"صف الفشك ضيعتو"


في العام 2006 كنت أنشر في ملحق الثورة الثقافي، الذي تولى الإشراف عليه في ذلك الوقت، حسين عبد الكريم، الشاعر والأديب المعروف في سوريا..

كانت فكرتي عن الأدباء والكتاب أنهم منزهون عن الفساد، هي أقرب لفكرة الأنبياء، لكني فوجئت به يقول لي شيئاً غريباً: "مبلغ الاستكتاب الذي ستوقع عليه، سوف تستلم نصفه".. كان يتحدث إلي ويغمز بعينيه، وكأنه يطلب مني أن أفهمها "على الطاير"، ثم تابع: "سوف أنشر لك كل ما تكتبه.. اتفقنا؟".

صادف في أحد المرات، وبينما كنت في مكتبه، وجود عدد من الأشخاص، كانوا يتناقشون حول المطرب فؤاد غازي، ويسخرون من كلمات أغنيته "صف الفشك ضيعتو"، فما علاقة الفشك بالأغنية التي تتحدث عن الحب والغرام..؟ ثم خاطب حسين عبد الكريم أحدهم وقال له: "هل تعلم أن فؤاد غازي (عووي)..؟".. قالها على هذا النحو، ثم نظر إلي مع ابتسامة خفيفة.. ففهمت أنه يقصد "علوي"..

رد الشخص المخاطب: "يعني من جماعتنا..؟ والله هي أول مرة بعرف المعلومة".. ثم أخذ أحدهم يتحدث عن أن حافظ الأسد، لهذا السبب لم يرد له الظهور كثيراً على شاشة التلفزيون، حتى لا يتم اتهامه بمناصرة أبناء طائفته وفرضهم على الذائقة الفنية العامة، وهو السبب حسب رأيه، الذي أدى لتلاشي فنان كبير ومهم، لا يقل أهمية عن وديع الصافي.

هنا تدخلت: "ولكن فؤاد غازي كان يملأ شاشة التلفزيون في الثمانينيات.. يظهر في اليوم أكثر من مرة، ويتواجد في جميع الحفلات التي يبثها التلفزيون".. فرد حسين عبد الكريم: "هذا كان بأمر من رفعت الأسد.. كان مطربه الخاص والمفضل".

لفتت انتباهي المعلومات التي تحدثوا فيها عن فؤاد غازي، فهو بالفعل تلاشى فجأة في التسعينيات، واختفى ذكره بشكل شبه تام، بعد أن قدم في سنوات الثمانينيات أغان جعلت الشعب السوري كله يدندن بها.. مثل "لزرعلك بستان ورود"، و"صبر أيوب"، و"ما ودعوني"، بالإضافة إلى "صف الفشك".. فتحدث أحد الموجودين، بأنه يعتقد بأن فؤاد غازي هو من أضر بنفسه وفنه ولا دخل لحافظ الأسد بذلك، لأن قلة من السوريين من كانوا يعرفون شيئاً عن طائفته.. ثم راح يروي ماذا حصل معه في التسعينيات، وكيف أنه اتجه للخمرة والنساء، حيث كان لا يصحو من سكرته أبداً، ما تسبب بخراب صوته، وانتهى به الحال فقيراً شأن كنيته، في إشارة إلى أن اسمه الحقيقي كان "فؤاد فقرو" وليس فؤاد غازي.

وروى آخر بأنه جرت عدة محاولات لإعادته للغناء مرة أخرى في الأعوام بعد الـ 2000، إلا أنه لم يكن قادراً على الغناء، ليحتل مكانه علي الديك، الذي من وجهة نظرهم، هو من أسوأ الفنانين المعبرين عن تراث بيئتهم الشعبية، بعكس فؤاد غازي.

في ذلك اليوم خرجت من مكتب حسين عبد الكريم، وظللت لعدة أيام أدندن بأغنية "صف الفشك ضيعتو.. وباقي ثلاثة بجيبي.. درب الهوى بطلتو كرمالك يا حبيبي".. حيث كنت لا أحفظ سوى مطلعها، لأن باقي الأغنية على نفس النغمة مع اختلاف الكلمات فقط..

بعد نحو أسبوعين التقيت بصديق كان ينشر في ملحق الثورة الثقافي، ورويت له ما حصل معي، وكيف أن حسين عبد الكريم قال لي بأنني سوف أقبض نصف مبلغ الاستكتاب، فماذا يقصد بهذا الأمر..؟

فقال لي هذا الصديق: أنت لن تخسر شيئاً سوى توقيعك.. لأن تسعيرة المادة في ملحق الثورة الثقافي للكتاب غير المعروفين هي بحدود 400 ليرة صافي.. أما هو وبعلاقاته سوف يرفع الرقم للمالية بمبلغ 800 ليرة.. فيأخذ النصف ويعطيك النصف.

صفنت كثيراً، وفتحت ملحق الثورة الثقافي الأسبوعي ورحت أعد المواد المنشورة فيه وأحسب مبلغ 400 ليرة عن كل مادة لصالح حسين عبد الكريم.. فوصلت إلى رقم أكثر من 100 ألف ليرة سورية شهرياً، في وقت كان فيه راتب الموظف بحدود 7 آلاف ليرة في الشهر..

ومن وقتها لم أعد أدندن بأغنية "صف الفشك"، وإنما بأغنية "صبر أيوب".

ترك تعليق

التعليق