطقة منزوعة السلاح برعاية دولية، مع تفريغها من معظم السكان، لتصبح منطقة فاصلة مزودة بأجهزة إنذار مبكر. وأقرّ بأن حكومته وافقت على أن مستوطني الجولان سيغادرونه دون أية تعويضات، وليس لهم الحق في اصطحاب أي شيء من هناك. وأنه سيُطلق سراح جميع المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، لقاء عودة الأسرى الذين فاق تعدادهم الـ 5 آلاف.

وقال، وهو يزدرد ريقه، "لقد خسرنا قرابة الـ 10 آلاف مقاتل، لقوا حتفهم خلال المعارك".

وتابع رئيس الوزراء بأنه وافق على التخلي الكامل عن السيطرة الأمنية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في الضفة الغربية، وإحالة حمايتها ورعايتها، إلى الأمم المتحدة، التي ستتولى ترميم بعض تلك المباني، وطمر الأنفاق تحت الأقصى، وأن اليهود سيُصلّون أمام حائط البراق، برعاية قوى أمن دولية ستتولى تأمين المسجد، ومنع أي اشتباك بين المُصلّين المسلمين، واليهود، في ساحاته.

وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي: "نص الاتفاق على بدء التفاوض مع الفلسطينيين على اتفاق سلام يُتيح لهم تأسيس دولة قادرة على الحياة، وذلك بموجب قرار التقسيم الصادر عام 1947".

ثار سخط هائل في أوساط نواب الإسرائيليين في الكنيست، والذين نالوا من الحكومة، وتقدم أحد النواب نحو رئيس الوزراء، وهو مهتاج، وصفعه أمام الكاميرات وهو يقول: "لقد دمرتم دولة إسرائيل".

لكن أحداً من النواب هناك، لم يطالب برفض الاتفاق. كان زعماء الكتل السياسية الكبرى قد أُعلموا بقرار دوائر النخب الخفية، داخل إسرائيل، وفي نيويورك ولندن، وعواصم غربية أخرى.

أما في سوريا. فخرج الرئيس السوري من جديد، ليُعلن تفاصيل الاتفاق مرة أخرى، للسوريين هذه المرة. وقال: "نحن لم نستعد الجولان المحتل منذ أكثر من سبعين سنة، فقط.. لقد تمكنا من نقل السيطرة على الأقصى وقبة الصخرة إلى أيدي الأوقاف الفلسطينية، برعاية أممية.. هذا يعني أن مقدساتنا ستبقى آمنة من العبث الصهيوني".

وتعاملت غالبية السوريين، مع النتائج، بعقلانية عالية، إذ رأى معظمهم أنها انتصار ساحق، غير مسبوق في تاريخ الأمة الإسلامية، حيال إسرائيل. كانت تعليقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، تنضح بالنشوة، وبعضها ينضح بالشماتة حيال العدد الهائل للخسائر البشرية من الإسرائيليين.

أيضاً، كان رد فعل غالبية الفلسطينيين إيجابياً. ذلك أن طي ملف الأسرى، بهذه الطريقة، كان تحولاً نوعياً في نظرهم. كما أن وضع المقدسات في قبضة الأوقاف الإسلامية، برعاية دولية، كان يعني، أيضاً، تحولاً نوعياً آخر.

كانت هناك قلة من السوريين والفلسطينيين، تشكك بأن يتم تنفيذ ذلك الاتفاق. علّق بعضهم: "ما هي إلا برهة، وسيتم طي كل تلك الوعود.. إنه تسكين للناس، كي لا يسألوا، لماذا أوقفوا الحرب عند طبريا، فيما كان يمكن لهم أن يصلوا القدس".

وكانت قلّة أصغر من السوريين، مستاءة من النتائج، هي تلك الشريحة التي كانت ترى أنها الفرصة التاريخية التي لا تُعوّض للقضاء تماماً على إسرائيل. بعضهم قالها بطريقة مباشرة وصارخة، "جمال خائن". فيما كان بعضهم الآخر أقل وطأة في التوصيف، فعلّق: "لقد جبُن وخاف على الكرسي".

وفي أقل من يومين، صدر قرار دولي مؤيد بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يفرض عقوبات قسرية على غير الملتزمين به. تضمن القرار كل ما اتفق عليه جمال مع الإسرائيليين.

وقبل أن يغادر جنيف، وقف جمال لبرهة في منصة قصره، في إطلالته المحببة على بحيرة جنيف. قال في نفسه: "سحقاً لهم، لقد لوثوا هدوء هذا المكان الرائع لأيام". لكنه لن يستطيع قضاء إجازة في ربوع قصره الصغير، في تلك البقعة الجغرافية التي يُحبها. كان عليه أن يعود سريعاً إلى دمشق.

تنشق الهواء في شهقات مطولة، تلحقها زفرات مطولة أيضاً، فيما كانت عيناه مغمضتان. أراد أن يسترخي قليلاً. لكن، سرعان ما تلاطمت الأفكار في عقله الذي لا يهدأ. لم تكن النشوة تداعب خاطره في تلك اللحظات، أبداً. رغم أنه في نظر الكثيرين، خرج بانتصار ساحق، لم يسبق لقائد عربي، منذ نشأة إسرائيل، أن حققه. لكن، بدلاً من النشوة، كان الهم يعتمل في ذهنه المُتقد. كان يعلم أن القادم سيكون مرهقاً أكثر. عليه الآن أن يخوض مجابهة حادة في دمشق مع رافضي وقف إطلاق النار، سواء داخل المؤسسة العسكرية، أو في أوساط الإسلاميين الذين ظنوا لوهلة، أن القدس باتت في قبضتهم. ومن ثم، عليه أن يجابه مواجهة أطول مع مكائد الغرب، الذي سيسعى بكل الطرق الممكنة، للنيل منه، بعد أن اتضح لهم جلياً، خطره.

شعر لوهلة برغبة عارمة في العودة إلى دمشق، هناك سيشعر بأمان أكبر. قال في نفسه: "نسمات هواء الربوة منعشة أكثر من هواء بحيرة جنيف". وقفل عائداً إلى دمشق.

***

وفي دمشق، كان الأمر كما توقع تماماً. كان هناك خائفون، وممتعضون، وغاضبون. وكانت أولى مواجهاته، مع الشيخ أسامة عز الدين. قال له الأخير وهو في حالة اهتياج: - إن أردتُ حسن النية بك، سأقول بأنك جبان.

لم يرد جمال. وبقي هادئاً، الأمر الذي استفز الشيخ أكثر، فقال: - يا رجل حرام عليك، كانت القدس على مرمى حجر من قواتنا.

وحينما بقي جمال هادئاً، انكمش غضب الشيخ أسامة، وبدأ يهدأ رويداً رويداً، ويستعيد رصانته. قال له جمال: - هدأت الآن.

أجاب بامتعاض واضح: - نعم.

-    حسناً.. نستطيع أن نتكلم الآن.. أرجو أن تستمع إلي حتى النهاية، ثم يمكن لك أن تُناقش.
-    تفضل.
-    حينما بدأنا تعاوننا منذ أكثر من عقد، قلت لك بصريح العبارة، أنني لا أؤمن بأن نصر الله سيكون من نصيبنا في أي مواجهة مع أي عدو، إلا إن كانت المسببات المناسبة موجودة، من رص الصفوف، مروراً بالعُدّة المناسبة، وليس انتهاءً بالصبر. وأعتقد أن تجارب الجهاديين، وأنت في مقدمتهم، كلها تؤكد ذلك. لقد باءت بفشل ذريع. لذا، حينما نريد أن نخوض في أمرٍ جللٍ، بحجم حرب تُنهي إسرائيل، علينا أن نملك العُدّة المناسبة لذلك، وإلا، فذلك انتحار. هل تعتقد أنت من موقعك، أننا نملك العُدّة المناسبة لإنهاء إسرائيل، وهو ما يعني أن علينا أن نواجه دولاً عظمى، بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل مباشر؟
-    لكنك استطعت التشويش على كل أقمارهم الصناعية، وأسقطت طائراتهم كالذباب، وهي صناعة أمريكية. كان من الواضح أن الأمريكيين يخشون خوض مغامرة معك.
-    لذلك أحترمهم. أحترمهم جداً. فهم لا يخوضون حرباً لا يملكون تصوراً واضحاً لمسارها. لن أقول لختامها، لأن الحرب، مهما كانت مدروسة العواقب، هي في نهاية المطاف، مغامرة خطرة. لكن على الأقل، حينما تملك تصوراً كافياً لقدرات عدوك، وتملك العُدة المناسبة لتحييد تلك القدرات، حينها يمكن أن تقول أنك تملك تصوراً واضحاً لمسار حربٍ من المرجح أن تكون لصالحك. الأمريكيون لم يخوضوا حرباً معنا، لأنهم لا يملكون، في التوقيت الراهن، تصوراً واضحاً لحجم ونوعية مقدراتنا. نحن من جانبنا، نملك تصوراً واضحاً لحجم ونوعية المقدرات العسكرية الأمريكية، لكننا لا نملك العُدة المناسبة، تحديداً من حيث الحجم، لمواجهة حرب أمريكية شاملة ضدنا. حدود قدراتنا تقف عند تحييد القدرة العسكرية الإسرائيلية، لكن إن أُضيف إليها القدرة العسكرية الأمريكية، فسيكون في ذلك مخاطرة كبيرة، قد نكون جرائها، معرضين للهزيمة. ما دمت أملك تصوراً واضحاً، أنني لا أملك العُدة المناسبة لمواجهة قوة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، هذا إذا افترضنا أن قوى دولية أخرى لن تدخل غمار المعركة إلى جوارها، حينها، سيكون من الغباء المُفرط أن أصرخ "الله أكبر"، وأذهب للقتال، وأنا أظن بأن الله سيُنصرنا لمجرد اللفظ. لقد خلق الله الكون بأكمله وفق قانون السببية. وبموجبه، يُحكم الله قضائه وقدره. لكل أمر سبب. حينما تعلم أنك لا تستطيع مواجهة طرف ما، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، ومن ثم، تنساق لمواجهته بصورة عبثية، حينها، عليك ألا تتوقع نصر الله. هكذا أفكر. وأنت تعلم أنني هكذا أفكر. لم أُخفِ عليك شيئاً، لم أنافق وأقول لك، سأفعل. لم أستخدم يوماً، في مناقشاتنا، "سين التسويف". أنا رجل أعمل على قدر قدراتي، ولا أحاول الرهان على ما هو خارجها.

بدأ الاسترخاء يجلل وجه الشيخ. قال بعد برهة صمت: - وفق منطقك هذا. لن يكون لنا نصيب، حتى في المستقبل، في مواجهة تنهي إسرائيل.

-    من قال ذلك. وهل كنت تظن يوماً، قبل عقدٍ من الزمان، أن سوريا ستقف على قدميها، كقوة إقليمية، وكدولة مزدهرة، وككيان نامٍ اقتصادياً بأرقام غير مسبوقة؟.. هل كنت تظن قبل بضع سنوات من الآن فقط، أنه سيكون بمقدورنا خوض حربٍ مع إسرائيل، وتحييد قدراتها تماماً، واسترجاع الجولان المحتل منذ أكثر من سبعين سنة، ووقف نشاطات الصهاينة التنقيبية تحت الأقصى، التي تهدده بالانهيار، وتحويل السلطة عليه إلى الأمم المتحدة بإدارة من الأوقاف الفلسطينية؟.. أو أن تفرغ السجون الإسرائيلية من المعتقلين الفلسطينين؟.. هل ظننت يوماً أننا سنفاوض الإسرائيليين، وسيضطر الغرب للضغط عليهم، وليس علينا نحن، كي لا يتورط في مواجهة عسكرية معنا؟.. هل توقعت ذلك، قبل اليوم.. أريد أن أُذكرك أنني عملت قبل تحرير دمشق، عقداً من الزمن، لتحقيق تلك اللحظة، وأنت ساهمت في ذلك، خلال السنوات الأربع الأخيرة، من عملية التحضير تلك.. وأريد أن أُذكرك، بأنني عملت، عقداً آخر من الزمن، كي تصبح سوريا، كما نراها اليوم.. وخلال ذلك العقد، كان العمل على قدم وساق، كي نمتلك قدرات عسكرية نوعية، لا يعلم الغرب عنها، كي ندافع بها عن أنفسنا لحظة يفكر الإسرائيليون بالاعتداء علينا.. هل كنت تعلم بخصوص تلك النشاطات البحثية والتسليحية، سوى ما كنت تسمعه من إدعاءات إسرائيلية، في وسائل إعلام غربية؟.. لقد كنت أنا، أعمل ليلاً نهاراً لتحقيق ذلك.. فيما تكتفي أنت في لحظة الانتصار، بالوقوف أمام الجماهير، لتحشيدهم بصورة غير عقلانية.. أقول لك يا شيخ أسامة، لقد خيبت أملي فيك، وبعقلانيتك، واعتدال فكرك.. وأقول لك.. كما حققنا ما حققناه اليوم، بالعمل الحثيث، الصامت، لأكثر من عقدين، يمكن لنا أن نصل يوماً للقدرة الكفيلة بقلب موازين القوى بصورة نهائية وأخيرة لصالحنا، ضد العدو الإسرائيلي.. لكن قبل ذلك، لن أنخرط أبداً في فعل، لا أملك تصوراً واضحاً حول عواقبه.. فإن كان تفكيري هذا مخالفاً لشرع الله، حسب تفسيراتك، فستكون صدمتي كبرى بهذه التفسيرات، التي لم تنصرف يوماً، أنت وأمثالك من رجال الدين، عن تفصيلها على قدر أهوائكم، وعلى قدر تصوراتكم الضيقة.

كان الذهول يحل على الشيخ أسامة. تلك أول مرة يواجه فيها هجوماً بهذه الشراسة من جمال الدمشقي، لكنه استشعر مرارةً في حديث الرجل، واتهام أصاب منه مكاناً في قلبه. اتهام بأنه يبتغي النجومية كرجل دين، ويبتغي المكانة، كمرجعية دينية مؤثرة، أكثر مما يبتغي وجه الله، فيما جمال يعمل بصمت، ويجترح النجاحات لبلده، ومن ثم ينال التقريع والاتهامات.. شعر الشيخ أسامة تماماً بما يشعر به جمال، وأحسّ بأنه تسرع بالفعل.. لماذا يُحمّل الرجل أكثر مما يحتمل، لقد حقق للسوريين ما لم يخطر على بالهم يوماً.. لقد شعر لأول مرة بأن جمال الدمشقي يشعر بالغُبن.

صمت مطولاً وقد أسدل ناظريه. وبقي جمال كذلك صامتاً، لكنه كان يحدق فيه بحدّة وامتعاض واضح. أخيراً، رفع الشيخ أسامة ناظريه، وقال بهدوء: - أعتذر إن تسرعت، فأسأت لك.. لكن ذلك كان من منطلق "العشم" بك.. والطمع في أن أرى، قبل أن أموت، القدس محررة، وأن أصلي فيها..

تهدج صوته.. شعر لوهلة، بأن جمال أصاب كبد الحقيقة فيه.. إنه لا يبغي وجه الله، وإلا، لكان عمل بصمتٍ أكثر من تلك العلنية الهوجاء التي يعتمدها. واستشعر جمال بأن الرجل يشعر بتأنيب الضمير، فقال بعد صمت مطوّل ساد جلستهما:

-    اسمع يا شيخي.. أنا أيضاً أعتذر.. ربما ضغوط الأيام القليلة الماضية، قضت على آخر قدراتي على التماسك وضبط النفس.. لم أعني ما قلته حيالك.. ثقتي بك كانت، وما تزال، عالية.. لكن يا أخي ومعلمي وعوني أيضاً.. لقد كنت في جنيف أفاوض نخبة أشرار الأرض، وأقويائها.. والله، لو كنت على ثقة، بأنني لا أغامر، لو استمريت في الحرب، لما توقفت للحظة.. هل تظن أنني لا أطمح، مثلك، أن أرى القدس محررة، وأن أُصلي فيها أيضاً.. لكن يا شيخي.. المسؤولية كبيرة.. والطرف الآخر ليس هيناً، كما يظهر لك.. تصور لو تابعنا الحرب.. وشعر الغرب أن نهاية إسرائيل وشيكة، هل أنت واثق أنهم لن يفكروا بتوجيه ضربة نووية صاروخية لإحدى مدننا، بغية التسبب بصدمة تُقعدنا، وتدفعنا لوقف الحرب؟.. لا نملك اليوم القدرة على ردّ هكذا هجوم، بشكل أكيد.. ولا أستطيع المخاطرة في هكذا سيناريو.. لكنه مطروح.. ما دمنا لا نملك القدرة على تهديدهم، كما يهددونا، لن نستطيع تحييدهم عن مساعينا لإنهاء إسرائيل.. بل على العكس، فبقاء إسرائيل هو ورقة قوة لدينا، فنحن قادرون على تهديد ربيب الغرب العزيز، ولذلك، سيضطر الغرب لمسايرتنا، خوفاً على ذلك الربيب.. أما لو ذهبنا في الحرب إلى أقصاها، وباتت نهاية إسرائيل حتمية، ما الذي سيمنع الغرب من استخدام سلاحه النووي، ما دمنا لا نملك، في هذا التوقيت، القدرة الصاروخية على استهدافه في عمق داره.. علماً أننا لم نذكر شيئاً بخصوص القدرة النووية الإسرائيلية ذاتها، التي لا نملك اليوم القدرة الأكيدة، على تحييدها.. لا يعني ما سبق أن تحييد الغرب من حرب تُنهي إسرائيل، أمر مستحيل، بل على العكس.. المسألة مسألة وقت فقط.. فما دمنا تجاوزنا عتبات معرفية نوعية، كامتلاك السلاح النووي، والقدرة على تصنيع صواريخ بالستية بعيدة المدى، فالمسألة مسألة وقت إلى أن نمتلك القدرة على تصنيع صواريخ عابرة للقارات، قادرة على حمل رؤوس نووية.. حينها فقط، يمكن لنا أن نقول للغرب، ابتعد، وإلا ستكون أنت أيضاً في مرمى صواريخنا.. بطبيعة الحال، حتى ذلك الوقت، سيحاول الغرب استهدافنا، بكل الطرق الممكنة، للقضاء على مشروعنا لتطوير قدراتنا التسليحية والبحثية.. لكنه لن يستخدم الطرق  المباشرة في المواجهة، لأنه سيخشى على مصير إسرائيل.. سيعمل الغرب على استهدافنا بطرق غير مباشرة، من أهمها، اختراقنا، اختراق صفوفنا، لفهم تركيبة منظومة القرار والتأثير لدينا، وفهم مكامن قوتنا وضعفنا، كي يوجه لنا الضربة القاصمة في الوقت المناسب.. وذلك يعني، أننا إن تابعنا مسيرتنا في حالة من التماسك، والعمل بصمت، التي عملنا بموجبها خلال السنوات السابقة، فإن احتمال نجاحنا في الوصول إلى العتبة المعرفية والعسكرية الكفيلة بتحييد قدرات الغرب، ليس أمراً مستحيلاً، بل على العكس، هي مسألة وقت.. لذلك.. يجب أن تكون أنت، وثلة العلماء المؤثرين من أمثالك، عوناً لنا.. أنا أعرف أنك لطالما شعرت بالريبة حيال مشاريعي.. لكن أعتقد أننا وصلنا إلى حدٍ من الوضوح، كفيل بتأكيد أنني أعمل بإخلاص في خدمة مشروع مستقبلي يجعل بلادنا قوية ومزدهرة، ويكفل امتلاكنا القدرة على تحرير فلسطين، في المستقبل.. قد لا نرى سوياً ذلك اليوم.. وقد يُيسر الله لنا أن نراه.. في نهاية المطاف، علينا أن نعمل، بصمت، وبإخلاص، إلى أن نُكلل بتوفيق من الله..

لم يستطع الشيخ أسامة أن يناقش جمال فيما قاله، لقد أخرسه بالفعل، فالمنطق السليم الذي تكلم بموجبه، كان كفيلاً بإقناعه إلى حدٍ ما، لولا حيزٍ من الريبة حيال أن يكون جمال يستخدم الإسلاميين والقضية الفلسطينية كورقة لتعزيز قوته، وكرسي حكمه لا أكثر.. ولكن.. هو يقدم لهذا البلد، أكثر مما يأخذ منه.. هو لا يحظى بأي فائدة مادية، من حكمه لسوريا. وعملياً، لا تظهر معالم الفائدة المعنوية، كالجاه والسلطة، عليه.. فهو بعيد عن الأضواء في معظم الأحيان، ويعمل بصمت فعلاً، وبأقل قدر ممكن من العلنية.. هذه ليست صفات رجل يهوى كرسي الحكم..

لم يكن الشيخ أسامة قادراً على الذهاب بعيداً في التشكيك بالرجل، وفي نفس الوقت، لم يكن قادراً على تحقيق حالة اليقين بإخلاص جمال.. لذا، قرر أن يفعل كما كان يفعل منذ أن التقاه أول مرة.. "لنجرب طريقة أخرى غير الطرق التي سبق وجربناها وفشلت جميعها".

وهكذا خرج جمال من أولى مواجهاته، وأقساها عليه، وقد حافظ على ولاء أبرز المرجعيات الدينية المؤثرة في البلاد حينها. وضمِن أن يؤدي ذلك إلى استقرار الولاء له في أوساط الإسلاميين، حتى لو على مضض، من بعضهم.

***

في اجتماع لقادة المؤسسة العسكرية، وبعضهم من أصحاب الميول الإسلامية، وبعضهم الأقل، من أصحاب التجارب الجهادية السابقة.. أجال جمال بصره بالحاضرين. كان يعلم أن بعضهم يُبطن خلاف ما يُظهر. فهم يعلمون أنهم مراقبون، في اتصالاتهم وربما حتى في بيوتهم، وكل تحركاتهم، مراقبة دقيقة. يعلمون ذلك جيداً، منذ أمد. لذا لن يُقدم أحدهم على فعلٍ يخاطر فيه بحياته، دون قيمة حقيقية.

قال جمال: - أريدكم أن تصارحوني.. وأنا كلي آذان صاغية.. ولنفتح باب النقاش.. وليكن المنطق العسكري الحكم بيننا.

جال في أذهان بعضهم، "يريد أن يكتشف من المعارضين له، كي يشدد الرقابة عليهم، وربما يُطيح بهم مستقبلاً".

قال أحدهم: "سيدي، لا يوجد ما يستحق النقاش، كلنا ثقة في سياساتك، وفي أدائك.. وما حققناه نصر لم نكن نحلم في يومٍ بمثيله".

لم يكن ذلك القائد العسكري، يُنافق. إذ كان جُلّ القادة راضون عما تحقق، بل كان بعضهم في حالة نشوة، وقد ارتفعت أسهم قيادة جمال لديه. لكن، كان في أوساطهم، أيضاً، الممتعضون، وكان جمال يريد محاورتهم. يريد أن يعصف بأفكارهم وأفكاره، في لُجّة من النقاش المحكوم بالمنطق. لا يريد أن يكون بعض قادته، من المغلوبين على أمرهم. يريدهم متقدين حماساً للعمل خلفه في مشروع تطوير الجيش السوري، صوب مراتب أعلى، يوماً تلو الآخر. مشروعه التطويري يتطلب تفاعلاً عميقاً من جميع أركانه، لا تبعية وولاء من منطلق الغلبة.

كرر طلبه بإبداء الآراء المعارضة، فلم يظهر أي منها، كان جميع المتحدثين، ممن أشادوا بحكمته، أو أكدوا أن ذلك أكبر الإنجازات الممكنة المتاحة للجيش السوري، في الوقت الراهن.

وبعد المحاولة الثالثة، قال قائد سرب طيران: - سيدي.. هل كنا عاجزين حقاً عن المتابعة؟

فقال جمال: - من يملك منكم تصوراً كاملاً لكيفية تحييد الغرب عن مواجهة عسكرية قد تقضي على إسرائيل، أو كيفية مواجهة الغرب ذاته، في إطار قدراتنا العسكرية الراهنة، التي يُدركها جُلكم.. فليتفضل بتقديم ذلك التصور.. وإن استطاع إقناع زملائه، قبل إقناعي، أنا مستعد لتمزيق اتفاق وقف إطلاق النار، وتحمل مسؤولية ذلك أمام العالم أجمع، وشن حرب جديدة على الإسرائيليين من الغد.

ران الصمت على الجميع. دقق جمال نظراته في القائد العسكري الذي أبدى تساؤلاً معارضاً، فقال له: - تفضل أيها القائد.. اشرح لنا تصورك للأمر، كلنا آذان صاغية.

-    سيدي، كانت مداخلتي استفساراً، وليس طرحاً.
-    وهل تظن أنني لو استطعت المتابعة، ونيل مجد تحرير القدس، وتسجيل اسمي في سجل الخالدين في تاريخ أمتي، من هذه الزاوية.. لما تابعت؟

ساد الوجوم على القائد العسكري، وعلى جميع الموجودين. وهنا تدخل رئيس الأركان، وقال:

-    سيدي.. لا أعتقد أن وجود بعض الآراء الممتعضة من وقف إطلاق النار، بعد عبورنا إلى فلسطين.. تعني التشكيك بسلامة المنهج الذي اعتمدته.. أعتقد أن جميع القادة العسكريين المتواجدين في هذه الغرفة، ممن يملك الإطلاع الكافي على قدراتنا، يعلمون أننا لا نملك اليوم القدرة الكافية على تحييد الغرب من أي مواجهة وجودية مع إسرائيل.
-    لكنني أستشعر خيبة أمل في وجوه البعض.. هل كنتم تظنون قبل الحرب أننا قادرون على استعادة كامل هضبة الجولان؟.. لا أعتقد.. قلّة منكم، تلك التي كانت متحمسة للمواجهة، قبل أن تبدأ.. لكن، حالما بدأت، غلب على بعضكم الحماس، حتى كاد ينسى المنطق العسكري الذي يحكم الحروب.

لم يجب أحد. ورغم أن جمال كان واثقاً من أن بعض قادته، غير راضين عن النتيجة التي آلت إليها الحرب، إلا أنه كان مرتاحاً لحالة الهيبة التي يملكها في أوساطهم. ذلك كفيل ببقاء قبضته مُحكمة على المؤسسة العسكرية. والزمن كفيل بتغيير آراء بعضهم. المهم، ألا تكون هناك أفعال مُضرة بصلابة المؤسسة، وحصانتها من الاختراق. خوفهم من جمال، لعلمهم بقدرته العالية على مراقبة همساتهم، حتى في بيوتهم، كفيل بضمان أمن المعلومات داخل المؤسسة، وذلك أبرز ما يبغيه جمال في هذه المرحلة، فهو على ثقة، بأن الأجهزة الاستخباراتية الغربية، بدأت من لحظة إعلان وقف إطلاق النار، تعمل بكل ما أُوتيت من قوة، كي تخترق المؤسسة العسكرية السورية.

***

-    يا إلهي.. لم أتوقع أن يحل عليك الاكتئاب بعد هذا النصر العظيم.

قهقه بمرارة بادية، ثم قال: - قولي ذلك لمن ألتقيهم.. منذ ثلاثة أيام، زارتني مادلين صفرا، كانت غاضبة، قالت لي أنها تستشعر حساسية عالية من شركائنا التجاريين والماليين في الغرب، وصرخت بي، "ما هذا الجنون، كيف تجرأت على إسرائيل وأنت تعلم أن العالم بأكمله معها؟".

علّقت إيمان بسخرية: - أعلم.. أمي قضت ثلاث ساعات تحادثني على الهاتف من بيروت، أول أمس، وتتساءل، "هل جُنّ زوجك.. إنها إسرائيل، أي أمريكا، أي العالم".

ضحك، وقد استرخت أعصابه حينما ذُكرت حماتُه. قال: - لا أعرف لماذا أحب هذه المرأة رغم كل استفزازاتها.

قالت والضحكات تنال من نبرة صوتها: - أعلم.. هي كذلك.. تحبك، وفي نفس الوقت، تشعر بالاستفزاز من سلوكياتك.. سبحان الله.. من الحب ما استفز.

علت ضحكاتهما. قال لها: - المشكلة ليست في أمك، أو في حماتي الأخرى، مادلين صفرا.. المشكلة الأكبر، بأولئك الرجال الذين أثق بهم، والذين يعرفون تماماً، حجم قدراتنا ونوعيتها، ورغم ذلك يصعقونني حينما يقولون لي، "ألم نكن قادرين على المتابعة إلى القدس، على الأقل؟"، وكأنهم مغرّد سوري مُتكئ على أريكة في بيته، ويتولى من هناك تقييم السياسة العامة للدولة، ويحاكم المنطق العسكري للجيش.

-    من هم الرجال الذين أبدوا امتعاضهم أيضاً؟
-    حسن إبراهيم.. قال لي بنبرة كلها امتعاض، "سيدي، لقد نجحنا في التشويش الكامل على كل اتصالاتهم، كنا نستطيع المتابعة، الأمر يتطلب شجاعة فقط". المشكلة أن الرجل قابع في أقبية البحث التقني والعلمي لعقدٍ من الزمن، وتعود على إدارة كل شيء بالأزرار. أشعر أحياناً أن إدراكاته باتت كلها افتراضية، ولم يعد يُحس بالواقع الحقيقي. كيف يطلب مني أن أتشجع في حربٍ لست واثقاً من خاتمتها؟.. أن أضع بلداً وشعباً بأكمله على كف عفريت، وأدعو ذلك، "شجاعة".
-    أعرف.. لا تقل لي.. لقد صُمت أذناي من القيل والقال، بهذا الخصوص.. الكل بات على دراية بما كان يجب أن نفعله.. ربما باستثنائك.

عادت القهقهة لتستولي على أصواتهم. تابعت إيمان: - أتعلم.. ربما الحق عليك فعلاً.
-    وكيف ذلك؟
-    لقد دلعت العاملين تحت قيادتك.. عليك أن تكون صارماً أكثر.
-    نعم.. ربما.. لكن السيطرة مستتبة في المؤسستين العسكرية والأمنية، وذلك أهم أولوية بالنسبة لي الآن.
-    جيد.. ما رأيك لو نزور الحمّة. دعنا نتمتع بمنشآت اليهود السياحية. سمعت أنهم أنشأوا هناك منتجعاً فريداً.
-    بالفعل.. علينا أن نخرج قليلاً من عالمنا الضيق هذا.. أتعلمين؟
-    ماذا؟
-    أفكر أحياناً أن أتنحى جدياً، عن كل مسؤولياتي، وأغادر دمشق.. لنعود مثلاً إلى لندن.. أو لنقبع في جنيف، على ضفاف بحيرتها الفريدة.
-    يجب أن تأخذ إجازة.. ذلك ضروري. إن لم يكن في الخارج، لأسباب أمنية في الوقت الراهن. ليكن في الداخل. إما في صلنفة، أو في الحمّة بالجولان، مثلاً. أو لنذهب إلى فيلا الجبل في لبنان.
-    صدقتي.. يجب أن آخذ إجازة.

وبالفعل، بعد بضعة أيام، غادرت العائلة بأكملها، إلى ينابيع الحمّة الكبريتية في الجولان. وقضوا بضعة أيام في ربوع مرتفعات الهضبة ومزارعها الغنّاء، وسبحوا في بحيرة طبريا. أحيطت رحلتهم بسرّية كاملة، وحُجبت عن وسائل الإعلام. وكانت أفضل سلوى لـ جمال بعيد الإجهاد الكبير الذي واجهه في الفترة الأخيرة. وعاد بعدها وقد استرد كامل لياقته. وتغلب على مشاعر الهم والغُبن، التي حلّت عليه بعيد وقف إطلاق النار.

***

في بداية أول يوم عمل جديد له في دمشق، بعد إجازته في الجولان، استيقظ مبكراً جداً. وحالما أذّن الفجر، انزوى في ركن الصلاة الخاص في القصر، بعد أن أغلق الأبواب عليه. صلّى الفرض، ثم أتبعه بركعتي شكرٍ لله. وبسط كفيه إلى السماء، وأسدل ناظريه، وناجى الحق سبحانه وتعالى. شكره على النصر الذي وفقه إليه، ثم قال له: "أعلم أنه ابتلاء بقدر ما هو نصر، إنه ابتلاء كي تختبرني هل أحسن عملاً.. برحمتك، وفقني للخير، وأنِر بصري وبصيرتي بما يرضيك، وارزقني الإرادة والقدرة على انتهاج ما يُرضيك، واصرفني بالحسنى عما يغضبك، وأحسن ختامي على ما يرضيك.. برحمتك، لا تخذلني بذنوبي وأفعالي.. وبرحمتك، لا تتركني لنفسي طرفة عينٍ أو أقل من ذلك، وخذ بناصيتي إلى الخيرات، وعرّفني على نعمك بدوامها ولا تعرّفني عليها بزوالها.. ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي.. واستر علي ولا تفضحني.. ولا تسلط علي بذنوبي من لا يخافك ولا يرحمني.. وأمتنِي وأنا في أقرب لحظاتي إليك، وقد غفرت لي، ورحمتني، وكتب لي الجنة، وحرّمتني على النار.. أنا ووالدَي وأهلي.. وسائر المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات..".

شعر بطمأنينة رانت على قلبه. خرج إلى التراس الضخم الذي يعشقه، ووقف في تلك الإطلالة البهية التي تتيح له رؤية الأفق الدمشقي الممتد أمامه وإلى جانبيه.

تنشق عبيق الأزهار من خلفه، وانتصبت قامته الممشوقة، وامتلأ صدره بعبير المدينة التي يعشقها.. مدّ بصره، وحدق رويداً رويداً، في جوانب حديقة تشرين الممتدة بألوانها الزاهية، أمام عينيه، منحدرةً بهيبة، نحو ساحة الأمويين.. استرد ذكريات قصيّة، من زمن جميل، حينما كان يلهو مع أشقائه بين أروقة الحديقة، برفقة أمه.. تلك التي يعشقها أكثر من دمشق ذاتها، وربما يعشق دمشق، لأن ترابها يحتضن جثمان أمه المُتلاشي دون شك، بعد أكثر من ثلاثة عقود على رحيلها..

لم يشعر هذه المرّة بالانقباضة المعتادة، التي كان يشعر بها حينما يلوح وجه والدته البعيد أمام ناظريه. ولم يغصّ حلقه بزفرة. وحتى حينما حلّت ذكرى والده، بجوارها، لم يرغب باجتنابها، بل تأملها. طمأنينة غريبة كانت تسود كيانه. قال في نفسه: "آه يا دمشق.. من هذا العاقّ الذي يستطيع الابتعاد عن رائحة ياسمينك؟".

***

(انتهت)

مواد ذات صلة:

في حجرة الصلاة قبل الحرب.. (الفصل الخامس عشر من "الترليونير السوري")

بيروت وبغداد تُحكمان من دمشق.. (الفصل الرابع عشر من "الترليونير السوري")

إعادة إعمار سوريا قبيل العام 2040.. (الفصل الثالث عشر من "الترليونير السوري")

بعث سوريا الفاشلة.. (الفصل الثاني عشر من "الترليونير السوري")

نفق الصناعات السرّية قرب تدمر.. (الفصل الحادي عشر من "الترليونير السوري")

منعطف العام 2020.. (الفصل العاشر من "الترليونير السوري")

لقاء المحفل السرّي في بلودان.. (الفصل التاسع من "الترليونير السوري")

حوار مع مرجعية جهادية.. (الفصل الثامن من "الترليونير السوري")

وصولاً إلى الدرك الأسفل، قبل رحلة الصعود.. (الفصل السابع من "الترليونير السوري")

امبراطورية اتصالات كبرى، سرّية.. (الفصل السادس من "الترليونير السوري")

بداية مشوار أسطورة المال والأعمال – (الفصل الخامس من "الترليونير السوري")

سقوط دمشق – (الفصل الرابع من "الترليونير السوري")

عائلة جمال الدمشقي - (الفصل الثالث من "الترليونير السوري")

اللقاء مع اليهودي الأمريكي – (الفصل الثاني من "الترليونير السوري")

من شرفة القصر بالمالكي – (الفصل الأول من "الترليونير السوري")



ترك تعليق

التعليق