أربعة أسباب للحرائق في الجزيرة السورية


"كل الضرب بجلد أحمد الرفاعي".. يرددها الأهالي في الجزيرة السورية لوصف ممارسات بعض المتصوفين حين يستخدمون الحراب لتمزيق الأجساد تعبيراً عن إيمانهم العميق بالله سبحانه وتعالى، وهكذا تحاول الأطراف المتصارعة خلق "رفاعيّ" خاص بها لتحميله مسؤولية حرائق محاصيل الحبوب خلال فترة حصادها.

وفي الحقيقة حراب هذه الأطراف جميعها تخترق جلد الشعب المسحوق الذي يأخذ دور شيخ الطريقة الرفاعية، ولا تخترق جلود أعداء مفترضين يُتخذون شماعة لكل حدث هو نتيجة تقصير بالواجبات، وذلك بغية إلهاء الناس عن أخطاء المسؤولين، وأقلها إحصاء الأضرار وتحديد نسبتها من محصول يقدر بأكثر من مليوني طن من القمح والشعير معظمها من محافظتي الحسكة والرقة.

وتركزت حرائق محاصيل الحبوب خلال اليومين الماضيين في مناطق القحطانية وتل حميس واليعربية وتل براك والدرباسية بالحسكة إلى جانب تل أبيض بالرقة وعين عرب شرق حلب، وفاقت المساحات المتضررة بهذه المناطق من الحرائق 150 ألف دونم من الحبوب إضافة لوفاة رجلين أثناء مشاركتهم بإخماد الحرائق بريف مدينتي القامشلي وعين العرب. فيما قدرت حكومة النظام والإدارة الذاتية المساحات المتضررة قبل الحرائق الأخيرة 100 ألف دونم من محاصيل السكان الذين يتلقون الضربة بعد الأخرى.

الإدارة الذاتية المسؤولة عن أمن المنطقة نظراً لوقوع جميع الحقول المحترقة تحت سيطرتها، أعلنت في أكثر من مناسبة إحداها عبر بيان من مجلسها التنفيذي، بوجود أيادٍ لجهات "مخربة" تحرق حقول القمح والشعير، لكنها لا تكشف تفاصيل التحقيقات مع من تحتجزهم، بينما تحولت إلى متهمة بنظر حكومة النظام وأنصارها إلى جانب أطراف سورية معارضة، وفق ما تبثه وسائل إعلام مرتبطة بهذه الجهات.

عندما تقول الإدارة الذاتية الكردية إن الحرائق بفعل أطراف تريد الإضرار باستقرار منطقة الجزيرة، فهذا يصب في صالحها وصالح "قوات سوريا الديمقراطية"، التي تلقت دعماً دولياً غير محدود للقضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية"، ولا تريد لهذا الدعم أن يتوقف بذريعة منع عودة التنظيم من جديد، وهذا ما أكده اجتماع "حقل العمر" يوم أمس بين الأمريكان والسعوديين ومسؤولي الإدارة الذاتية.

ويحمّل السكان "الإدارة الذاتية" المسؤولية بكل الأحوال باعتبارها المسيطرة على جميع المساحات المزروعة بالجزيرة، لكنها ترد بأنها ألقت القبض على أشخاص يلقون زجاجات مكبرة وسط الحقول لتشعل النيران مع زيادة  حدة أشعة الشمس وارتفاع درجات الحرارة خلال النهار، وهذا يناقضه اشتعال النيران خلال عمليات الحصاد عصراً كما حصل في عين عرب قبل يومين حين أتت على 50 هكتاراً.

ومع غياب الأدلة القاطعة على ضلوع جهة بعينها بعمليات إشعال الحرائق، يبقى الشغل الشاغل للمزراعين حالياً هو عدم قدرة الإدارة الذاتية على تأمين الحصادات والزامها بالأسعار التي حددتها بين 1500- 2000 ليرة مع  التبن، بينما يطلب أصحاب الحصادات 4000 ليرة سورية لحصاد الدونم الواحد، فيقول المزارعون في رأس العين وتل حميس إنهم يخشون من خسارة محاصيلهم حرقاً أو نتيجة سقوطها على الأرض لتأخر حصادها مقارنة بالأعوام السابقة حين كانت تنتهي عمليات الحصاد فيها خلال الأسبوع الأول من حزيران/يونيو، بينما تركت بعض حقول الشعير واقفة تواجه الأخطار رغم جفاف السنابل منذ شهر.

وحسب آراء المزارعين الذين استطلعنا آراءهم، فإن الحرائق هي:

1-    مفتعلة: يشعلها أشخاص بغرض الانتقام من مسؤولين بالإدارة الذاتية استولوا على أراضي المهجرين وزرعوها بالحسكة والرقة، أو لثأر شخصي كما يحصل في محيط قرية "أبو النيتل" بدير الزور.

2- غير مقصودة: تنجم عن المحروقات السيئة وأخطاء من أصحاب الحصادات والجرارات الزراعية المشاركة بعملية الحصاد كما حصل بالقحطانية وتل تمر والشدادي وعين العرب والطبقة.

3- ناتجة عن إهمال: من خلال عدم تنظيف الأعشاب الضارة النامية بمحيط الحقول أو تأطيرها بالفلاحة وإلقاء أعقاب السجائر أو اشعال النيران وسط بحر من السنابل الجافة كما حصل في منطقة أبو خشب شمال دير الزور حين نسي بعض الرعاة نارهم مشتعلة.

4- ناتجة عن الطبيعة والحوادث: حين تتسب الصواعق بحرائق كما في رأس العين وعامودا والصور والقحطانية أو نتيجة الشرر المتطاير من أسلاك شبكة الكهرباء فوق الحقول بسبب العواصف.

واتفق كلام خبير نفطي يعمل بحقول رميلان، فضل عدم ذكر اسمه، مع معظم ما قاله المزارعون، مؤكداً أنه لا يعتقد بوجود علاقة مباشرة بين حرائق المحاصيل الزراعية وطريقة تصفية المشتقات النفطية أو المحروقات المستخدمة في الحصادات والجرارات الزراعية المستخدمة خلال عمليات الحصاد وجني المحاصيل، منوهاً أن الحرائق التي نتجت عن الحصادات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة منها حادثة بمنطقة عين العرب/كوباني، وأخرى في الطبقة، وثالثة في القحطانية، وحادثتين في تل تمر أدتا إلى احتراق الحصادتين أيضاً.

وأوضح المهندس الذي يعمل في هيئة الطاقة التابعة للإدارة الذاتية أن الماس الكهربائي لأسلاك التوتر العالي أحرق 15 ألف دونم في منطقة عين العرب وحدها خلال الأسبوع الماضي، فيما اندلع حريق في منطقة رأس العين لكن الأمطار أخمدته مبكراً، وآخر شب في محيط مدينة القحطانية نتيجة الصواعق الرعدية قبل يوم واحد من حريق كبير بنفس المكان التهم 100 ألف دونم (10 آلاف هكتار) حين اجتاح 31 قرية بريف المدينة، تبعه 3 حرائق في تل براك وتل حميس وتل كوجر/اليعربية قضت على 2000 هكتار من الحبوب تقريباً.

كما ذكرت هيئة الاقتصاد أن 4 آلاف دونم (400 هكتار) احترقت بقرى جنوب مدينة الدرباسية تزامنت مع حرائق أرياف مدينة القامشلية الجنوبية والشرقية.

وأعلنت وسائل إعلام تابعة للإدارة الذاتية أن 59 حريقاً قضت على  مساحات واسعة من الأراضي الزراعية المحترقة بمناطق تل حميس وتل براك والقحطانية خلال أيار مايو حتى 2 حزيران الجاري تقدر بنحو 4175 هكتار ما عدا الحريقين الأخيرين وهما الأكبر ما قد يضاعف المساحة.

ومما تقدم يمكن القول أن أسباباً متعددة تقف وراء حرائق محاصيل الحبوب بالجزيرة السورية يساعدها بذلك كثافة الغطاء النباتي الجاف نتيجة غزارة الأمطار هذا العام، والتي سمحت بتوسع المساحات المزروعة بالحبوب إلى الحد الأقصى، ولم يحصد منها سوى نصف المساحات على الأكثر.

وفي الرقة، تركزت المساحات المحترقة بمنطقتي عين عيسى والطبقة وقدرتها الإدارة الذاتية بأكثر من 25 ألف هكتار عدا عن الحرائق الأخيرة التي اجتاحت بساتين الزيتون بمنطقتي السويدية وجعبر والحرائق الكبيرة في محيط مدينة تل أبيض، حيث نشر نشطاء شريط فيديو يظهر مسلحي "قسد" وهم يضرمون النار في بقايا المحاصيل ما يشير إلى ضلوع بعض مسلحي هذه القوات بإشعال النيران في المحاصيل لكنها تبقى حوادث محدودة.

أمّا بدير الزور، فحسب إحصائيات المجلس المدني تقدر مساحة المحاصيل الزراعية المحروقة بنحو 4 آلاف دونم لمزارعي مناطق "أبو خشب" و"محيميدة" و"الصالحية" و"الجزرات" و"جروان" و"زغير" و"الصور" الكبر"، شمال وغرب دير الزور، وهي لا توازي ما أتلفه حريق واحد في محافظتي الحسكة والرقة، وهذا ما يجعل فرضية ضلوع خلايا تنظيم "الدولة" النائمة، بإحراق المحاصيل، ضعيفة، باعتبار أن تحرك عناصر التنظيم يتركز في مناطق البادية بين المحافظات الثلاث وشرق دير الزور، بدليل تركز حملات الدهم والتفتيش والعمليات الأمنية بتلك المناطق، والتي هي الأقل تضرراً من الحرائق.

ويبقى المزارعون الخاسر الأكبر من محرقة الحبوب بالجزيرة، فازدواجية السلطة يرهقهم ويعطل عمليات التسويق الطبيعية إلى جانب تراجع الأسعار في السوق السوداء نتيجة ارتفاع تكاليف الشحن وصعوبات التسويق والتخوف من الخلاف بين حكومة النظام وإدارة حزب الاتحاد الديمقراطي حول تسويق الإنتاج، دون التطرق لإجراء إحصاء للخسائر أو تعويض المزارعين الذين فقدوا محاصيلهم.

ترك تعليق

التعليق