امبراطورية اتصالات كبرى، سرّية.. (الفصل السادس من "الترليونير السوري")


بعد مغادرة مادلين صفرا، أبرز أذرع جمال في إدارة امبراطوريته المالية، دلف الأخير إلى مقر العمليات والمراقبة في قبو قصره الفسيح.

وتوجه مباشرةً للقاء حسن إبراهيم، عبقري الاتصالات الذي تمكن جمال، بالشراكة معه، من تشييد عالم اتصالات خاص به، شكّل أحد أبرز أعمدة قوته ونجاحه، مالياً وسياسياً وأمنياً، وعسكرياً.

كان جدول اجتماعهما يتضمن عدة بنود، أبرزها، تشديد المراقبة على جميع مستشاري ومديري فروع ومراكز امبراطورية جمال المالية والاستثمارية، حول العالم، تجنباً لأي اختراق مُرتقب من جانب الإسرائيليين وأعوانهم.

شمل تشديد المراقبة، مادلين صفرا نفسها، التي رغم ثقة جمال العالية بها، إلا أنه كان يخشى أن تكون إحدى خاصراته الرخوة، التي سيحاول الإسرائيلي الدخول منها.

كما شمل الاجتماع تناول آخر التدابير المُتخذة لمراقبة الإجراءات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، على الحدود في الجولان. ومراقبة التدابير التي اعتمدها الجيش السوري، عسكرياً وأمنياً، أيضاً، على الجانب الآخر من هذه الحدود.

في جلستهما، حدّق جمال في حسن، الأربعيني الهادئ، وهو يسرد له الإجراءات والتدابير التي اعتمدها لتنفيذ تعليماته.

حسن إبراهيم، المتحدر من إحدى بلدات ريف حلب الشمالي، نابغة بكل ما تعنيه الكلمة. وكان جمال يعتقد أن استحواذه على هذا الرجل، نعمة إلهية كبرى، وُهبت له.

أما حسن، فكان شديد الحماسة والولاء حيال مشروع جمال.. خاصة أن الأخير منحه كل ما كان يحلم به في الجانب المادي من الحياة، من ثراء، ومن تمويل وتجهيزات لمتابعة أبحاثه، ومن عناية خاصة به وبأسرته.. كما أن جمال منح حسن، أخيراً، الاستقرار النفسي، والانسجام مع الذات، إذ يشعر حسن أن عمله في مشاريع جمال يصب في خدمة تطلعاته لمستقبل بلاده ومنطقته، ويريح ضميره، ويُوحي له بأنه يفعل ما يتوجب عليه تجاه أمته، الأمر الذي يزيد من حماسته في أداء عمله..

وكان حسن يكنّ الكثير من التقدير والاحترام لشخص جمال الدمشقي، وكان يشعر بالامتنان كونه مُقرباً منه.

بجسمه النحيل، وقامته القصيرة، ووجه المتطاول، وذقنه الخفيفة المبعثرة التي تخترقها بضع شعيرات بيضاء، وبعينين بنيتين كبيرتين، أوضح حسن إبراهيم لجمال تفاصيل التدابير الأخيرة التي اتخذها.

كان جمال قد أبرق لحسن، مساء أمس، باتخاذ وضعية الطوارئ، الأمر الذي جعل مقر العمليات الشاسع، في قبو قصر جمال، بدمشق، خلية نحل ملتهبة.

قال حسن:

-    أطلقنا نظاماً لمراقبة أجهزتنا الدفاعية العسكرية، ولمراقبة قياديينا العسكريين والأمنيين وحتى التكنوقراط الحكوميين، كما أطلقنا نظاماً آخر لمراقبة كل التحركات، بكل أنواعها، في هضبة الجولان، ولدي بيانات غزيرة عن كل تفاصيل التجهيزات والاستعدادات العسكرية الإسرائيلية في الهضبة، التي تؤكد أن الإسرائيليين اتخذوا تدابير كفيلة بحرب شاملة، وليس أقل من ذلك..

ازدرد ريقه، ثم استطرد:

-    أطلقنا نظاماً آخر لمراقبة القواعد العسكرية، وخاصة قواعد الطيران والصواريخ، داخل إسرائيل، ومراقبة المواقع النووية الإسرائيلية.. ولدي قائمة تفصيلية بمواقعها جميعاً.. كما أطلقنا نظاماً لمراقبة القطع والقواعد العسكرية الأمريكية في الخليج والبحر الأحمر والمتوسط.. وفي قبرص وشرق أوروبا، وفي جنوب تركيا.

نظر إليه جمال، ثم قال:

-    هل أحلت الصور والمعلومات المتوافرة عن الاستعدادات العسكرية الإسرائيلية لمحللينا العسكريين؟
-    نعم.. وهي قيد الدراسة الآن.. وإن كانت تقديراتهم الأولية، أن إسرائيل مستعدة لحرب بالتأكيد.

أرخى جمال ناظريه وبان الوجوم على وجهه، فبادره حسن بالقول:
-    لا تخشى شيئاً سيدي.. لا أعتقد أنهم يتوقعون أننا نملك ما نملك من تقنيات وإمكانيات.. ولا أعتقد أنهم يعرفون بحجم الاختراقات التي حققناها في عقر دارهم..

فرد جمال بنبرة يسودها القنوط:
-    لم أكن أريد أن يعرفوا الآن.. ما يزال الوقت مبكراً جداً.. لم نصل إلى القدر الذي نحتاجه من القدرة للمواجهة الشاملة معهم.. ومع من يقف ورائهم من قوى دولية..

قال حسن والحماسة بادية في نبرته:
-    لا بأس.. نستطيع أن نكشف حيزاً فقط من قدراتنا، يكفي لردعهم عن الاعتداء مرة أخرى.. ويكون ذلك كفيل بردعهم لفترة مستقبلية كافية، إلى أن نصل إلى ما نحتاجه من قدرات للمواجهة الشاملة معهم.
-    هذا ما أفكر فيه بالضبط، لكن علينا ألا نتوقع، إن فُوجئوا بقدراتنا، أن يتركونا وشأننا كي نتابع في تطويرها، حتى لو كشفنا حيزاً منها فقط.. وإذا ردعناهم عن القيام بحرب مباشرة، فهم قادرون على شن صنوف أخرى من الحرب ضدنا، عبر حلفائهم وداعمييهم حول العالم..
-    هذه اللحظة متوقعة سيدي.. أنت كنت تخبرني دائماً أن علي أن أضع في الحسبان لحظة قريبة نتصادم فيها عسكرياً مع إسرائيل..
-    نعم صحيح.. لكن حينما حان أوانها، شعرت بالخشية أكثر من تداعياتها اللاحقة.. بكل الأحوال، قدّر الله وما شاء فعل..

***

قبل عقدٍ ونصف، أي عام 2025، أعلنت شركة "الدمشقي للاستشارات"، إحدى أذرع "مجموعة الدمشقي القابضة"، عن مسابقة لانتقاء أفضل الأفكار العلمية القابلة للاستثمار الاقتصادي، بمكافآة مالية مجزية تصل إلى مليون دولار.

وحصرت الشركة المسابقة باللاجئين السوريين، حول العالم.

كانت محاولة من جمال لاستنساخ تجربة بنك الـبنك السويسري - البريطاني، لكن مع تعديل طفيف، عبر حصر الأفكار الاستثمارية، بفحوى علمي.

كان لـ جمال هدف اقتصادي أكيد من هذه المسابقة، لكن أيضاً، كانت له أهداف إنسانية وأخرى سياسية. الإنسانية تُعنى بمساعدة السوريين، خاصة المبدعين منهم، حول العالم. أما السياسية، فكان جمال يبحث عن أفكار علمية يمكن أن تمنحه قدرات أمنية وعسكرية مميزة، إذ كانت مساعيه الجادة للتدخل في مأساة بلده قد وصلت إلى مراحل متقدمة، لكنها كانت ما تزال في أطوار تأسيسية.

ففي عام 2025، كان معظم سوريا وأجزاء من شرقي لبنان، ووسط العراق، بما فيها بغداد، وأجزاء من شمال الأردن، كلها تحت قبضة تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي تقدم في أطوار تأسيس دولته، بالفعل.

دولة مارقة في نظر كل دول العالم، ومحاربة، لكنها قائمة على أرض الواقع، وتتمدد.

اعتزلت إيران الصراع مع "الدولة الإسلامية" في العراق، مقابل صفقة غير معلنة بين الطرفين، بأن يقف تمدد التنظيم عند النجف، ولا يتجاوزها أكثر إلى الجنوب العراقي، وألا يتعدى على الحدود الإيرانية.

 فبعد أن تخلت إيران، بملء إرادتها عن دمشق، عام 2021، بهدف خلط الأوراق، وجعل الإسرائيليين وجهاً لوجه أمام خطر المتطرفين الإسلاميين.. فُوجئت إيران، بأن التنظيم سرعان ما ارتد عليها، فيما بقيت حدود الجولان من الجانب السوري، التي علتها أعلام التنظيم السوداء، هادئة، دون أي طلقة.

واستغل التنظيم الزخم الذي حصّله بعيد السيطرة على دمشق، فتدفق عشرات آلاف المتطوعين إلى صفوفه، وحصلت انشقاقات هائلة في صفوف فصائل جهادية كبرى مناوئة للتنظيم، حيث انضم المنشقون إلى التنظيم، وبايعوا "خليفته".

كان الإحباط قد وصل ذروته في صفوف مناوئي نظام الأسد خلال الولاية الأولى لـ دونالد ترامب، بين عامي 2017 – 2021.

كان هناك تياران يتفاعلان في أوساط فصائل الجهاديين المناوئين للأسد. تيار يغلب عليه السوريون، ويراهن على التعاون مع الحلفاء الإقليميين، ومع الأمريكيين والأوروبيين، لوضع حدٍ للمأساة السورية، وفق سيناريوهات تحقق الحد الأدنى من تطلعات الثائرين، برحيل الأسد وزمرته. أو في أدنى الحدود، التمهيد لهذا الرحيل عبر اتفاق سلام يقلص صلاحيات رئيس الجمهورية.

وتيار آخر، أكثر تشدداً، يرفض هذا التعاون، ويؤكد أنه ينال من "الجهاد الشامي"، ويضعه موضع الشبهات، ويفقده التأصيل الشرعي له.

التيار الآخر، الذي غلب عليه مهاجرون، وسوريون قلّة من المتمسكين بفكر "القاعدة"، خضع لضغوط ومطالبات التيار الأول، بعد أن ثبت بالتجربة صعوبة تحقيق أي تقدم ميداني نوعي، دون دعم خارجي، وبعد أن وصلت جراح السوريين إلى مداها الأقصى في ربيع العام 2018.

خضع رافضو التعاون مع الخارج، للتيار الأول المراهن عليه، فقاد الأخير دفّة سياسة الفصائل الكبرى، فيما كانت الوعود تتوالى من عواصم خليجية ومن تركيا، أن غلبة مظهر "الاعتدال" على المعارضة السورية، سيعزز من فرص مدّ أواصر تفاهم متين مع الغرب، وتحديداً، إدارة دونالد ترامب في واشنطن.

لكن، وخلال أكثر من سنتين ونصف، من ولاية ترامب الأولى، كانت الأحداث والتطورات تؤكد بصورة دورية، أن الأمريكيين يتلاعبون بالجميع.

واتضح تدريجياً، بشكل لا يقبل أي شك، أن واشنطن تريد أن تستمر سوريا، كمحرقة للجهاديين، بكل أصنافهم، ولنظام الأسد وأنصاره أيضاً، وللروس والإيرانيين وللأتراك. وكانت كل إجراءات واشنطن التكتيكية، من قبيل قصف محدود لمواقع عسكرية لنظام الأسد، ومدّ فصائل المعارضة ببضع أنواع من الأسلحة النوعية، باستثناء مضادات الطيران، بهدف ضبط اللعبة، بصورة لا تفلت فيها عن السيطرة، وتضمن الحفاظ على أمن إسرائيل، بالتوازي مع تحقيق أكبر قدر ممكن من الاهتراء في قدرات جميع الأطراف المتورطة في سوريا، باستثناء الأمريكيين ذاتهم.

في نهاية صيف عام 2019، كان الروس أول من حزموا أمرهم، وأيقنوا بأن واشنطن ورطتهم في سوريا، بهدف استنزافهم، فانسحبوا بشكل مفاجئ من المعركة الشرسة في البلاد، وتخلوا عن نظام الأسد، واكتفوا بقاعدتين، برية وجوية في حميميم قرب اللاذقية، وبحرية في طرطوس، وسحبوا كل مستشاريهم وعسكرييهم من باقي المواقع، وتركوا الأسد والإيرانيين، دون تغطية جوية.

كان قرار الروس صفعة مؤلمة للغاية، للإيرانيين تحديداً، وأيضاً لنظام الأسد، كما أنه فاجئ الأمريكيين. لكن طهران، ظنت أنها تستطيع كالعادة، تحويل الأزمات إلى فرص، عبر استغلالها بما يخدم صالحها، فراهنت على إمكانية الوصول إلى تسوية مع واشنطن، باعتبار أن الإيرانيين هم الجهة الوحيدة المتبقية في الميدان، التي تستطيع منع سقوط نظام الأسد عسكرياً، وهو هدف يتفق فيه الإيرانيون مع نظرائهم الأمريكيين.

خلال هذه اللُجّة من التعقيدات والتطورات، تفاقمت النقمة في صفوف مقاتلي الفصائل الجهادية المعارضة، حيال سياسات قياداتها المسايرة للغرب.. وتضخم التيار المناوئ للتنسيق مع الغرب، والذي حمّل قيادات التيار الأول، التصالحي، مسؤولية الاستنزاف الكبير الذي نال من هذه الفصائل، خلال سنتين ونصف من الرهان على التعاون مع القوى الإقليمية والدولية، والذي ذهب هباءاً.

وكان الفساد الذي استشرى في أوساط قيادات بعض الفصائل، التي استمرأت استمرار الوضع على ما هو عليه، للحفاظ على مكاسبها وامتيازاتها، والإقطاعات المناطقية التي باتت مُحتسبة لصالحها، سبباً في تفاقم النقمة في قواعد تلك الفصائل، وفي الصفوف الثانية والثالثة لقياداتها.

وكان انضباط قيادات الفصائل، بتوجيهات وتعليمات الخارج، بالتحرك عسكرياً حيناً، والتوقف حيناً آخر، بصورة اتضح أنها تستهدف عدم التهديد الجدّي لنظام الأسد، وعدم النيل من قاعدته الشعبية من "الأقليات"، سبباً في تفشي استياء عارم في صفوف مقاتلي هذه الفصائل.

في هذه الأثناء، كان تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي اندحر عن عاصمتيه، الموصل والرقة، ينظم صفوفه في أعماق الصحراء وبعض أطراف المدن، ويغيّر من استراتيجياته، ويستثمر في أخطاء أعدائه، في سوريا والعراق، حيث تعرّض سكان المناطق التي كان يُسيطر عليها سابقاً، من العرب السُنة، لاضطهاد وعمليات تهجير وتنكيل مكثفة، من جانب القوى التي سيطرت على تلك المناطق، في العراق، من الشيعة والأكراد، وفي سوريا، من الأكراد تحديداً.

وفيما توقفت معظم عمليات "داعش"، حتى كاد البعض ينساه ميدانياً، لم تهدأ دعاية التنظيم.. وكانت دعايته تركز حينها، تحديداً، على جذب المقاتلين المستائين في أوساط فصائل المعارضة التي تعاونت مع الغرب، في سوريا، وعلى جذب الحانقين من السُنة العراقيين، من جديد.

 ولأن الفصائل في سوريا، ترفع رايات جهادية، في معظمها، كانت دعاية التنظيم قادرة بقوة على النيل من سياسات تلك الفصائل، والضرب على وتر الاستياء في أوساط مقاتليها.. فكيف هي "جهادية" وتوالي الغرب "الكافر"؟، وكيف هي "جهادية" وتأتمر بأوامره؟، وما هي حصيلة الارتماء في أحضان "الصليبيين"؟، لقد خسرت تلك الفصائل الآلاف من مقاتليها، وما تزال حمم طائرات الأسد وداعمييه الإقليميين والدوليين، تنهال على السوريين وتهجرهم.. إذاً، لقد ثبت بالتجربة خطأ سياسات قيادات تلك الفصائل بالائتمار بأوامر الغرب، بحجة الحاجة لدعمه.. ذلك إن أحسنا النية، أما إن أسأناها، فقد ثبتت بالتجربة، عمالة تلك القيادات وموالاتها، للـ "الصليبيين".. تلك كانت استراتيجية الدعاية التي اعتمدها التنظيم.. وكانت تتغلغل في أوساط الفصائل الجهادية بقوة، حتى بات أغلب مقاتليها على شفير الانشقاق، بين لحظة وأخرى.

لذا، حينما يأست إيران من تحصيل مكاسب في حربها بسوريا، وتخلت عن الأسد، وأخلت دمشق، في اتفاق غير مباشر، مع مقاتلي "داعش"، واجتاح هؤلاء العاصمة.. انهارت معظم الفصائل الجهادية المناوئة للأسد، وانشق معظم مقاتليها، والكثير من قياداتها، وبايعوا تنظيم الدولة، الذي وجد نفسه يسيطر على معظم التراب السوري، في دمشق، وريفها، وفي ريف حمص، وكذلك في ريف حماه وريف حلب، وفي إدلب وريفها. وانزوى من لم ينشق عن الفصائل الجهادية، "جيش الإسلام"، و"أحرار الشام"، و"النُصرة"، في بقع جغرافية محدودة، سرعان ما تمكن تنظيم "الدولة" من الانقضاض عليها.

وكان التنظيم قد استغل حالة الانهيار في صفوف قوات الأسد بعيد سقوط دمشق، فاجتاح حماه، ودير الزور، وتدمر، مرة أخرى، كما اجتاح حمص، التي فرّ العلويون منها سريعاً، ولجأ عشرات الآلاف منهم إلى لبنان، فيما اعتصم بعضهم في الجبال، من جديد.

وبقيت ثلاث بقع في سوريا، لم تخضع للتنظيم، أو لم يبذل التنظيم جهوداً جادة للسيطرة عليها، هي شمال شرق البلاد، من الحسكة إلى عين العرب، ومنطقة عفرين، ومنطقة الساحل السوري، بما فيها، اللاذقية وطرطوس.

وبعد سنتين من اجتياح دمشق، ومعظم الأراضي السورية، كان تنظيم "الدولة" قد امتلك طاقات جديدة، بشرية واقتصادية وعسكرية، وكان حفظه للحدود على هضبة الجولان، ورقة أساس لتفاهم سرّي بينه، وبين الغرب، أنهى الحملة العسكرية التي كان يقودها الأمريكيون ضده، بعد أن تهافتت كثيراً في السنوات الأخيرة، مقابل عدم قيام التنظيم بأي نشاطات إرهابية في عمق الدول الغربية، أو تستهدف مصالح الغرب في الخارج.

وعلى ما يبدو، فإن قيادات تنظيم "الدولة" أرادوا تحصيل دور وظيفي لهم، يضمن لهم انكفاء الغرب عن محاربتهم، ويحافظ على حالة التعبئة والتحشيد العقائدي لأنصارهم الجدد تحديداً، كي لا يقعوا في نفس الحفرة التي وقعت فيها الفصائل الجهادية في سوريا، التي سايرت الغرب وهادنته. فاعتمد تنظيم الدولة استراتيجية الحرب ضد إيران، باعتبار أنها خطر أولى بالقتال من إسرائيل، والغرب من ورائها.

وبالفعل، ارتدت خطة طهران في دمشق، عليها، وتركزت كافة جهود تنظيم الدولة على محاربة إيران في العراق تحديداً.

وتعرضت القوات العراقية المدعومة إيرانياً، والتي يغلب عليها العنصر الشيعي، لانتكاسات كبرى في وسط العراق وشماله، خاصة أن العنصر الديمغرافي السُني، هناك، تعرض لانتهاكات قاسية من مليشيات الحشد الشعبي الشيعية، التي أذاقت سُنة العراق، الويل، تحت شعار محاربة تنظيم "الدولة". فتمكن الأخير بسرعة من التغلغل في أوساط سُنة العراق، من جديد، واستعاد في وقت قياسي، كل المناطق التي خسرها قبل سنوات قليلة.

وفي صيف العام 2023، تمكن التنظيم من اجتياح بغداد، وسط فرار جماعي كيفي، للشيعة، مدنيين ومسؤولين ومقاتلين.

كان سقوط بغداد صدمة كبرى للعالم أجمع. لكن صناع القرار بواشنطن، كانوا على علم بنيّة التنظيم اجتياح العاصمة العراقية. وكانت واشنطن قد سحبت الأعداد القليلة المتبقية من مستشاريها وعسكرييها في العراق، لتحصرهم في إقليم كردستان بشمال البلاد، وذلك قبل أشهر فقط من اجتياح العاصمة العراقية من جانب مقاتلي تنظيم "الدولة". كانت واشنطن على علم بأن بغداد ستكون قريباً، ثاني عاصمة عربية تخضع لتنظيم "الدولة". وكانت ترى في ذلك فرصة ذهبية لإغراق إيران في حرب شعواء مع المتشددين السُنة، الذين باتوا على أبوابها.

وبالفعل، خاضت إيران خلال سنة، بين عامي 2023 – 2024، حرباً شعواء مع تنظيم "الدولة"، الذي حظي بعشرات آلاف المتطوعين المتحمسين، من السُنة العراقيين الحانقين جراء سنوات من الظلم والافتراء الشيعي عليهم.

وانتكس الشيعة بصورة دراماتيكية. فخلال أشهر، اجتاح التنظيم كربلاء، ومن ثم النجف، حيث شهدت المدينتان بعض المجازر المُروعة بحق السكان الشيعة، ومن ثم حاول مقاتلو التنظيم اختراق الحدود الإيرانية، حيث بات البرّ الإيراني في حالة تهديد عسكري مباشر.

واستنفرت إيران كل قدراتها العسكرية والاقتصادية والعلمية، والبشرية، في صدّ مقاتلي التنظيم، ونجحت خلال 9 شهور، من منع التنظيم من تحقيق أي اختراقات نوعية لأراضيها. وفجأةً، في مطلع صيف العام 2024، هدأت الجبهات الإيرانية مع مقاتلي التنظيم، واتضح لاحقاً أن تفاهماً سرّياً قد انعقد بين قيادة التنظيم، وبين إيران، بترسيم غير معلن للحدود، بحيث تبقى البصرة، وما بقي من الجنوب العراقي، تحت سيطرة حكومة شيعية مُنقادة من إيران، وأن تتوقف محاولات التنظيم لاختراق الأراضي الإيرانية، مقابل توقف إيران تماماً عن أي نشاطات تهدد مناطق سيطرة التنظيم في العراق.

وفي أقصى الجنوب العراقي، اكتظ الشيعة العراقيون النازحون من بغداد وكربلاء والنجف، مع سكان المناطق الأصليين، حيث كان الاستياء يتفاقم جراء أداء إيران، وحلفائها من الفصائل الشيعية العراقية.
 
ولأن اتفاق وقف القتال بين التنظيم وإيران، نصّ على العراق حصراً، يمّم مقاتلو التنظيم وجوههم شطر بيروت، وعينهم على الضاحية الجنوبية فيها.. وتعرض لبنان لهجوم هو الأشدّ في تاريخه، لكن تكاتف كل الأطراف اللبنانية، على اختلاف ألوان طيفها، واشتراك اللاجئين السوريين في المواجهة لصالح الدولة اللبنانية، فاجأ العالم بأكمله، وفاجأ مقاتلي التنظيم أنفسهم، الذين لقوا شراسة كبيرة في المواجهة، بصورة صدّتهم ليبقوا في المنطقة التي يسيطرون عليها، في عرسال، شرق لبنان.

لعب جمال الدمشقي يومها دوراً بارزاً في حشد وتعبئة اللاجئين السوريين إلى جانب المقاومة اللبنانية ضد تقدم التنظيم.

كانت المخاوف بين اللبنانيين يومها، على أشدّها، في أن يتورط اللاجئون السوريون، الذين ناهزوا 4 ملايين، في دعم التنظيم، جراء استيائهم من الإساءات والقيود التي تعرضوا لها من جانب شريحة كبيرة من اللبنانيين، ومن الدولة اللبنانية.

كان اللاجئون السوريون يومها، مستاؤون بالفعل، ولأقصى الحدود، جراء معاملة كثير من اللبنانيين، التي كانت فوقية في أحسن الأحوال، ومهينة وعنصرية في أغلب الأحيان. كما كانت الدولة اللبنانية ومؤسساتها تتعامل معهم كمشاريع "إرهابيين"، وتضيق عليهم في السكن والعمل والتحرك.

لكن جمال الدمشقي، الذي بدأ منذ العام 2021 في تأسيس شبكة مؤسسات خيرية وتنموية تستهدف مساعدة اللاجئين السوريين في لبنان، بما فيهم العلويون منهم، تمكن من حشد غالبيتهم العظمى وراء موقفٍ موحدٍ، مفاده، دعم الدولة اللبنانية، والمقاومة المسلحة الشعبية التي تشكلت عام 2024، في صدّ مقاتلي التنظيم.

شبكة جمال الخيرية والتنموية في لبنان، كانت هائلة، برأسمال تجاوز خلال ثلاث سنوات، 30 مليار دولار. وبذلك، لم يبقَ بيت للاجئ سوريّ في لبنان، لم يحظى بدعم وتمويل من شبكة المؤسسات التي أنشأها جمال.

وارتقى المستوى المعيشي للاجئين السوريين في لبنان، وانتعش معظمهم بعد طولِ فاقة.

وأدرك جمال، منذ اجتياح تنظيم الدولة لدمشق، عام 2021، حجم الخطر المُرتقب، حين سيأتي الدور على لبنان، وسيحاول التنظيم استغلال مشاعر المرارة بين السوريين فيه، جراء معاملة أقرانهم اللبنانيين.. فكان أن نشط بكثافة وبجهد كبير، لتشكيل غطاء مالي واجتماعي يؤمّن السوريين، ويوحدهم وراء موقف مشترك، يضمن سلامة لبنان، وسلامة سكانه، بما فيهم السوريون أنفسهم.

وذخّر جمال، منذ البداية، مؤسساته الخيرية والتنموية، بقادة رأي وإعلاميين ناشطين، كُلفوا بمهمة تحذير اللاجئين السوريين، من التعاطي الالكتروني، أو المباشر، مع خلايا تنظيم الدولة.

وعبر نشاطات إعلامية ودعائية، تمكن إعلاميون سوريون، ممولون من جانب جمال الدمشقي، وعبر مؤسسات إعلامية لبنانية، وسورية ثورية، من إقناع اللاجئين السوريين، في غالبيتهم العظمى، بالخطر العظيم الذي سيطولهم، لو وصل مقاتلو التنظيم إلى عمق لبنان.

ومقابل التحذير، شاع ترغيب عممه الإعلاميون وقادة الرأي المدفوعين من جانب جمال، بين اللاجئين السوريين، مفاده، أن علاقتهم مع اللبنانيين، شعباً ودولة، ستكون في أفضل أحوالها، لو وقفوا إلى جانبهم، في أي مواجهة مرتقبة مع تنظيم "الدولة".

ولاحقاً، شكّل جمال فرقاً مسلحة ومدربة أحسن تدريب، وأخرى كُلفت بمهام أمنية، من لاجئين سوريين متطوعين، كي يكونوا إلى جوار الجيش اللبناني، والمقاومة الشعبية اللبنانية، في المواجهة المُنتظرة مع التنظيم.

وخلال ثلاث سنوات، بين عامي 2021 – 2024، تاريخ غزو التنظيم للعمق اللبناني، تمكن جمال من تملك الرأي العام الغالب بين اللاجئين السوريين في لبنان، لصالحه.. كما تمكن من إقناع حلفائه وأعدائه في حين، من القيادات اللبنانية، بتقبل وجود فرق عسكرية مسلحة، وقوى أمنية، من اللاجئين السوريين، كي لا يكون هؤلاء هم الخاصرة الرخوة التي سيدخل من خلالها، التنظيم، إلى العمق اللبناني.

كانت مهمة القوى الأمنية المشكلة من اللاجئين السوريين، رصد أي نشاطات لخلايا التنظيم في أوساط هؤلاء اللاجئين. وخلال ثلاث سنوات، تم إلقاء القبض على عشرات الخلايا التابعة للتنظيم.

سياسة جمال هذه، أكسبته شعبية في أوساط اللبنانيين، حتى من الحواضن الشعبية الكارهة له، من الشيعة وبعض المسيحيين، الذين، رغم كراهيتهم لشخصه، إلا أنهم قدّروا سياساته وخطّه العام.

كذلك، كسب جمال ودّ دول خليجية، وغربية، رأت فيه الشخص السوريّ الأمثل، الذي يمكن الرهان عليه، لإخراج السوريين من بوتقة الولاء والتبعية لتنظيم الدولة الإسلامية.

 ويوم قرّر مقاتلو تنظيم الدولة، غزو العمق اللبناني، مراهنين على تكرار نجاحاتهم السريعة، وانهيارات خصومهم الدراماتيكية، في سوريا والعراق، خلال السنوات الثلاث السابقة.. فُوجئوا في لبنان بمقاومة شرسة، كان أحد أضلاعها الفاعلة، تلك الفرق العسكرية التي شكلها جمال من لاجئين سوريين، والتي كانت قد تلقت تدريبات متخصصة، وزُودت بأحدث الأسلحة المناسبة لحرب العصابات.

وصدّ اللبنانيون والسوريون، تنظيم الدولة عن العمق اللبناني، فكانت أول انتكاسة للتنظيم منذ عام 2021.

ولأن قادات التنظيم يدركون خطر ركود جبهات القتال على معنويات مقاتليهم، وولائهم، شنّ التنظيم حرباً على الأردن، مستغلاً مئات الخلايا النائمة التابعة له على امتداد الأراضي الأردنية، وداخل بعض مؤسسات الدولة الأردنية.

ولم يكن التنظيم ملتزماً تماماً بتفاهماته السرّية مع واشنطن، واقتحم المحافظات الشمالية للأردن، الحليف المُقرّب لواشنطن في المنطقة، إلا أن التزام التنظيم بالخطين الأحمرين الأساسيين، للتفاهم، وهما، عدم تهديد أمن إسرائيل، أو القيام بأي عمليات ضد المصالح الغربية داخل أراضي الغرب أو خارجه، حفظ الحد الأدنى من ذلك التفاهم.

 وتمكن تدخل الطيران الأمريكي من لجم قوات التنظيم عن التقدم نحو العاصمة الأردنية، التي بقيت، رغم ذلك، في حالة خطر وجودي حقيقي، ومقاتلو التنظيم على بعد مسافة جغرافية قريبة منها.

في هذه الأجواء، كانت أحلام السوريين اللاجئين خارج أراضيهم، بالعودة إلى ديارهم، قد نضبت، خاصة بعد أن شهدت سوريا موجة لجوء كبرى منها، بعيد اجتياح تنظيم الدولة لدمشق وحمص وحماه. ودخل إلى لبنان أكثر من 3 ملايين سوري، جُدد. الأمر الذي اضطر الغرب، وتركيا أيضاً، ودول الخليج، ودول أخرى حول العالم، إلى القيام بخطوات جدية لتخفيف الضغط الكارثي على لبنان، إما عبر نقل مئات آلاف اللاجئين السوريين إلى أراضي دول أخرى، أو عبر تقديم مساعدات عاجلة، مالية وعينية، للحكومة اللبنانية.

أثناء ذلك، تحديداً، صيف عام 2025، أطلقت شركة "الدمشقي للاستشارات"، مسابقتها الأولى، لجمع أفضل الأفكار العلمية القابلة للاستثمار الاقتصادي، بين اللاجئين السوريين في لبنان والأردن ومصر ودول الخليج وتركيا، ودول الغرب.

وتلقت الشركة 5743 فكرة علمية، تطلب فحصها من خبراء مختصين أكثر من سنة، وكلفت المسابقة جمال، أكثر من 100 مليون دولار، لكنها في نهاية المطاف، حصرت المتسابقين في عشرة، قدّموا أفكاراً علمية فريدة، وذات جدوى اقتصادية عالية.

من بين المتسابقين، كان حسن إبراهيم، الذي كان حينها في الثلاثين من عمره.. وقبل عقدٍ من ذلك الوقت، كان حسن برفقة مجموعة من الشبان السوريين في بالم تتخبطه الأمواج بين تركيا واليونان، في محاولته الثالثة للهجرة إلى أوروبا، والتي اعتزم أن تكون الأخيرة، بعد أن نال منه الإحباط.

قبيل ذلك التاريخ، فرّ حسن إبراهيم، مع عائلته، من الشطر الشرقي من مدينة حلب، التي ترعرع فيها، رغم تحدره من ريفها الشمالي. كان مناصراً للثورة بشدة، وشارك في مظاهراتها الأولى، المحدودة في مدينة حلب، حين كان أعداد المشاركين ضئيلة، ومشاركاتهم غاية في الخطورة.

كان حسن ممتلئاً حتى الذروة بالميول الإسلامية، لكنه في بدايات الثورة، ناصر الخط السلمي للحراك، وحينما اقتحم الثوار الشطر الشرقي من مدينة حلب، كان في ذروة حماسه، خاصة أن الفصائل التي اقتحمت المدينة، لم تكن تُخفي اتجاهها الإسلامي.

قبيل اقتحام شطر حلب الشرقي، بأسابيع، نال حسن الثانوية العامة بدرجات متفوقة للغاية.. وكانت معركته الرئيسية داخل البيت، مع والده الذي كان يريد له مستقبلاً زاهراً كطبيب أو مهندس برمجيات، كما كان يحلم.. ولم يكن الأب يريد لابنه التورط في أحداث الثورة التي قد تنال من حياته، أو مستقبله، حسب تقديراته حينها.. وكان حسن، الورع، يخضع لوالده، في حين، ويتمرد عليه في حين آخر..

لكن بعد 3 سنوات من سيطرة فصائل الثوار على شطر حلب الشرقي، تحولت العيشة هناك إلى جحيم، جمع قذائف النظام وطيرانه، إلى جانب الفاقة التي نالت من معظم أهالي المدينة، بما فيها أسرة حسن، ناهيك عن الممارسات السيئة التي كان يقدم عليها بعض مقاتلي الفصائل في المدينة، بصورة جعلت الإحباط يتغلغل في نفس حسن، وأشعلت نيران الشكوك في عقله، حيال صوابية ما شارك فيه، وتحمس له..

وفي مطلع العام 2015، نجح والد حسن في نقل العائلة إلى تركيا، حيث عانت هناك من ظروف معيشية أليمة، أيّدتها صعوبة الاندماج، وندرة فرص العمل، وحاجز اللغة.. ناهيك عن تغير ملحوظ في مواقف جزء من الشارع التركي حيال السوريين، بسبب ممارسات بعضهم السلبية في تركيا.

عمل حسن في محل للمعجنات، وكان في أشد مراحل حياته يأساً.. فهو الطالب المتفوق دراسياً، العبقري في البرمجيات، الذي كانت طموحاته تطاول الجبال، بات "صبياً في محل معجنات".. وحينما تصاعدت موجة هجرة السوريين عبر تركيا إلى أوروبا، في صيف 2015، كان حسن قد حزم أمره، بتشجيع من والديه، وقرر خوض غمار البحر.. أول مرة فشل، وثاني مرة فشل وكاد أن يغرق فيها، فحزم أمره في الثالثة، أن تنجح أو تكون الأخيرة، فنجحت، وعبر في رحلة عصيبة، عدة دول أوروبية، وصولاً إلى ألمانيا، حيث تقدم بطلب اللجوء..

في الأسابيع الأولى لوصوله إلى ألمانيا، كانت تحذيرات والده تتفاعل مع مشاهداته، فتدفعه للمزيد من الانكماش والعزلة.. "احذر الفتنة يا بُني.. أنت تذهب إلى أوروبا لغاية، لا تترك غرائزك تحرفك عنها"..

كان في العشرين من عمره، ينبض شباباً، وغريزةً.. قاوم لأشهر عدة، كانت أليمة، أدمن خلالها العادة السريّة، علّه ينجو من حبائل الشيطان، مؤقتاً، إلى أن تورط في أولى تجاربه المُحرّمة، وكان أثرها عكسياً على نفسه، إذ شعر بالقرف، وتملكته وساوس الإصابة بأمراض جنسية، فلجأ من جديد إلى العزلة، وفرض على نفسه نظاماً يومياً صارماً، يُقسّم بين الصلاة وقراءة القرآن، وتعلم اللغة الألمانية، والرياضة.. وتجنب قدر المستطاع الاختلاط بالألمان في الأماكن العامة.. كما تجنب الاختلاط بأقرانه من الشباب السوريّ، الذي انجرف الكثير منه إلى أتون الحياة الغربية، بكل مفاتنها وغواياتها..

كان حسن متوازناً، فلما تدفعه عزلته، ورفضه الاندماج بالمجتمع الألماني، إلى التأثر بالأفكار المتشددة، التي كانت تحاول إغرائه في عقر سكنه بألمانيا، عبر الانترنيت، من خلال صديق من الريف الحلبي، من أصدقاء الطفولة، كان يراسله يومياً، ويخبره عن عظمة "دولة الخلافة" التي أُعلنت، مبشّراً إياه بأن "زمن الإسلام" قد عاد.

كان حسن محصناً من تلك الدعاية بسبب احتكاكه السلبي لأكثر من مرة، مع متشددين من بعض مقاتلي الفصائل المسلحة، شرق مدينة حلب، خاصة أولئك الذين كانوا يجاهرون بانتمائهم لتنظيم "الدولة"، قبل إعلانه "الخلافة"، وقبل انتشاره وسيطرته على مساحات واسعة من سوريا والعراق عام 2014..

كان يرى فيهم، إما جهلة منساقين باسم الدين، أو منافقين انتهازيين يركبون الموجة الأعلى..

 ولتحصين نفسه أكثر، قرأ حسن الكثير من الكتب الدينية المتخصصة، والكثير من الآراء لعلماء حول تنظيم "الدولة"، زادت في مناعته حيال أفكار التشدد الديني..

وبعد أن نال حق اللجوء، وحصل بعيد ذلك على منحة لدراسة هندسة الاتصالات في إحدى الجامعات الألمانية.. انكب حسن على التعلم، والعمل، معاً.. فعمل في مطعم للمأكولات التركية في الشطر الغربي من العاصمة الألمانية برلين.. ست ساعات يومياً، كانت تدرّ عليه 1000 يورو على الأقل شهرياً، كان يحولها لعائلته في تركيا، فيما كان يعيش براتب المنحة الزهيد، ويقضي بقية يومه في تقصي كل كبيرة وصغيرة عن العلم الذي يتعلمه..

وخلال خمس سنوات تالية، كان حسن قد بات مهووساً بعالم الاتصالات.. ونفّذ عدة نماذج لأقمار صناعية مُصغرة في جامعته.. ونال إعجاب مدرسيه الألمان، وتخرج بتفوق، ونال منحة أخرى لمتابعة الدراسات العليا في نفس الاختصاص.. فتابع..

لكن غصّةً كانت تتملك حسن، وفيما كان يتجه قدماً في نجاحه العلمي، وسط استقرار مادي مقبول له، ولأسرته القابعة في تركيا.. كان يشعر أنه يخدم بلداً ليست بلده.. كان الألم يعتصره على ما آلت إليه الأحوال في بلده.. كان حسن دوماً يراهن على رحمة الله، ويقول في نفسه، سيبعث الله رجلاً أو مجموعة، ستُقيل بلاده من عثرتها، وحينها، هكذا وعد نفسه، حينها، سيكون أحد جنود هذا الرجل، أو المجموعة..

وفي انتظار ذلك الموعد، كان جمال يطوّر في أبحاثه، ويجري اختبارات في آفاق غير مطروقة بعالم الاتصالات، والإشارة الالكترونية، والأقمار الصناعية.. لكنه لم يكن يُطلع أساتذته الألمان على كل ما وصل إليه.. كان يدخر جزءاً من اكتشافاته لزمنٍ قادمٍ.. زمنٍ تكون فيه سوريا دولة تستحق هذا العلم.. ويكون فيه هو أحد أبنائها الأوفياء..

كان حسن يقرّ بجانب من فضل الألمان عليه، لكنه في الوقت نفسه، كان يؤمن بأن الغرب عموماً، وألمانيا جزء منه، راهن على خراب بلده، فحصّل عصارة أبنائه المميزين، وتركها دماراً..

كان حسن يُحمّل الغرب مسؤولية ما آلت إليه بلده.. لكنه لم يُكنّ الحقد للألمان، فقد ربطته بالكثير منهم، وشائج صداقة، في مراحل متقدمة من إقامته في هذا البلد.. ولاحقاً، تمكن حسن من تحقيق مصالحة داخلية في نفسه، بين صداقاته مع ألمان أظهروا الكثير من الجدارة بالثقة والاحترام في تعاملاتهم معه، وبين قناعته بمسؤولية بلدهم، كجزء من الغرب، عن دمار بلده.. قضت هذه المصالحة أن مسؤولي الألمان يبحثون عن مصالح بلدهم بالدرجة الأولى، ولو على حساب البعد الأخلاقي والإنساني، فيما لا يعلم الشعب الألماني شيئاً عما يدور في الخارج، وعن خفايا سياسات بلده حيال هذا الخارج..

مصالحة أراحته، لكنها حفزته أكثر لليوم المُنتظر.. يوماً سيكون فيه خالصاً للسوريين ولسوريا، بعلمه ومعرفته واكتشافاته وأبحاثه، وكل نقطة عرق تقطر من جبينه..

وهكذا، حينما أعلنت شركة "الدمشقي للاستشارات" عن مسابقتها العلمية – الاقتصادية، تقدم حسن للمسابقة.. كان حسن معجباً، مسبقاً، بجمال، خاصةً بعد ما فعله في لبنان.. إذ كان يوافقه على ذلك.. كان يوافقه على محاربة تنظيم الدولة، فهو تنظيم عدمي، يؤسس للخراب، باسم الدين، وتحت رايته..

وفي صيف العام 2026، صدرت النتائج النهائية للمسابقة، وفاز حسن بالمرتبة الأولى، لكن تفاصيل فكرته، لم تُعلن.. كانت عقلية جمال، تشبه عقلية حسن، في كثير من النواحي.. فهي تعتمد على مبدأ "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان"..

في آب من ذلك العام، التقى جمال بـ حسن للمرة الأولى، كان الأول قد حصل على نسخة مكتوبة تستعرض فكرة حسن، مع إشادة خبراء مختصين بها..

كانت شخصية جمال جذابة بالنسبة لحسن.. كان مباشراً، موجزاً، ومتفهماً.. وبدأ عملهما المشترك الذي أسس لامبراطورية اتصالات كبرى، الجزء المعلن منها لا يتجاوز عُشر الجزء المخفي..

وفي منطقة جبلية نائية شرق تركيا، أسس حسن، بدعم من جمال، مركز أبحاث وتصنيع متطور، جلب له أحدث المعدات، بطرق عديدة ملتوية، بصورة لا تكشف، قدر المستطاع، عن الغاية الأخيرة لها..

وخلال 3 سنوات، تمكن حسن من تصنيع عشرات الأقمار الصناعية المتطورة للغاية، بأحجام قياسية في الصغر، بعضها لم يتجاوز طوله 3 سم، وعرضه 3 سم، وارتفاعه 10 سم.. وتمكن حسن، في نقلة نوعية في عالم الاتصالات، من وضع هذه الأقمار في مدارات أعلى من المُعتاد، وبسرعات أبطء، وجودة اتصال أعلى..

وزود حسن تلك الأقمار بشيفرات تخفّي تُعتبر سبقاً علمياً في هذا المجال، كما زودها أيضاً بشيفرات تشويش على الإشارات الالكترونية، وشيفرات إصدار أخرى للإشارة، بصورة أخفت تلك الأقمار، عن مراقبة الدول الكبرى المتقدمة في هذا المجال..

وكان نجاح حسن الأكبر، أنه تمكن من تحقيق نقلة نوعية في إصدار إشارات الكترونية رقمية مختلفة عن تلك المعهودة، وغير معروفة حتى ذلك اليوم، وغير قابلة للاختراق حينها.. كما تمكن من اختراق كل الإشارات الالكترونية التي كانت تصدرها الأقمار الصناعية الأخرى، ووسائط الاتصال المعهودة يومها..

كان سبقاً نوعياً في مجال عالم الاتصالات.. جعل شبكة الأقمار الصناعية واللواقط المرافقة لها، التي أسسها حسن، في موضع متفوق على نظيراتها لدى مختلف الدول الكبرى في العالم.. وبعبارات موجزة، بات حسن قادراً على التجسس على أي شخص أو مجموعة أو منشأة أو دولة يريد، فيما لم يكن أي طرف في العالم قادراً على اختراق اتصالاته..

وبذلك، بات جمال، عبر شبكة الاتصالات التي أسسها حسن، في وضع أمني متفوق.. باتت له شبكة اتصالاته الخاصة، التي لا يمكن رصدها من دول ومخابرات أجنبية.. وكان جمال يجاهد، كي لا يلحظ الغرب، وإسرائيل أيضاً، أو أية أطراف أخرى، ما وصلوا إليه من تقدم في عالم الاتصالات..

كان جمال يستخدم الاتصالات العادية التي يمكن رصدها، في اتصالاته غير المهمة، فيما كان يستخدم شبكة اتصالاته الخاصة، في اتصالاته الحساسة، التي لا يريد لأحد أن يتجسس عليها..

وإن كانت دوائر غربية، وأيضاً إسرائيلية، قد استشعرت وجود أمر غريب في اتصالات جمال، الذي كان مراقباً من عشرات الأجهزة الاستخباراتية حول العالم.. إلا أن أحداً لم يكن قد اكتشف كُنه ما يملكه جمال من قدرات اتصالية نوعية..

وعبر شبكة اتصالاته تلك، تمكن جمال من رصد كل مساعديه والمتعاونين معه، كي يتأكد من ولائهم.. وتمكن أيضاً من رصد مكالمات واجتماعات لدوائر غربية وإسرائيلية، كشف من خلالها نظرة هؤلاء ومخططاتهم حياله، فكان يسبقهم دائماً بخطوة بفضل معرفته تلك..

كما تمكن جمال، عبر عشرات مراكز العمليات السرّية في تركيا ولبنان وبعض الدول الأوروبية، من تجنيد شبكة عملاء له داخل الأراضي السورية، تمكن من استمالتهم، وتدريب بعضهم، عن بُعد، كي يتمكن من اختراق تنظيم "الدولة الإسلامية"، وإضعافه من الداخل..

وخلال السنتين اللتين سبقتا العام 2031، سابق جمال الزمن كي يتمكن من تنفيذ خطته المزمعة بتحرير دمشق، ومعظم الأراضي السورية، من ربقة تنظيم "الدولة الإسلامية"..

كانت فرقه العسكرية من اللاجئين السوريين في لبنان، قد تحولت إلى جيشٍ محترف، تم رفده بآلاف المقاتلين المتطوعين من اللاجئين السوريين في دول أخرى.. ورغم تذمر واستياء الأفرقاء اللبنانيين من ذلك، إلا أنه كان يطمئنهم دوماً أنهم ليسوا المستهدفين من ذلك.. ولم يكن لدى هؤلاء سبيل آخر سوى القبول بالأمر الواقع.. إذ أن قدرات جيش جمال كانت قد أصبحت متقدمة جداً، وكان يحظى بدعم خليجي وتركي وغربي.. وكانت الدوائر الغربية تراهن عليه في حرب مُقبلة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية".. بعد أن تهشمت التفاهمات السرية بين الطرفين، بنسبة كبيرة..


***



يتبع في الفصل السابع..

مواد ذات صلة:

بداية مشوار أسطورة المال والأعمال – (الفصل الخامس من "الترليونير السوري")

سقوط دمشق – (الفصل الرابع من "الترليونير السوري")

عائلة جمال الدمشقي - (الفصل الثالث من "الترليونير السوري")

اللقاء مع اليهودي الأمريكي – (الفصل الثاني من "الترليونير السوري")

من شرفة القصر بالمالكي – (الفصل الأول من "الترليونير السوري")



ترك تعليق

التعليق