100 عام من "العطارة" في دير الزور.. دكان "خلوف الأسمر"، الذي عصفت به الحرب


لم يبق من محل "خلوف الأسمر" الشهير ببيع العطارة، إلا رفوف فارغة متهالكة وعضادات حديدية ولوحة صغيرة، تشير إلى أعرق محلات العطارة وأشهرها في دير الزور، فيما جلس أحد أبناء الأسمر على كرس معدني متكئاً على عصاه وهو يتحسر على ذكريات المحل الذي كان رغم مساحته الصغيرة نسبياً، جزءاً حميمياً من تاريخ المدينة الفراتية ونسيجها الاجتماعي طوال عقود طويلة، قبل أن يتحول إلى أثر بعد عين، بسبب ظروف الحرب التي عصفت بها.

وروى قريب صاحب المحل، المحامي "جهاد الأسمر" لـ"اقتصاد" أن عمه الحاج "خلوف الأسمر" ينتمي إلى عشيرة اللهيب المنتشرة في قرى دير الزور والبوكمال والحسكة والقامشلي وحلب، ومن أسرة معروفة في دير الزور، فوالده "أسمر العيسى" كان من وجهاء الدير ومشهود له بالحكمة وبالطرفة، وكان من أكبر معمري المدينة حيث عاش 137 عاماً، وخلوف كان أصغر أبنائه وسمّاه بهذا الاسم لأن أسمر فقد ابناً له سُمي "عطوان" في حرب "السفر برلك"، فسمّى ابنه الجديد "خلوف" لأن "الله أخلف به عليه". وتوفي أسمر- بحسب محدثنا- عام 1935 وأورث مهنة العطارة لابنه.

 وأردف محدثنا أن "خلوف" لم يتسن له التعلم كحال الكثيرين من أبناء جيله لكنه تعلم أسرار العطارة تصنيعاً وتجارة، وأتقن مهنة الطب العربي القائم على تركيب الأدوية بالأعشاب البرية-حتى غدا كما يقول- أستاذاً فيها، يفد إليه الكثيرون ليأخذوا من علمه. وكان أهالي الدير وأريافها يصفونه بـ "الحكيم الطيب" وذلك لحسن معاملته مع الآخرين، وكان الديريون وكل من عرفه يشهدون له بالسماحة والطيبة والسمعة الطيبة بين الناس في الدير ومدنها وقراها كافة، وحتى في تعاملاته التجارية النزيهة التي أورثها لأبنائه بسام وغسان.

(حالة الشارع الذي يتواجد به المحل)

وتابع المصدر أن "خلوف" استمر في مهنة أبيه بعد وفاته عام 1935 واهتم بتوسيع وتطوير محله الكائن في شارع "ستة الإ ربع" الشهير وسط مدينة دير الزور، لافتاً إلى أن بدايات العطار الديري المعروف كانت صعبة في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي حيث لم تكن هناك مواصلات إلا القليل منها بين دير الزور والمحافظات من أجل جلب المواد المستخدمة في مهنته، وأغلبها محلية وما تجود به بادية دير الزور من أعشاب ونباتات برية.

 وأشار محدثنا إلى أن "خلوف" بالإضافة إلى تجارته في مواد العطارة بشتى أنواعها ومسمياتها كان طبيباً عربياً يركّب العديد من الأدوية لعلاج الأمراض المستعصية، مما جعل شهرته تملأ الآفاق.

ومضى محدثنا مشيراً إلى أن محل "خلوف الأسمر" كان قبلة للناس من كل مكان ومن النادر أن يمر العابر من أمامه دون أن يراه مزدحماً بالزبائن ممن ينتظرون دورهم للحصول على ما يحتاجونه، مطمئنين-كما يقول- إلى أسعاره المتهاودة وجودة ما يقدمه من جميع أصناف العطارة المعروفة وغير المعروفة، علاوة على أن هذه المواد تكون طازجة أغلب الأحيان لأنه لا يحتاج لتخزينها كما بقية المحلات. وكان المنتجون وأصحاب المعامل–بحسب قوله- يتهافتون لوضع أسماء منتجاتهم على جدران المحل لأخذ نصيبهم من الشهرة في محل "خلوف الأسمر".

وتابع الأسمر أن عمه خلوف كان جزءاً من تراث دير الزور الاقتصادي والاجتماعي ومن لم يقف ويشتري من محله الصغير فقد خسر الكثير من المتعة لأن الوقوف والانتظار أمام محله كان يتيح للزبائن أن يشتموا روائح العطارة النافذة التي تصل ربما إلى مئات الأمتار ويتنشقوا عبق التاريخ.

(صورة للشارع حيث كان المحل، قبل الحرب)

وكان المحل يحوي في جنابته كل أنواع العطارة كالسماق والعصفر "الكركم" وإكيل الجبل والقرفة والعسل بجميع أنواعهما والزنجبيل والهيل والبزورات بأنواعها، إضافة لمستحضرات كان خلوف يجهزها في غرفة خلف المحل كانت أشبه بمخبر الصيدلاني، وتضم المدقات والجرون والميزان النحاسي حيث يتم من خلالها تحضير عقاقير شعبية لعلاج الأمراض الجلدية والعظمية وعقم النساء وضعف الرجال والحروق المختلفة والتهابات المفاصل وأمراض الصدر والربو وغيرها.

وأورث صاحب المحل أبناءه المهنة وأسرار تحضير وتصنيع أنواع العطارة كافة فتمكنوا من المحافظة عليها بعد أكثر من ربع قرن من وفاته حيث توفي عام 1992.

 وتابع المصدر أن بسام الابن الأوسط للراحل خلوف كان بمثابة بورصة ومؤشراً لسوق دير الزور وخبيراً بما يحتاجه هذا السوق لشبكة العلاقات التجارية التي تربطه بتجار سوريا وبخاصة في دمشق وحلب.

(صورة قديمة للازدحام في دكان خلوف الأسمر)

وبعد اندلاع الحرب تأثر محل خلوف الأسمر كثيراً نظراً للصعوبات التي كان يواجهها أصحابه في توريد البضاعة اللازمة وحالة الطرق والاشتباكات التي دارت في المدينة طوال السنوات الماضية، كما لم ينجُ المحل من السرقة والنهب، ولكن هذا لم يمنع أبناء خلوف-كما يقول قريبهم- من الاستمرار في عملهم، ولم يغادروا بيتهم ومحلهم على الرغم مما أصابه من دمار طال حي "أبو عابد" وشارع "ستة إلا ربع" الذي يقع المحل فيه وذلك أملاً منهم في أن يعودوا ويستمروا من جديد، فالدير بلا "خلوف الأسمر" وعطارته يبقى ديراً ولكن بلا نكهة.

وروى الصحفي "جودت السلمان" جانباً من ذكرياته عن دكان "خلوف"، مشيراً إلى أنه دخله لأول مرة في حياته عندما كان صغيراً واشترى حينها من عند صاحبه الأب مرهماً أسوداً وضعه على ورقة وناوله إياه، ويمضي السلمان قائلاً أن المحل كان وقتها أشبه ما يكون بكهف إنارته خافتة تتعثر في أرجائه، وفيه بعض الشوالات وصناديق وعلب كرتونية شبه فارغة وأخرى تحوي أشياء لم يكن يعرفها، وكانت ثمة قطرميزات مصفوفة على رف خشبي داخلها مواد ملونة بالأحمر والأصفر والأسود عرف فيما بعد أنها توابل من "عصفر وفلفل وبهارات وغيرها" وكان هذا النوع من القطرميزات المربعة والطويلة شائعة في معظم بقاليات دير الزور.



ترك تعليق

التعليق