حوار مع مرجعية جهادية.. (الفصل الثامن من "الترليونير السوري")


كان يتهيب لهذا اللقاء، لكن كان لا بد منه، فبعد أن أتم معظم الترتيبات لمواجهة العدوان الإسرائيلي المُرتقب، كان لا بد من أن يتم أهمها على الإطلاق، في نظره..

دخل عليه المكتب، وقد حرص ألا يتأخر عليه.. كان يقبع في زاوية من زوايا مكتب جمال الفخم، وحالما وقع نظره عليه، أبصر علائم التبرم في وجهه..

إنه الشيخ، أسامة عز الدين، أبرز رموز التيار الجهادي السلفي في سوريا، وصاحب الكلمة المؤثرة للغاية، في نفوس أتباع هذا التيار، الذي رغم انكماشه، إلا أنه ما يزال يحتل مساحة لا يمكن إهمالها، في عالم السياسة والمجتمع، وأيضاً، الأمن، في سوريا..

لم تكن أهمية الشيخ، تنحصر في تأثيره بمن بقي من أتباع التيار الجهادي السلفي في سوريا، بل تمتد إلى تأثيره على آخرين لا يؤمنون بهذا التيار، لكنهم يكنون للشيخ الكثير من الاحترام والتقدير.. فهو أبرز قادة الحرب الفكرية ضد "داعش"، ومن المجاهدين الأوائل في العراق، ومن ثم سوريا..

غادر إلى العراق، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، للاشتراك في المقاومة العراقية الوليدة ضد الاحتلال الأمريكي، بعيد العام 2003.. في ذلك الوقت، كانت سلطات نظام الأسد الابن، تيسّر للمتحمسين، للجهاد، الذهاب عبر أراضيها، إلى العراق، إذ كان النظام السوري يخشى من اللحظة التي سيأتي فيها الدور عليه، فأراد استباق الأمر، عبر دعم عمليات المقاومة ضد الأمريكيين في العراق.. ولعب النظام بورقة الجهاديين، ببراعة فائقة حينها..

أسامة، المتحدر من مدينة حماة السورية، سليل عائلة لطالما خرج منها موالون للتيار الإسلامي، في البداية، لصالح الأخوان المسلمين، ومن ثم، لصالح حزب التحرير، ومن ثم كان الدور على أسامة، الذي انتسب لتنظيم جهادي عراقي، يتبع خطى تنظيم "القاعدة"..

ورغم أن عقل ونفس أسامة، تشربت بفكر وعقيدة "القاعدة"، إلا أن التجربة الميدانية في العراق، كانت محبطة للغاية.. كانت الاختراقات من الأعداء هائلة، وكانت المخالفات الشرعية للمنتمين للتيار، كبيرة، والأخطر، كان صراع أجنحة، وأجندات فئوية ضيقة، تدور داخل أروقة التنظيم، والتنظيمات المتحالفة معه..

أُصيب أسامة باليأس من الساحة الجهادية في العراق، فقد كانت مخيبة جداً. وبدأ يشك جدياً في كونه على الدرب الصحيح، فقرر العودة إلى حياته الطبيعية في سوريا.. أراد هدنة، لمراجعة تجربته السابقة، ومواجهة نفسه.. وقبل أن يستقر حاله في منزل أهله، بحماة، اعتقلته إحدى فروع المخابرات السورية، وعاش شتى صنوف التعذيب، وسيق في نهاية المطاف إلى سجن صيدنايا، حيث تعرّف هناك إلى العديد من قادات التنظيمات الجهادية السورية والعراقية واللبنانية..

بعيد اندلاع الثورة بأشهر قليلة، عام 2011، أطلق النظام سراح معظم قيادات التيارات الجهادية المُعتقلين في سجن صيدنايا، ومن بينهم، أسامة عز الدين.. وسرعان ما نظّم هؤلاء تنظيمات جهادية جديدة، أو أعادوا إحياء أخرى قديمة.. والتحق أسامة، سريعاً، بعد خروجه، بصفوف مجموعة محسوبة على تنظيم "القاعدة"، من المجاهدين السابقين في العراق، يغلب عليهم العنصر السوري، تكنت لاحقاً باسم "جبهة النصرة"..

صعدت هذه الجبهة سريعاً، واحتلت مكانةً هامة في الساحة الميدانية السورية على مدى تسع سنوات، لكنها مرت بمنعطفات خطرة، بدأت بالصراع بينها وبين تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي خرج من تحت نفس العباءة، "القاعدة"، لكنه ذهب في تجربة حكم وسياسة مختلفة عن "القاعدة"، إلى أقصاها، واضعاً التنظيمات القريبة منه فكرياً، تحت ضغط هائل، بين الميالين لفكره ضمن صفوف تلك التنظيمات، وبين المناوئين له، في نفس الصفوف.

***

شهدت جبهة النصرة عدة انشقاقات حينما اندلعت اشتباكاتها الشرسة مع تنظيم "الدولة" – "داعش"، قبل أن تخسر كل مواقعها في الشرق والشمال الشرقي من سوريا، لصالح "داعش".

لاحقاً، مرت الجبهة بمنعطف جديد خطر، تمثل بالضغوط من شركاء لها بالساحة السورية، ومن أطراف إقليمية، داعمة لها في الخفاء، مفادها، ضرورة الانعتاق من وزر الانتماء لتنظيم "القاعدة"، وهو وزر تذرعت به قوى كبرى، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، كي يكون تفسيراً لانكفائها عن دعم المعارضة ضد نظام الأسد، ولتكون ذات الذريعة، لاحقاً، تبريراً للتقارب مع الروس في غاية استهداف بعض الفصائل المعارضة السورية، وفي مقدمتها، "النصرة".

عام 2016، أعلنت الجبهة انفكاكها عن تنظيم "القاعدة"، واتخذت اسماً جديداً لها، "جبهة فتح الشام"، وازداد وزنها في الساحة الميدانية السورية، لتصبح رأس حربة الصراع المسلح ضد نظام الأسد والقوى الداعمة له على الأرض من ميليشيات لبنانية وعراقية.

لكن، في العام 2017، تعرضت الجبهة لمنعطف خطر آخر، إذ أصبح عزل الجهاديين المحسوبين على "القاعدة"، والقضاء عليهم، غاية رئيسية لقوى دولية، في مقدمتها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بعد أن انحسر تنظيم "داعش"، وكاد يختفي تماماً. وكان من الواضح أن نيّة القوى الدولية تتجه صوب القضاء النهائي على تنظيم "فتح الشام"، النسخة المعدلة الوليدة في ذلك العام، عن "النُصرة". إذ لم يكن الأمريكيون، أو هكذا أظهروا للعلن، مقتنعين بجدية انفكاك الجبهة عن تنظيم "القاعدة"، الذي يُعتبر عدواً تاريخياً للأمريكيين، منذ أحداث 11 أيلول عام 2001.

وبعد أن أحكمت "فتح الشام" سيطرتها شبه الكلية على إدلب، شمال غرب سوريا، بدأ مساعي تركيا تزداد، لدفع الحركة نحو الاعتدال، وطرد المتشددين فيها، المتمسكين بنهج "القاعدة"، بغية تجنب حرب شعواء على المنطقة الخاضعة لسيطرتها، والتي تضم ملايين السكان والمهجرين السوريين.

وكما في كل مرة، عاشت فيها الجبهة (النُصرة) منعطفاً خطيراً، أنذرت الخلافات في أوساطها، بانفكاك عقدها.. وفي النهاية، غلب الميالون للاعتدال، حسب المفهوم الدارج، على الساحة السورية، على أولئك المتمسكين برفض التعاون مع الغرب والقوى الإقليمية بما فيها تركيا، أولئك الذين يعتقدون أن الغرب يكيد لهم.

وحصلت انشقاقات، لكن ظلت محدودة، من صفوف الجبهة، لصالح "داعش".. لكن لاحقاً، تماسكت الجبهة، بعد أن أعلنت التبرؤ، وإن بصيغة غير مباشرة، من كل فكر "القاعدة"، ومن أي نية لعداء الغرب، أو استهدافه.

وخضع الرافضون للالتحاق بالإقليم وسياسات دوله الكبرى، للأمر الواقع، وازداد خضوع "النُصرة" للتوجيهات الخارجية.. لكن، وبعد بضع سنوات من التلاعب الأمريكي بالمعارضة السورية، لصالح إطالة أمد الصراع في البلاد، واستمرار نظام الأسد ضعيفاً، لكن دون أن ينهار، واستمرار التورط الروسي والإيراني، والتركي أيضاً، تصاعدت ملامح التمرد في أوساط قيادات وقواعد جبهة "النُصرة".

في العام 2021، حينما انهارت دمشق، بصورة مفاجئة، في قبضة "داعش"، اجتاح الأخير معظم المناطق التي كانت تخضع لسيطرة النظام في وسط سوريا، وشمالها، ومن ثم يمم وجهه شطر مناطق سيطرة فصائل المعارضة.

ووجّه زعيم "داعش" المُكنى بـ "الخليفة"، نداءً لجميع المقاتلين في صفوف المعارضة، لإعلان البيعة له، والالتحاق بصفوف "داعش"، كي ينجوا من سيف التنظيم المسلّط على رقابهم.. واجتاح التنظيم الكثير من مناطق سيطرة المعارضة، بمختلف صنوفها، إذ تهاوت الفصائل واحدة تلو الأخرى، فبايع آلاف المقاتلين "الخليفة"، والتحقوا بصفوف "داعش"، بعضهم تحت وطأة الفرحة بسقوط دمشق، وتهاوي نظام الأسد، الأمر الذي أوحى لهم بأن "داعش" يمثّل، حقاً، المسلمين. وبعضهم الآخر، تحت وطأة الاستياء من قيادات فصائله، الذين أصبحوا، إمعة، تتبع توجيهات القوى الإقليمية والدولية، في وقت استمر فيه الاستنزاف في صفوف الحاضنة الشعبية المناوئة للأسد، التي بقيت عشر سنوات تحت نيران كل أسلحته، دون أن يفي الغرب أو الشرق، بوعوده، ويخفف من تلك النيران.. فيما بعضهم الآخر، كان قد تعب، وفقد الدافع الداخلي للقتال، بعد أن ذوت حماسته، وتردت قناعاته، بعد سنوات من القصف والقتل، والصراعات الفئوية والمصلحية بين قيادات الفصائل.. وكان البعض الأخير، يرى أن الأفضل، الانحناء للعاصفة، كي لا تقتلعه من الجذور، بانتظار فرصة مناسبة للتحرك.

لم تنجو جبهة فتح الشام أو "النُصرة"، من "تسونامي داعش"، الذي اجتاح معظم التراب السوري، وانشق آلاف المقاتلين من صفوفها، لصالح "داعش"، لأسباب مختلفة، وفرّ المئات إلى المنطقة الآمنة التي أنشأتها تركيا شمال حلب، والتي كانت تخضع لغطاء جوي غربي، وفرّ معهم الآلاف من مقاتلي الفصائل المختلفة، فيما انحصر من بقي صامداً في صفوف الجبهة داخل الأراضي السورية، في جزر متفرقة من المناطق في إدلب، في ظروف حصار عصيبة، قبل أن يتهاووا، جزيرة تلو أخرى، تحت وطأة هجمات "داعش" المتتالية.

***

خلال تلك التجربة الطويلة، مريرة الخاتمة، كان أسامة عز الدين أحد أبرز قيادات جبهة فتح الشام، الميدانيين، والمؤثرين في سياسات الجبهة. وكان من أشد المنادين بارتداء رداء الاعتدال، وعدم معاداة الغرب، أو على الأقل، الإيحاء له، بعدم العداء إلى حين.

لذلك، حينما اتضح في نهاية المطاف، أن الغرب أتقن اللعب في الساحة السورية، على حساب كل الفصائل المعارضة، باختلاف توجهاتها وخلفياتها، كان أسامة عز الدين، أحد أولئك الذين كانوا موضع هجوم واتهام، لمسؤوليتهم عن حرف "الجهاد" عن مساره الواجب، في رأي أولئك الذين قالوا من البداية، بأن الغرب يكيد للمجاهدين في سوريا.

كان أسامة يدافع دائماً، بأن التجربة الميدانية في سوريا، بين عامي 2012 و2017، أكدت، بما لا يدع أي مجال للشك، أن لا مجال لهزيمة نظام الأسد وحلفائه، إلا بدعم من الغرب وحلفائه الإقليميين. ففي كل مرة كانت فصائل المعارضة تتقدم بصورة نوعية ضد النظام، كان وراء التقدم عملية دعم نوعي بالسلاح، وبمعلومات استخباراتية. ورغم أنه في كل مرة، أيضاً، كانت الأطراف الداعمة ذاتها، تُجهض تقدم المعارضة، بصورة تؤكد أنهم يريدون الساحة ساحة استنزاف لكل الأطراف، دون أن يُتاح المجال لأي طرف للانتصار.. إلا أن ذلك، لم يكن لينفي، حقيقة، استحالة الانتصار الميداني في سوريا، دون غطاء غربي، أو في أقل الحدود، انكفاء غربي عن الساحة، بصورة لا تعيق تقدم المعارضة.

كان أسامة، كأمثاله من الكثير من قادة فصائل المعارضة، يراهن على إقناع الغرب، عبر حلفائه الإقليميين، بأن تحالفه الجدّي مع فصائل المجاهدين، سيحقق مصالحه.

لكن الغرب كان يؤمن تماماً بأن تلك الفصائل من المعارضة، التي يسود أدمغة قادتها، فكر جهادي إسلامي، ليست موضع ثقة. ويعتقد الكثيرون أن إسرائيل لعبت دوراً حاسماً في منع التحالف بين الغرب والجهاديين في سوريا، من الوصول إلى مطارح جدية.

فكان أن تابع الغرب التلاعب بكل الأطراف، وإيهام كل طرف بأنه تمكن من إقناع الغرب، وتحديداً، الأمريكيين، فيما كانوا هؤلاء، يراهنون على إطالة أمد الاستنزاف في سوريا، لكل الأطراف، إلى أقصى حدٍ ممكن.

***

حينما اجتاحت "داعش" مناطق سيطرة "جبهة فتح الشام"، في خريف العام 2021، كان أسامة عز الدين يقيم في إحدى بلدات محافظة إدلب، القريبة من الحدود التركية، وهناك حُوصر مع ثلة من مقاتلي الجبهة، الذين استبسلوا في القتال، إلى أن بات لديهم خيارات قليلة مرة، أحدها، الفرار عبر الحدود إلى الأراضي التركية.

تواصل أسامة مع أحد معارفه من المسؤولين الأتراك، الذين كانوا في تلك اللحظة، يحاولون لمّ شتات أكبر قدر ممكن من قادة فصائل المعارضة السورية، كي يكونوا، في وقت ما، ورقة مفيدة لتركيا، في مواجهة السيطرة المفاجئة لـ "داعش"، على معظم التراب السوري.

وبالفعل، انتقل أسامة، برفقة عدد من صحبه، من قيادات الجبهة، إلى تركيا، حيث نُقلوا إلى الريحانية، ومن ثم، إلى غازي عينتاب، وخارج المدينة، أُسكنوا في مخيمٍ جهزه الأمن التركي خصيصاً لهم.

شعر أسامة وصحبه، وثلة من قادة مختلف الفصائل المعارضة السورية، الإسلامية، وغير الإسلامية، أنهم باتوا سجناء لدى الأتراك، فيما يدرس هؤلاء، كيفية استغلالهم. لكن لم يكن لدى أسامة وصحبه، بدائل أخرى، وأخبار الانهيارات المتتالية في أوساط مختلف الفصائل في مواجهة "داعش"، تتوالى.

بعض القيادات كانوا غاضبين جراء إحاطتهم بالكثير من الإجراءات المتحفظة، من الجانب التركي، ومنعهم من حرية الحركة والتجول داخل الأراضي التركية، فيما كان بعضهم في حالة انهيار نفسي، وفكري أيضاً، وبدأ بعضهم الثالث يفكر بالفرار والالتحاق بصفوف "داعش"، على الأقل، يمكن بذلك أن يحافظ على وضعيته القيادية، وعليه فقط، أن يبدّل كفّة ولائه، ويبايع "الخليفة".

في هذه الأثناء، كان أسامة من القلّة الذين كانوا يفكرون كيف يمكن لهم إنقاذ بلدهم من الطوفان البربري الذي اجتاحها. كان أسامة مقتنعاً أن "داعش" خيار سيء، للإسلام، وللمسلمين، ولبلده سوريا. وكان أسامة يحمّل نفسه، كأحد الجهاديين، مسؤولية الوصول إلى هذا الحد من الفوضى والتطرف والانهيار، على كافة الأصعدة.

رأى أسامة أن نظام الأسد لعب بورقة الجهاديين، ببراعة، لكن ذات الورقة أحرقته، وأحرقت الجهاديين أنفسهم، الذين تحولوا إلى أمراء حرب، أغرتهم المكاسب، وبعد أن كانوا أفراداً مطاردين، باتوا قادة جيوش، وأصحاب إقطاعيات، وتحت سيطرتهم ميزانيات ضخمة.

أقرّ أسامة في نفسه، أن لعنة الغنيمة، حلّت على نفوس المجاهدين، فأعمت أبصارهم عن غايتهم الأساسية، وهي رفع الظلم عن الشام وأهلها، وإعلاء كلمة الدين، فتفرقوا شيعاً، كلٌ فرح بما حصّله من مكاسب.

لم يكن أسامة يعتقد أن جوهر اللعنة التي حلت عليهم، هي تبعيتهم للغرب، فتلك كانت نتيجة، وليست السبب الجوهري، أما السبب الجوهري، فكان تفرقهم ابتغاءً للإمارة والمكاسب، والتذرع بخلافات فقهية باهتة، كستار لحقيقة حبّ السلطة والجاه والمال، الذي أعمى بصائر معظم قادة تلك الفصائل.

وفيما كان الشباب المتحمس من مقاتلي فصائل المجاهدين في سوريا، حطباً لحرب مستعرة قرابة عقدٍ من الزمان، تحول قادة الفصائل إلى أمراء غير متوجين، على دويلات غير محددة المعالم، وتحولت إقطاعياتهم إلى مكاسب، ألهتهم هموم السيطرة المطلقة عليها، عن غايتهم التي خرجوا من أجلها، للجهاد.

هكذا كانت قناعات أسامة عشية العام 2022.. وفي ذلك التاريخ، اشتق أسامة لنفسه سبيلاً مختلفاً عن معظم أقرانه، من قادة فصائل المعارضة الفارين إلى تركيا، فقرر أن يتعاون مع الأتراك، في غايتهم، للمواجهة مع "داعش"، وقرر أن يكون إحدى الأدوات الفكرية والدعائية، في تلك الحرب.. فهو ابن التيار الجهادي، ويعلم خبايا نفوس أتباعه، وآليات تفكيرهم.. لكن قبل ذلك، عليه أن يعيد تأهيل نفسه، من الناحية العلمية.. كان أسامة يريد أن يراجع دينه، الذي جاهد قرابة عقدين من الزمن، ظاناً أنه يفعل ذلك، لخدمته.. كان يريد أن يفعل ذلك، بعيداً عن أي مؤثرات لحظية.. يريد الانكفاء للتفقه في الدين، خاصة، ما يتعلق منه بالجهاد، بعيداً عن أي مؤثرات أخرى.. فعرض على المسؤولين الأتراك فكرته، أن يكون أحد الأدوات الفكرية والدعائية في الحرب ضد "داعش"، شريطة أن يتيحوا له الظروف الملائمة للتفقه في الدين، والإعداد الفكري والعقدي، لنفسه، فوافق المسؤولون الأتراك على ذلك، وقدموا له كل الإمكانيات المطلوبة.

لاحقاً، انكفأت تركيا بشكل شبه كامل، عن مناطق سيطرتها في الشمال السوري، والتي كانت تشمل شمال حلب، وأجزاء من شمال إدلب وريف اللاذقية، اجتاحتها كي تشكل حاجزاً حدودياً آمناً، تبعد من خلاله، "داعش" ونظام الأسد، عن حدودها، فحوّل الدواعش ذلك الشريط إلى مرتع استنزاف مؤلم للجنود الأتراك، بطريقة حرب العصابات، وبالاستعانة بشباب متحمس، انتسب حديثاً لـ "داعش"، وكان يحنق على تركيا باعتبارها شاركت الأمريكيين في لعبة إدارة الأزمة في سوريا، وإطالة أمدها، حسب ظنهم.

فعقدت تركيا، سراً، اتفاقاً مع قيادة "داعش" على الانسحاب من الشمال السوري، وفتح سبل تجارة السلع والنفط، بشكل غير معلن، مع الدواعش، عبر الحدود، مقابل تأمين "داعش" الحدود مع تركيا، والتعهد بعدم التعدي إلى داخل الأراضي التركية.. وبالفعل، كانت قيادة "داعش" أمينة في تنفيذ تعهدها هذا، إذ أن شريان تجارة النفط، من جانب الأراضي السورية، وتجارة السلع، من جانب الأراضي التركية، كان دعامة أساسية للاقتصاد في عموم الأراضي الخاضعة لسيطرة تنظيم "الدولة".

لكن أسامة، لم ينكفئ عن مساعيه للنيل من الأساس الفكري والعقائدي للتنظيم، وتابع في أبحاثه المعمقة، بإشراف علماء دين كبار، سوريين، وأتراك. وخلال بضع سنوات، حصل على شهادة علمية في مجال الشريعة الإسلامية، من إحدى الجامعات التركية المتخصصة، وبدأ حملته الإعلامية ضد "داعش"، بدايةً عبر فيديوهات كان ينشرها بشكل شخصي عبر يوتيوب، قبل أن يلقى قبولاً ملحوظاً في أوساط مناوئي التنظيم، ليتلقى تمويلاً من بعض الجهات، لتعزيز حملته الإعلامية.

واستعاد أسامة، تدريجياً، روابطه مع قيادات من التيار السلفي الجهادي، في مختلف بلدان العالم، وفي داخل سوريا نفسها، في المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم، الذي كان قد رفع القيود عن اتصالات الانترنيت والبث الفضائي، بغية التخفيف عن الناس كي يشعروا بالرضا من إدارته لحياتهم.

أثّرت دروس أسامة عز الدين، أيما تأثير، على قيادات جهادية سلفية، التحقت بتنظيم "الدولة"، عشية العام 2022، وخلال سنوات، اتضح لها، أن "دولة الخلافة" العتيدة، ليست إلا دولة أخرى، ينخرها الفساد، وتتخللها المحسوبيات، وتسودها الولاءات، بعد أن خبت جذوة الفرح والانبهار بسقوط دمشق وبغداد في قبضة التنظيم.

***

في العام 2027، حصل أول لقاء بين أسامة عز الدين، وجمال الدمشقي، في قصر الأخير، باستانبول.

أول ما ساء أسامة، يوم لقائهما، ذلك الترف الذي يعيشه جمال الدمشقي، في قصر رغيد على ضفاف البوسفور.. كان قد سمع كثيراً عن صعود الرجل، الذي تحول إلى أبرز أثرياء العالم.. وكان قد سمع بمساعيه للتأثير في المشهد السوري.. وسمع كثيراً عن بذخه، خاصة في مجال العقارات، إذ وُصف جمال الدمشقي في إحدى وسائل الإعلام التركية، بأنه "مجنون عقارات"، يسعى لاكتناز أجمل الشقق والفيلات والقصور، في أرقى أحياء مدن العالم.

يومها، حصلت المواجهة الأولى بين الشيخ الورع، وبين الثري الباذخ، حسب رأي أسامة في جمال.. لكن المواجهة انتهت بتحالف. تحالف أسس لتعاون كبير، على أسس راسخة، بهدف استكمال الحرب ضد "داعش"، لكن هذه المرة، بصورة مكثفة، ومنهجية.

لم يستطع أسامة أن يمنع نفسه من الإعجاب بشخصية جمال، وذكائه، ومنهجية أفكاره وخطته، التي طرحها على أسامة..

قال له جمال يومها: "أريد أن تعود سوريا، كما كانت، لكن بعباءة إسلامية، معتدلة.. فهل أنت مستعد لتكون عوناً لي في ذلك؟".

شكك أسامة داخل نفسه، في نوايا جمال، وظن أن الرجل، ثري، يريد استكمال ثرائه، بجاه حكمٍ لبلدٍ يتحدر منه.. لكن ما المانع من دعمه إن كان سيقبل بالمطلوب لذلك؟

طلب أسامة منه، يومها، ضمانات، أن يكون للإسلاميين وزنهم المصون داخل دولته المأمولة.. منحه جمال ذلك الوعد.. وخلال سنوات تحالفهم الوثيق، كان أسامة دائم الريبة من جمال، ودائم التوجس من نواياه، لكنه لم يستطع، في أي يوم، أن يجزم بسوء نية جمال، فهو لم يخلف له وعداً، ولم ينكث بعهد..

***

أدار أسامة غرفة عمليات متخصصة للحرب الإعلامية والدعائية ضد تنظيم "الدولة" – "داعش"، كانت من مهمات هذه الغرفة، إحياء صلات بقيادات جهادية باتت في صفوف التنظيم، لكن أسامة يراهن على أنهم غير راضين عن مسار سياسته.

وخلال 3 سنوات، تمكن أسامة من استمالة مئات القادة والمؤثرين في الصفوف الأولى والثانية والثالثة، ومن القواعد، في تركيبة التنظيم المتطرف، وتمكن من تحقيق اختراقات نوعية، دعّمها جمال عبر الاتصال مع أولئك القادة، بشبكة اتصالاته الخاصة السرية، المدعمة بالتكنولوجيا الرائدة التي بات يملكها منذ نهاية العشرينات من القرن الحادي والعشرين.

بات الاتصال بأولئك القادة آمناً، ويتم عبر شبكة اتصالات خاصة، لم تستطع، حتى تلك اللحظة، أعتى أجهزة المخابرات العالمية، من فك شفرتها.

وكان جمال يؤسس لاجتياح مُرتقب لمناطق سيطرة تنظيم "الدولة"، يبدأه بجيشه المؤسس في لبنان، وعبر حدودها، باتجاه دمشق، مزوداً باختراقاته النوعية لقيادة التنظيم في دمشق ومحيطها.

وبذلك تكامل مشروع جمال، بالجوانب التكنولوجية والعسكرية والفكرية العقائدية، فكان تحرير دمشق المفاجئ، والسريع، صيف العام 2031.

***

منذ تحرير دمشق، عاد أسامة إليها، وهناك، عقد جمال الدمشقي، مع أسامة عز الدين، وكبار قادة "داعش" المنشقين عنها، لصالحه، اجتماعاً سرّياً في دمشق، وضعوا بموجبه أسس تحالفهم المؤسس لإدارة البلاد.

ورغم أن كفّة القوة كانت تغلب لصالح جمال الدمشقي، فهو يملك القدرة على التنصت ومراقبة اتصالات جميع القادة والشخصيات المؤثرة في هذا التحالف، كما أنه يملك زمام القيادة في مؤسسة عسكرية أسّسها بتأنٍ في لبنان، عبر سنوات، كما أنه يملك كماً هائلاً من الثروة التي تتيح له أن يكون الممول لعملية إعادة إعمار سوريا، وتأسيس مؤسسات دولتها من جديد، ناهيك عن صلاته مع أطراف إقليمية ودولية، وجدت فيه الشخص الأنسب لقيادة سوريا، بصورة تحفظ مصالحهم، وأمن المنطقة، بما يخدم أمنهم.. رغم كل ذلك.. راهن جمال كثيراً على تحالفه مع الشيخ أسامة، ومئات القادة الفاعلين في التيار الجهادي، باعتبارهم، النواة القادمة لقوة جهادية مسلحة، يجب أن تؤسس بتأنٍ، أيضاً، لتكون مقدمة لتحقيق حلمه الأكبر، في نهاية المطاف، وهو تأمين سوريا ومحيطها، بما يضمن أمن سوريا، وتحرير فلسطين، أو تقزيم إسرائيل، على الأقل، وكذلك، تقزيم النفوذ الإيراني في العالم العربي، وخاصة، في المشرق منه.

كان طموح جمال أبعد بكثير من مجرد تحرير سوريا، وإعادتها إلى ما كانت عليه، دولة إقليمية ذات شأن. كان يريد تأسيسها على أسس متينة، يكون الدين، أحدها، لذا، كان تحالفه مع الجهاديين، بعد تجربة أولئك الأخيرة، التي علمتهم بما فيه الكفاية، أن حربهم العبثية على الغرب، دون عُدّة متينة، تُؤسس بتأنٍ وعبر سنوات، لن تُفلح في نهاية المطاف.

تعلم الجهاديون عدة أمور، بعد عقود من التجارب الفاشلة.. عليهم الولاء لقيادة واحدة، وعليهم تأسيس ما استطاعوا من عُدّة عسكرية وعلمية وسياسية واقتصادية، لمواجهة حاسمة مع الغرب، بما يخدم غايتهم النهائية، وهي دفع الغرب للانكفاء عن منطقتهم، وتركهم يصوغون مستقبل بلادهم، بالصورة التي يعتقدونها الأنسب. كما تعلموا أن فرض الشريعة بالطرق القسرية على الناس، يُفضي في نهاية المطاف إلى عكس غايته، وأن الدعوة بالحسنى، وتقديم القدوة المُثلى، هو السبيل لتحقيق غايتهم، بإقناع الناس، بالشريعة، وليس فرضها عليهم بالإكراه.

لذا، دعم الجهاديون، وفي مقدمتهم، الشيخ أسامة، مشروع جمال الدمشقي، الذي أوضح لهم، جلياً، أن مشروعه بعيد المدى، وأنه لا يراهن على مواجهة قريبة مع الغرب، بل على العكس، يريد تأسيس قوة اقتصادية وعلمية وتكنولوجية وسياسية وأمنية وعسكرية، كبرى، قبل أن يخوض تلك المواجهة.. وأنه يريدهم معه، للتأسيس، لذلك المشوار الطويل.

ورغم شكوكهم بنواياه، إلا أن أبرز القيادات الجهادية ذات الخبرة، وفي مقدمتها، الشيخ أسامة، لم يكن لديهم بديل أفضل، فتجربتهم الجهادية الأخيرة، كانت الأسوأ، بعد سلسلة تجارب فاشلة في أفغانستان والبوسنة والشيشان والعراق. فيما كانت تجربة جمال، تُنبئ، حتى تلك اللحظة، بمؤشرات النجاح.

كانت مآخذ الجهاديين، وفي مقدمتهم، الشيخ أسامة، على جمال الدمشقي، أن الرجل لا يظهر بمظهر الرجل الورع، الملتزم دينياً، بل يظهر بمظهر الرجل الغربي، بألبسة من أغلى الماركات، وبنمط حياة لا تبدو معالم التدين فيها، والتي عادةً ما ترتبط بالتقشف في أذهان المتدينين.. كان جمال الدمشقي باذخاً، مُترفاً.. وكان الجهاديون يخشون من المترفين.. لكن، لم يكن لديهم، حتى ذلك التاريخ، بديل آخر، فالرجل يملك كل مؤهلات القوة، كما أنهم لا يريدون محاولة الانقلاب عليه، كي لا يكرروا تجربتهم الفاشلة الأخيرة، وينقسموا إلى شيع، وإمارات، ويُذيقوا بعضهم بأس بعض.. حان الوقت للالتزام بقيادة موحدة، "دعنا نجرب هذا الطريق، هذه المرة".. هذا ما استكانت إليه نفوس الجهاديين، في معظمهم، في ذلك التاريخ..

***

-    علائم التبرم بادية عليك، شيخي..

قال بتلكؤ: - بذخ مفرط أخي جمال.. بذخ مفرط..

ابتسم ابتسامة هادئة، ثم عقّب: - الإسراف يقاس إلى حجم الثروة شيخي، وقياساً بما أنعم الله علي.. ما تراه يعتبر تقتيراً..

ندت عنه ضحكة، وانفردت أسارير وجهه. شعر الشيخ أسامة أن جمال يمازحه، وكأنه يريد ترطيب الأجواء.

استطرد جمال: - دعوتك لأمر جلل، كالعادة..

-    خير إن شاء الله..
-    هناك مؤشرات لمواجهة مرتقبة مع إسرائيل..

انفردت أسارير وجهه أكثر، وبرقت عيناه البنيتان، وبدا وجهه الستيني، ولحيته الرمادية، أكثر إشراقاً.. لكنه لم يقل شيئاً.

عقّب جمال: - لكنني أريد أن تكون المواجهة مضبوطة.. وألا تتجاوز ما سنتفق عليه..

اكفهر وجهه.. قال: - ربما هي فرصتنا لتحقيق حلم أجيال من المسلمين.

-    أنت مطلع على أوضاعنا شيخي، وتعلم جيداً، كما أعلم، أننا لم نصل بعد إلى الوضع الذي يؤهلنا لتحقيق حلم أجيال من المسلمين.

أفلتت نفسه المهتاجة من عقالها، وقال بتوتر: - متى إذاً، متى يا جمال؟

-    هل تذكر كم تطلب تأسيس إسرائيل من الحركة الصهيونية؟، أنت تريد هزيمة قوة تحظى بدعم عالمي غير مسبوق، ربما، في التاريخ كله..
-    هل تريدنا أن ننتظر خمسين سنة..
-    لو تطلب الأمر ذلك.. نعم، ولما لا.. أليس ذلك أفضل من الخوض في مغامرات غير مدروسة العواقب، تهدم كل ما بنيناه..

يعلم الشيخ أسامة، أن جمال يؤمن بهذه النظرية فعلاً.. يؤمن بأن إنهاء إسرائيل يتطلب عقوداً من التحضير، وأجيالاً من العمل.. وكما تحولوا هم، أي الصهاينة، من اللاشيء إلى قمة النجاح، في خمسين سنة، قد نحتاج نحن العرب، إلى بضعة عقود، كي نكرر ذات النجاح، بالاتجاه المعاكس.. وكان جمال مستعداً للخوض في ذلك المسار حتى النهاية، حتى لو كان ذلك يعني أنه لن يشهد بنفسه، نهاية إسرائيل.. لكن هذه النظرية كانت تسبب غصّة في حلق الشيخ أسامة.. وكان ردّ جمال، دوماً، مُفحم.. "تجاربكم، كجهاديين، تعبّر عن استعجال سنن الله على الأرض، لذا، جميعها فشلت.. فالعُدّة يجب أن تكون على قدر الغاية، فإن كانت الغاية كبيرة، يجب أن تتطلب العُدّة المزيد من العمل، قبل مباشرة تحقيق الغاية، كي لا نفشل".

حُجّة دامغة، كانت تخرس الشيخ أسامة في كل نقاشاتهم، لكنها كانت تترك هامشاً متاحاً للريبة، في نفسه، حيال نوايا جمال الدمشقي.. "هل يتلاعب بنا كغيره من الحكام العرب، الذين أرادوا السلطة والجاه فقط، وكانت فلسطين مجرد شعار لخدمة ذلك الهدف فقط.. كيف نستطيع أن نتحقق من نوايا هذا الرجل، وأن يرتاح ضميرنا لدعمه؟".. كان هذا السؤال يقض مضجع الشيخ أسامة.. لم يكن يريد أن يشارك في دفع الأمة إلى منزلق جديد..

تململ في جلسته.. فبادره جمال: - شيخ أسامة.. أريد أن أسألك سؤالاً تجبني عليه بصراحة مباشرة، ودون لف ودوران.. هل نستطيع اليوم إنهاء إسرائيل بالفعل؟

يدرك الشيخ أسامة تماماً، ما الذي يرمي إليه جمال من هذا التساؤل، لذا صمت، وأسدل ناظريه، محدقاً في الفراغ لبرهة، ثم رفع عينيه، وواجه بهما جمال، وقال: - بماذا تفكر بالضبط؟
-    مواجهة موجزة، وبأهداف محدودة، غايتها ردع الإسرائيليين عن أي عدوان علينا، إلى حين إتمام العُدّة المناسبة للمواجهة الكبرى.
-    وهل سيتركونك وشأنك، إن استشعروا قوتك، إلى أن تستكمل عُدّة مواجهتهم؟
-    بالتأكيد لا،.. لكن علينا أن نكون مستعدين لردعهم في نواحٍ أخرى، ليس من بينها العدوان العسكري المباشر، على الأقل من جانبهم.. معركتنا معهم طويلة، ونحن الآن نخوض الشوط الأول منها فقط..

قال الشيخ أسامة بتمهل: - إذاً.. تريد تعبئة دينية، لغايات محدودة.. أنت تعلم خطورة هذا النهج.
-    نعم، أعلم.. لكنني أراهن على قدرتك، وباقي المرجعيات الدينية، على ضبط عملية التعبئة بما يخدم الهدف المرجو.
-    هل ستشمل التعبئة المؤسسة العسكرية؟، أم أنك ستتولاها بسبلك الخاصة؟
-    بل أريد أن تشمل التعبئة المؤسسة العسكرية أيضاً، فهي أُسست، كما تعلم، على أسس منها التعبئة الدينية والجهادية.
-    هل أنت واثق من أن الأمور لن تفلت من عقالها، وننجر إلى مواجهة كبرى مع إسرائيل ومن يقف خلفها؟
-    أرجح أن لن يحدث ذلك.. لكن، في حال حدث، حينها، ستكون خياراتنا محدودة جداً، وإذا تطلب الأمر الذهاب إلى النهاية في المواجهة، فنحن مستعدين لذلك، لكن هذا لا ينفي أنها مجازفة كبرى، تهدد كل ما أسّسناه، لكنها مجازفة للطرفين على حدٍ سواء، أظن أن اليهود أجبن من أن يُقدموا عليها.

لم يكن لدى الشيخ أسامة خيار آخر، سوى التسليم بما يريده جمال، والسير خلفه.. "لقد وطنت نفسك على توليه قائداً، وهو لم يخفِ عليك أن مشروعه بعيد الأمد، وأنه لا يعتزم الدخول في مواجهة كبرى، قريبة، مع الغرب.. إذاً، لا بُدّ من السير وراءه"، قال الشيخ أسامة في نفسه.

استشعر جمال أن الشيخ أسامة في حالة جدلٍ داخلي، فقرر أن يعزّز الجانب الميّال إليه في عقله، قال له: - هكذا مواجهة محدودة مع إسرائيل، ستُفيدنا في تلمس مكامن ضعفنا وقوتنا، في حال المواجهة الشاملة معهم في المستقبل.. هكذا تجربة ضرورية، هي بمثابة مناورة عسكرية تدريبية، لكنها حقيقية، وليست وهمية، ستعلّم قادتنا العسكريين، وجنودنا، كيف يمكن لهم أن يحاربوا الإسرائيليين.. والأهم، أننا سنتعلم، بالتجربة، كيف سيتصرف الغرب في حال الخطر المحدق بإسرائيل، وكيف يمكن لنا أن نتعامل معه، دون أن ننجر إلى مواجهة شاملة تهدد كل ما أسسناه، ونحن ما نزال في الأطوار الأولى من التأسيس.

-    هل ستنتظرهم كي يبادروا؟
-    نعم.. وسيبادروا قريباً جداً.. أعتقد في مطلع حزيران القادم، بعد أقل من ثلاثة أسابيع..
-    معلومات استخباراتية، أم تحليل؟
-    خليط بين الاثنين.. مع شيء من التهديد المباشر، الذي وصلني شخصياً.

بدا عليه الاهتمام، فانحنى إلى الأمام، وقال: - هددوك؟.. ماذا يريدون بالضبط؟
-    يريدون منا إجراءات تطمئنهم حول طبيعة استعداداتنا العسكرية قرب الحدود في الجولان.
-    وبماذا أجبتهم؟
-    رفضت.

عبارة جمال الأخيرة ألجمت مخاوف الشيخ أسامة من نواياه.. قال أسامة في نفسه: "ما دام الصهاينة غير مطمئنين له، إذاً، فنحن على المسار الصحيح".

***

يتبع في الفصل التاسع..

مواد ذات صلة:

وصولاً إلى الدرك الأسفل، قبل رحلة الصعود.. (الفصل السابع من "الترليونير السوري")

امبراطورية اتصالات كبرى، سرّية.. (الفصل السادس من "الترليونير السوري")

بداية مشوار أسطورة المال والأعمال – (الفصل الخامس من "الترليونير السوري")

سقوط دمشق – (الفصل الرابع من "الترليونير السوري")

عائلة جمال الدمشقي - (الفصل الثالث من "الترليونير السوري")

اللقاء مع اليهودي الأمريكي – (الفصل الثاني من "الترليونير السوري")

من شرفة القصر بالمالكي – (الفصل الأول من "الترليونير السوري")


ترك تعليق

التعليق