لاجىء مسن يبدع مجسمات فنية من المواد التالفة في مخيم الزعتري


في غرفة معدنية بمخيم الزعتري تتناثر في أرجائها عشرات القطع والمجسمات الفنية المصنوعة من مواد تم تدويرها، يجلس اللاجىء الستيني "الخديوي النابلسي" منهمكاً بوضع لمساته الأخيرة على نموذج لقطعة فنية دأب على تصميمها، وتمثل كتاباً يُفتح فتظهر خيمة لاجىء منصوبة وقد وُسمت بشعار مفوضية الأمم المتحدة الأزرق وهي القطعة التي نالت إعجاب ضيوف المخيم ومرتادي معارضه، وتم عرض نموذج لها في أحد المتاحف الأمريكية.


وينحدر النابلسي ذو الأصول الفلسطينية من مدينة "نامر" التي تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة درعا، ونظراً لحياته الريفية اعتاد -كما يقول لـ"اقتصاد"- على صنع وترميم أدوات الحراثة بيديه كالفأس والمجرفة والمحراث، ومع الوقت توجه إلى تصنيع مجسمات خشبية، فكان يصمم قطعاً توحي بالأمومة حيناً، أو ترمز إلى القوة –أحياناً أخرى، وبات مرجعاً لطلاب البلدة الذين كانوا يأتون إليه لمساعدتهم في تنفيذ واجباتهم المدرسية الفنية.


في عام 1990 جاء معاون وزير الثقافة إلى بلدة "نامر" من أجل افتتاح مركز لحفظ التراث السوري في الجنوب فاقترح محدثنا عليه-كما يقول- إنشاء جناح للتقاليد الشعبية في المتحف الوطني بدرعا يتم عرض مجسمات صغيرة فيه لمظاهر الأعراس والعزائم والختان والخطبة، وبدأ بتنفيذ هذه المجسمات، ولكن نشوب خلاف بين المتحف الوطني ودار الثقافة-كما يقول- حال دون تنفيذ الفكرة، فاقترح إنشاء قاعة كاملة في المتحف الوطني، ولكن الفكرة الثانية لم تنفذ أيضاً بسبب روتين دوائر الدولة، فما كان من الخديوي-كما يقول- إلا أن بادر إلى تخصيص قاعة بمساحة 8×5 م إلى جانب منزله لتكون متحفاً للتقاليد الشعبية في حوران، وبدأ بالفعل بعرض قطعه التي أنجزها من مواد متنوعة كالخشب والفلين والكرتون والقماش والأسلاك المعدنية بمساعدة أبنائه الفنانين، مشيراً إلى أنه كان شغوفاً-حينها- باستطلاع المواقع الأثرية في سوريا والتعرف على أدق التفاصيل فيها، وصمم العديد من المجسمات للآثار السورية ومنها قلعة حلب، والجامع الأموي في دمشق، ونواعير حماة، ومدرج بصرى الشام وتدمر والكثير غيرها.


كتاب وخيمة منصوبة

بعد اندلاع الحرب اضطر النابلسي إلى اللجوء مع عائلته إلى الأردن عام 2013 ونظراً لأن هواجس اللجوء والاغتراب تحرك كوامن كثيرة في داخل اللاجىء استعاد شغفه بالفن من خلال الرسم الزيتي بداية، حيث رسم منزل جدته في الضفة الغربية مستخدماً مواد بدائية نظراً لعدم توفر مواد الرسم في مخيم الزعتري مثل فلتر السجائر كريشة ومعجون البندورة وأحياناً عصير البرتقال ودبس الرمان والتراب ورماد السجائر بعض الأحيان كألوان.


بعد أن التحق الخديوي بوظيفة في منظمة الإغاثة والتنمية الدولية IRD اكتشفت المنظمة موهبته في الأعمال اليدوية فتم تسليمه وسائل الايضاح والأنشطة وتمكن من إنجاز عمل فني مميز على شكل كتاب يُفتح وتخرج منه خيمة منصوبة، ونال هذا العمل إعجاب كل الضيوف الأجانب- حسب قوله- مضيفاً أن فكرة هذا العمل جاءت من احساسه بمعاناة قاطني الخيم، وخصوصاً في بداية اللجوء حيث كان من النادر أن تجد كرفانة، وكانت هذه الخيم عرضة للاحتراق والغرق بمياه الشتاء والسيول والعواصف واضطر هو بالذات أن يعيش في إحداها ليوم واحد فأدرك مدى المعاناة التي يكابدها قاطنوها، ومن هنا جاءت فكرة عمله الفني الذي استخدم فيه بقايا الخيم التي تعرضت للإحتراق أو الغرق وبعضها شهد احتراق أطفال وأسر بأكملها.


لنجعل البنادق ترمي الحلوى

أمضى النابلسي أول عيد من لجوئه دون أن يكون في مخيم الزعتري محل لبيع ألعاب للأطفال أو أي وجود لألعاب يلهو بها الأطفال، فلمعت بذهنه فكرة تصميم بعض الألعاب الحركية، وابتكر بداية بارودة صممها بأدوات بدائية من بقايا بوري إحدى الخيم التالفة وخشب كرفان ونابض وجده في الشارع، وكتب على أخمص البارودة "لنجعل البنادق ترمي الحلوى".


وأخذ الخديوي النابلسي على عاتقه مهمة تعليم أطفال مخيم الزعتري الأعمال الفنية وكشف أنه كان يعطي الأطفال رسوماً حرة ليفهم مزاجهم ففوجىء بأنهم يرسمون كل ما له علاقة بذاكرة الحرب من الطيارة والصاروخ إلى البراميل المتفجرة والدبابة والمروحيات ومشاهد التدمير فحاول إخراجهم من هذه المشاهد الدموية وبدأ بتعليمهم رسوم الكرتون والأزهار والأشجار والحيوانات وغيرها من الموضوعات التي تستهوي الاطفال وتشدهم.


لعبة الأرنب والتاج

من خلال عمله في وسائل الإيضاح دأب النابلسي على تصميم ألعاب للأطفال من الورق المقوى (الكرتون) كالتاج مثلاً الذي يُمنح للتلاميذ المجدين والمهذبين تشجيعاً لغيرهم من التلاميذ، ولعبة الأرنب من الكرتون وعندما يتم شده تتحرك أذناه وفق علاقة ميكانيكية –كما يقول- وأُعجب الضيوف الأجانب بهذه الألعاب حتى أن بعضها-كما يؤكد- عرض في متحف "بنيامين إكس فورد إف ميل" في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. وشارك مع أبنائه في معارض عديدة من أهمها معرض جدل عام 2015، وأيضاً قمة الحائزين على جائزة نوبل والقادة من أجل الأطفال في البحر الميت عام 2018 وغيرها.


بعد إزالة خيم الزعتري واستبدالها بكرفانات معدنية ونتيجة لورشة شارك فيها النابلسي مع طلاب جامعة ميامي الأمريكية تم الاتفاق على إعادة تدوير بقايا الحمامات والمطابخ ومنها ألواح "الزينكو" والخشب والحديد فتم الاستفادة منها -كما يقول- في تصاميم لمواقف باصات أو أسرة للعجزة وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها من المشاريع الخدمية لأبناء المخيم.


ترك تعليق

التعليق