الاقتصادي حافظ الأسد.. قراءة في السنوات العشر الأولى من حكمه


يجمع الكثير من الدراسين على أن حافظ الأسد لم يكن لديه أي مشروع اقتصادي لسوريا، عندما انقلب على السلطة في نهاية العام 1970، وأن ما أظهره من اهتمام بالريف وبالإنتاج الزراعي في بداية حكمه، إنما هو إكمال للأفكار التي بدأها صلاح جديد، صاحب ومنفذ مشروع سد الفرات، بالإضافة إلى الاهتمام بتنمية المناطق الريفية.

ويبقى الأهم، والذي يجب أن يلفت انتباهنا أكثر، هو أن حافظ الأسد تولى الحكم وسعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، أقل من أربع ليرات، ومات في العام 2000، وسعر صرفها نحو 50 ليرة.. علماً أنه في السنوات العشر الأولى من حكمه، ظلت الليرة محافظة على سعرها، لكن الكثير من الدارسين يجمعون على أن الانهيار الذي تعرضت له الليرة في السنوات العشر التالية من حكمه، إنما يعود إلى تأثير السنوات العشر الأولى، وسياساته الاقتصادية التدميرية خلالها، التي أدت إلى تآكل مخزون البلد النقدي، وصولاً إلى إفلاس خزينة الدولة في منتصف الثمانينيات.. فما الذي فعله حافظ الأسد في هذه السنوات العشر الأولى من حكمه، وتسبب بانهيار الاقتصاد..؟، هذا ما سنتعرف عليه في هذا المقال..

الآيديولوجية الاقتصادية

كانت السنوات الخمس السابقة على حكم حافظ الأسد، قد بدأت تتبلور فيها ملامح نمط اقتصادي، فيه شيء من اشتراكية الدولة، التي تسعى لملكية قطاع الخدمات بالكامل، مع تهيئة بنية اقتصادية، تلعب فيها الدولة دور المسيطر الحقيقي على كل وسائل الإنتاج..

بعد انقلاب البعث على السلطة في العام 1963، كان الاقتصاد محمولاً على ما تم مصادرته من أملاك وشركات لرجال الأعمال الذين جرى تأميم أملاكهم أيام الوحدة، بالإضافة إلى المصادرات التي قام بها المنقلبون أنفسهم، لأملاك رجالات السياسة، بحجة تأييدهم للانفصال عن مصر.. فتجمعت بيد السلطة، نواة اقتصادية، سمحت لها أن تتبنى الآيديولوجية الاشتراكية، والقائمة على أن تلعب الدولة دور الأب الذي يملك كل شيء، ويقود بنفسه عملية التنمية الاقتصادية في البلد.

رجوع تاريخي

بعد العام 1966، أصبح صلاح جديد، أحد أبرز قيادات اللجنة العسكرية التي قادت انقلاب البعث في العام 1963، الرجل القوي في السلطة بعد التخلص من الضابط محمد عمران وإبعاده عن الحياة السياسية في سوريا. وكان جديد ذو نزعة اشتراكية، والأقرب لتبني نظرية الاتحاد السوفييتي في الاقتصاد.. لذلك كل عمليات التحول الاقتصادي في تلك الفترة كانت بإيعاز منه، ومنها السيطرة على إنتاج النفط مع الشركات الأجنبية، وإطلاق التنمية في المناطق الريفية، كإيصال الكهرباء وبناء المستوصفات والمدارس، وتقديم الرعاية للمزارعين، وأما القرار الأهم الذي اتخذه فكان بناء سد الفرات، والذي استثمره فيما بعد حافظ الأسد وأضافه إلى إنجازاته، بينما في الحقيقة أن السد كان شبه جاهز، قبل أن يستولي على السلطة في العام 1970.

وبعد العام 1967، أصبح حافظ الأسد، وزير الدفاع آنذاك، الرجل القوي الآخر في السلطة، وذلك بعد أن تم تحميل هزيمة حزيران إلى الضابط أحمد المير، قائد العمليات العسكرية في تلك الحرب، وتم استبعاده من الحياة السياسية والعسكرية بشكل نهائي. والمير كان كذلك أحد قادة اللجنة العسكرية التي قادت انقلاب البعث على السلطة في آذار من العام 1963.. وبعد انتحار الضابط عبد الكريم الجندي، في العام 1969، القيادي الآخر القوي في اللجنة العسكرية وقائد المخابرات في ذلك الوقت، انحصر الصراع على السلطة والنفوذ بين صلاح جديد وحافظ الأسد..

كان صلاح جديد يقود تياراً من السياسيين البعثيين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية الشكلي نور الدين الأتاسي، بالإضافة إلى عدد من القوميين، الذين ينتمي بعضهم إلى دول عربية أخرى، ويتولون معه قيادة حزب البعث، بينما ترك مهمة قيادة الجيش وتشكيله على أسس طائفية، لحافظ الأسد. وكان بينهما ما يشبه الاتفاق على قيادة السلطة في سوريا من خلف الستار. إلا أن صلاح جديد بدأ يشعر بقوة حافظ الأسد وبأنه يتمرد على قرارات القيادة ولا يلتزم بها، لذلك وبعد انكسار القوات السورية في أيلول الأسود من عام 1970، حين تدخلت لصالح الفلسطينيين، ضد القوات الأردنية، وكانت القوات السورية بقيادة حافظ الأسد، بعد تلك الحادثة، قرر صلاح جديد تحميل المسؤولة لحافظ الأسد والتخلص منه نهائياً، لذلك دعا إلى مؤتمر عام للحزب في 16 تشرين الثاني من ذلك العام، واتخذ قراراً بعزل الأسد من منصبه كوزير للدفاع مع تقيمه للمحاكمة، إلا أن الأسد قام بمحاصرة المؤتمرين بالقوات العسكرية، واقتادهم جميعاً إلى السجن، في عملية أطلق عليها اسم الحركة التصحيحية.. ومنذ ذلك التاريخ، استولى حافظ الأسد على الحكم، فنصّب نفسه رئيساً للوزراء بداية، ثم في آذار من العام 1971، أجرى استفتاء، فاز بنتيجته برئاسة الجمهورية، لتبدأ حقبة جديدة في تاريخ سوريا، لاتزال مستمرة حتى يومنا هذا.

الاقتصادي حافظ الأسد

استولى حافظ الأسد على السلطة، وليس في نيته، سوى تعزيز سلطاته، عبر التخلص من خصومه العسكريين والسياسيين، ممن كانوا يدينون بالولاء لصلاح جديد. وكان حافظ الأسد يخشى صلاح جديد بشدة، لدرجة أنه رفض كل الوساطات العربية والسوفيتية لإخراجه من السجن، فتوفي جديد في السجن في العام 1993.
 
لم يكن حافظ الأسد يملك أي أيديولوجية اقتصادية خاصة به، وإنما تابع مشروع صلاح جديد الاقتصادي، الذي كان يسعى نحو اشتراكية الدولة. إلا أن الأسد قام بخطوة غريبة، كانت خارج السياق، إذ أنه سمح للقطاع الخاص باستيراد أي شيء دون أي إجراءات حمائية، فيما يتعلق بالمخزون النقدي من الدولار، وهو ما أدى إلى استنزاف جزء كبير منه خلال فترة بسيطة، في الوقت الذي لم تكن فيه سوريا تصدر سوى النفط وتستورد كل شيء.

ويرى كثيرون، أن الأسد عبر هذه الخطوة كان يحاول في بداية حكمه استرضاء والتقرب من الطبقة التجارية السنية، وكذلك للتغطية على التغيرات الكبيرة في الجيش التي قام بها، وتخلص فيها من آلاف الضباط السنة، واستبدلهم بالعلويين.

وعندما قرر حافظ الأسد الدخول في حرب تشرين مع مصر في العام 1973، كان الاقتصاد السوري فاقد القدرة على خوض معركة بسيطة بالسيف والترس.. فلم تكن تسنده في تلك الفترة سوى بعض المساعدات الخليجية، التي تم إقرارها في قمة الخرطوم في أعقاب هزيمة حزيران في العام 1967، بينما تم استنزاف تلك المساعدات في شراء الأسلحة من الاتحاد السوفييتي، ولم يتم توظيفها في الاقتصاد، وهو ما كاد يؤدي إلى انهيار اقتصادي مدوٍ في الأيام الأولى للحرب، فاختفت السلع بسرعة من الأسواق، واكتظت الناس أمام الأفران، ليتبين أن النظام لم يكن مستعداً أبداً للحرب مع إسرائيل، ولولا تدخل الدول الكبرى لإيقاف الحرب، لربما حصلت مجاعة كبيرة في سوريا في ذلك الوقت.

في العام 1974، زادت دول الخليج من مساعداتها لسوريا، بالإضافة إلى المساعدات الغربية التي تدفقت هي الأخرى، في محاولة لثني حافظ الأسد عن التفكير في خوض حرب جديدة مع إسرائيل. وكانت هذه المساعدات، تقدر بمجموعها بأكثر من مليار دولار، وهي كانت تعادل ضعف الموازنة العامة للدولة في ذلك الوقت.. ومرة أخرى لم يستثمر حافظ الأسد هذه المساعدات في التنمية الاقتصادية وبناء المشاريع الإنتاجية الحقيقية، وإنما استخدمها في تغطية المصروفات الحكومية، وكانت هذه المساعدات بمثابة الحامي لوضع الليرة السورية والاقتصاد السوري برمته من الانهيار، لكن بعد العام 1976، برز له تحدٍ جديد وهو الأخوان المسلمون، الذين قادوا أول حركة تمرد واعتراض على حكمه وسياساته الطائفية والاقصائية للطائفة السنية. وهو ما دفعه هذه المرة، لتحويل جزء كبير من هذه المساعدات من أجل تعزيز سلطاته وتقوية حكمه، عبر بناء الأجهزة الأمنية القمعية، وتقديم الامتيازات للقيادات العسكرية، وقام كذلك بتغيير الحكومة إلى سلطة عسكرية مباشرة، من خلال عزل محمود الأيوبي من رئاسة الوزراء وتكليف اللواء الركن عبد الرحمن خليفاوي، بتشكيل الحكومة مرة ثانية، والذي كان قد تولاها في أعقاب انقلاب حافظ الأسد على السلطة من العام 1971 حتى العام 1972..

وبعد العام 1976، بدأت الأوضاع المعاشية تضيق شيئاً فشيئاً على الناس، وبدأت الأسعار بالارتفاع وأخذت السلع تتلاشى من الأسواق، بينما استمر حافظ الأسد في سياسته الاقتصادية النفعية القائمة على تقوية سلطاته العسكرية والأمنية، وزاد كذلك من مصروفاته على مشاريع التعبئة الشعبية، فخلق منظمات جديدة، تعنى برعاية الأطفال والشباب منذ الصغر، وتمجد شخصيته، وكل ذلك كان على حساب مشاريع الحكومة والمواطن.. وما إن دخلنا العام 1978، حتى كانت الأوضاع الاقتصادية تنذر بالانهيار على الرغم من استمرار المساعدات الخليجية والغربية، فقام حافظ الأسد بتغيير الحكومة وتكليف محمد علي الحلبي بتشكل حكومة جديدة، والتي استمرت حتى العام 1980، وكانت سوريا قد دخلت فعلياً مرحلة الأزمة الحقيقية، إذ قررت الدول الخليجية وقف مساعداتها المالية، في أعقاب قرار حافظ الأسد بتأييد الثورة الخمينية في إيران، والوقوف إلى جانبها ضد حربها على العراق.

ملاحظات عامة

كل الحكومات التي شكلها حافظ الأسد في السنوات العشر الأولى من حكمه، حوت تقريباً نفس الوجوه، ضمن عملية تغيير بسيطة، وهي سياسة استمر بها الأسد حتى موته في العام 2000.

ومن هذه الوجوه الثابتة، كان عبد الغني قنوت، وشاكر الفحام، ومصطفى طلاس، وعبد الحليم خدام، ومحمد غباش الذي كان يتنقل بين وزارات الزراعة والداخلية والتموين، ومحمد العمادي في الاقتصاد، ونور الله نور الله في وزارة المالية.. بالإضافة إلى أنه اخترع شيئاً جديداً وهو وزارات الدولة، التي كان يمنحها لبعض "الخصوم السياسيين" من الشيوعيين والاشتراكيين، وكانت تصل في بعض الحكومات إلى خمس وزارات دولة.

الملاحظة الثانية، هي عدم إعلانه عن موازنة عامة للدولة وخطة الحكومة الاقتصادية والتنموية.

أما الملاحظة الثالثة، وهي أنه لم يقم بأية مشاريع خدمية في البنية التحتية على الإطلاق، سواء في الكهرباء أو فيما يتعلق بالمشاريع الصحية، بل أكمل بعض ما بدأته السلطة السابقة عليه، وتوقف نهائياً خلال السنوات العشر الأولى حتى عن بناء المدارس الجديدة.. المشروع الوحيد الذي أعطاه جل اهتمامه، كان سد الفرات، الذي اخترع له في البداية وزارة باسمه، ثم أنشأ له مديرية خاصة باسمه.. وهو مشروع كما ذكرنا يعود الفضل فيه إلى الفترة السابقة على توليه الحكم.

أما الملاحظة الرابعة والأخيرة، وهي أن حافظ الأسد بدل أن يعزز من اشتراكية الدولة، اخترع شيئاً آخر هو أقرب لرأسمالية الدولة.. فلا الدولة استطاعت أن تتملك كل شيء، ولا القطاع الخاص استطاع أن يفعل شيئاً.. وهو ما مهد في الفترة الثانية من حكم حافظ الأسد الممتدة حتى بداية التسعينيات، لنشوء الدولة المتوحشة والطفيلية.. دولة النهب والسرقة والفساد والرشوة.. وهو ما سنتعرف عليه في المقال القادم.

ترك تعليق

التعليق