"الله يديمها نعمة".. مُهجّرون يستبدلون حرفهم الأصلية بالتجارة، في إدلب


ققص بلاستيكي كان يستخدم لتخزين البرتقال وبضع ربطات من الخبز ولا توجد ضرورة لإيجاد مقعد للجلوس فالحافة المرتفعة التي يوفرها الرصيف تكفي. هذه الأدوات هي كل ما يحتاجه "أبو سمير" لمهنته الجديدة، مفضلاً اكتساب لقمة العيش من تجارة الخبز.

يجلس خلف البسطة-القفص البلاستيكي- مسنداً ركبتيه بكفيه، شارداً في أيامه الماضية حيث كان لا يفارق المحراث والأرض واللون الأخضر الذي توفره الأشجار والنباتات الكثيفة في مدينته الأصلية. "آه.. سقا الله تلك الأيام". يقولها بحرقة لا متناهية، فمهنته الأساسية هي فلاحة الأراضي. ينزل المحراث مخترقاً الأرض الصلبة فاتحاً طريقاً سهلة كأيامه الغضة. كانت الدنيا تمضي بسلاسة دون أي تعكير.

يعيده صوت أحد الزبائن من ذكرياته الدافئة إلى حاضره القاسي. باع حتى الظهر 5 ربطات. "كانت الفلاحة تدر علي الكثير" يقول بينه وبين نفسه مستذكراً رزمة من الأوراق النقدية فئة الألف ليرة تمكن من ادخارها خلال عدة أشهر فقط في مهنته السابقة.

لم يكن الوحيد ممن اضطرتهم ظروف الهجرة من مدنهم المشتعلة باتجاه إدلب لتغيير حرفهم الأساسية مفضلين ممارسة تجارات صغيرة لا تحتاج سوى لبعض الأموال والانتظار الطويل لزبائن محدودي الدخل سحابة النهار بأكمله. هناك الكثيرون لجؤوا إلى هذا الخيار كبديل أسهل وإن لم يكن الأفضل على أي حال.

يواظب "أبو نضال" على فتح متجره لتجارة الغذائيات منذ السابعة فجراً وحتى العاشرة من كل ليلة. "أبو نضال" الذي ركب باصات التهجير لم يجد أي فرصة للعمل بصنعة البناء. المهنة التي ورثها أباً عن جد وأتقنها أيما إتقان كما يقول، وهو منشغل بترتيب بضاعته الجديدة التي اشتراها للتو على عدد من الرفوف الفارغة. "بذلت الكثير من الجهد. بحثت في إدلب، الأتارب، عفرين وحتى اعزاز ولم أجد عملاً في صنعة البناء يوفر لي مصروفي اليومي". يقلب قطعة معلبات في كفه الخشنة باحثاً عن تاريخ الصلاحية. خشونة يده الكبيرة توحي بأن هذا العمل لا يناسبه. يؤكد هذه الفكرة وهو يقول "هل ترى هناك تناسقاً في مظهري يوحي بأني خلقت للتجارة. إنها ليست مهنتي وُلدت بنّاءً وعلي أن أمارس مهنتي التي أجد المتعة بها".

نفس الشعور لا يزال يراود "أبو سمير" في جميع الأوقات. يتحدث الكهل الخمسيني عن عشقه الأبدي للخضرة. "لو شرحتني من الداخل ستجد كل أحشائي خضراء اللون" يقولها بينما يتغضن وجهه بابتسامة ساهمة. لقد عاوده الحنين لصنعته التي اكتسبها منذ الصغر. دون أن يجد فرصة عمل في نفس الصنعة يفرغ من خلالها شحناته العاطفية.

ليس الفشل أو الشعور بعدم الجدوى هو ما ينتاب جميع المهجرين الذين استبدلوا مهنهم الأصلية بالتجارة. "هيثم" عامل الصحية سابقاً وتاجر الخضراوات حالياً تمكن من المرور بتجربة جديدة اتسمت بالنجاح. بحث "هيثم" كباقي زملائه عن عمل يومي في تجهيز الصرف الصحي للمنازل الجديدة. "لم أجد سوى بعض مشاريع البناء في إدلب والجميع اشترط عملي لديهم كأجير بيومية لا تتجاوز 1500 ليرة علماً أنني معلم صنعة وكنت أدير ورشة كبيرة في مدينتي". رفض "هيثم" هذه "العبودية" التي يحاول أصحاب الورشات إدخاله فيها. "استأجرت محلاً وتسوقت كمية وافرة من الخضار والفاكهة وشرعت في عملي الجديد". البداية لم تكن مشجعة إذ تعرض الشاب الثلاثيني للخسارة أكثر من مرة. ثم دربته الأيام والخسارات المتتالية. واليوم يمتلك متجراً لا بأس به في إحدى بلدات الريف الإدلبي.

انتهى النهار. يعد "أبو سمير" غلة اليوم بأصابعه السمراء الغليظة. يقبل الأوراق القليلة من فئة المائتين كما اعتاد عندما كان ينهي فلاحة إحدى الأراضي ويحصل على أجرة كافية. "الله يديمها نعمة". يحمل عدة العمل البسيطة سائراً نحو المنزل ساهماً مرة أخرى بين الحقول الخضراء والتراب الذي يتباعد على وقع انغماس المحراث في الأرض القاسية كأيامه الحالية.

ترك تعليق

التعليق