كيف يحفظ سوريو الداخل مدخراتهم المالية؟

في نهايات العام 2011 ومطلع العام 2012، حينما بدأ الحراك الثوري ينحو منحى العسكرة، وتعقّد المشهد السوري، وبدأت الليرة السورية تتعرض لحالة تذبذب حاد، واتضح أن الأزمة قد تطول، بدأ السوريون ممن يملك سيولة مالية كبيرة يدخرها في البنوك العامة والخاصة، يبحث عن سبلٍ لحفظ قيمة سيولته المالية.

وبدأ هوس الناس بتحويل عملتهم من الليرة إلى الدولار يشكّل ظاهرةً تتفاقم مع تفاقم التعقيد في المشهد ميدانياً، لكن التحويل إلى الدولار لم يكن كفيلاً وحده بحفظ تلك المدخرات في رأي البعض، نظراً لتذبذب قيمة الدولار، والمخاوف من حفظه داخل البيوت وما يحمله ذلك من مخاطر أمنية، إذا كانت المبالغ كبيرة.

اتبع حينها الكثير من السوريين المبدأ الشهير لأحد رجال الأعمال اليهود الأمريكيين الذي يُفيد بأنه "حالما تجد الدماء تجري في الشوارع، استثمر في العقارات"، وبدأ بعض السوريين يشتري عقاراتٍ في أرياف المدن.

لم يكن في ظن أحد من السوريين أن العقار الذي لطالما اعتُبر من أكثر حوافظ القيمة أمناً في تاريخهم، سيصبح في خطر.

"سعاد" كانت إحدى السوريات التي اتبعت تلك القاعدة، واكتشفت لاحقاً أنها كانت على خطأ. "سعاد" مطلقة ولديها ابنة، أخذت مهرها الذي كان يتجاوز النصف مليون ليرة في بداية الثورة، أي ما يُقارب 10 آلاف دولار بالأسعار الجارية للدولار حينها، وأضافت عليها حلييها الذهبية التي باعتها، لتشتري بيتاً في ضواحي مدينة دوما بريف دمشق بسعر وصل حينها إلى أكثر من 800 ألف ليرة سورية.

تقول "سعاد" لـ "اقتصاد": "كانت مكمورتي من أجل المستقبل، ومن أجل ابنتي، فأنا مطلقة وأعتمد اليوم على والدي، كنت آمل أن أحظى ببيت تعود ملكيته إليّ في حال رحل والديّ، كي لا أصبح حملاً ثقيلاً على أشقائي الذكور، فوضعت كل ما أملك من مصاغ وسيولة في هذا البيت".

اليوم، بعد قرابة السنتين من ذلك التاريخ، لا تعرف "سعاد" عن بيتها في ريف دوما شيئاً، ما تعرفه أن المنطقة التي يقع فيها بيتها تعرضت لأضرار جسيمة بسبب قصف قوات النظام والاشتباكات مع المعارضة، وما تزال الصواريخ والقذائف تنهال على تلك المنطقة التي باتت خالية من أهلها بصورة شبه كاملة، ولم تستطع "سعاد" حتى الساعة أن تكتشف ما الذي حلّ بـ "مكمورتها".

"إلهام" ليست قصة مختلفة كثيرة عن "سعاد"، فهي امرأة تقارب الستين، أرملة ولديها ثلاث بنات، ورثت عن زوجها هي وبناتها عقاراً بقلب العاصمة يسكنونه، إلى جانب سيولة مالية كبيرة مُودعة في أحد البنوك العامة، كانت تعتمد على فوائدها السنوية كي تؤمّن مصروفها ومصروف بناتها.

تقول "إلهام": "كنت أعتمد على فائدة المبلغ الذي كان يبلغ حينها 5 ملايين ليرة، كي أؤمن مصروف البيت، فأنا أرملة، وبناتي جميعهن يعملن، لكن دخلهن قليل جداً، كن يصرفنه على احتياجاتهن من ملبس ومصروف طريق وبعض الكماليات البسيطة، لكن بعد تراجع قيمة الليرة في بدايات الثورة، بدأت أخشى أن أخسر القيمة الحقيقية للمبلغ الذي أملكه، فقررت تحويله إلى الدولار".

بعد أن حولت "إلهام" أموالها إلى الدولار اكتشفت أنها تواجه مشكلة استنزاف سيولتها المالية تدريجياً، ومع التضخم السريع في الأسعار بفعل الأزمة وتداعياتها الاقتصادية، تسارع الاستنزاف، واحتارت "إلهام" ماذا تفعل، وبدأت تشعر بعدم الأمان مالياً، أما بناتها فقلّصن كثيراً من إنفاقهن على الكماليات، وبدأت العائلة بأكملها تعيش حالة تقشف قسرية.

شكّل الذهب ملجأ آخر للكثير من السوريين لحفظ القيم الحقيقية لمدخراتهم، وهذا ما قرر "ناجي" أن يفعله، فبعد سنوات من العمل في الخليج، قارب الرجل الستين، فقرر العودة إلى سوريا، وبعد أن أمّن مستقبل أولاده ورتب أوضاعهم الحياتية وزوجهم جميعاً، واشترى لكل منهم شقة، احتفظ ببقية مدخراته كسيولة مالية في البنوك، وبدأ يعيش هو وزوجته على فوائدهم، لكن تطور الأوضاع في البلاد عكّر عليهم صفو حياتهم، حسب ما وصف.

"ناجي" لجأ إلى شراء الذهب لحفظ قيمة أمواله، لكنه بدأ يعاني الكوابيس، حسبما صرّح لـ "اقتصاد"، جراء مداهمات "الأمن" لمنزله من حين لآخر، بسبب موقع منطقة سكنه قرب منطقة ملتهبة. وازداد رعب "ناجي" من أن يكتشف "الأمن" المكان الذي يخبئ فيه الذهب في المنزل، فيسرقه منه، ويفقد "الحيلة والفتيلة"، ويبقى دون ضمانة مالية مستقبلية تحصّن له ولزوجته شيخوختهما دون الحاجة لأحد، حتى لأولادهما. وبدأ مشواره في البحث عن سبيل آخر لحفظ السيولة المالية التي يملكها، بعيداً عن حصن الذهب الذي اتضح أنه لا يتمتع بالأمن الكافي، بسبب مداهمات "الأمن" المتكررة لمنزله.

"سعد" وجد حلاً للمشكلة التي يعاني منها "ناجي"، والتي وقعت فيها "سعاد"، فاشترى بحصيلة شقاء عمره أرضاً غير معمرة في ضواحي حماه، مراهناً على أن يعمّر فيها بناءً سكنياً بعد انتهاء الأحداث، وهدوء الأوضاع. ويشعر "سعد" بارتياح نفسي نسبي حيال خياره هذا، مرجحاً صعوبة أن يخسر أرضه، إلا أن يشاء الله، فهو اجتهد، واتكل على الله، حسب وصفه.

ويبقى أن الخيارات المتاحة أمام سوريي الداخل ممن يملكون سيولة مالية يعتمدون عليها، جميعها إشكالية، وتحتمل نسب مخاطرة عالية.

لطالما حظي السوريون قبل الثورة بحالة من الأمن المالي، فيمكن لأصحاب المدخرات الكبيرة أن يعتمدوا على البنوك أو العقارات أو الذهب لحفظ قيم أموالهم، لكن المشهد اليوم تغير، وبات على السوريين التدقيق أكثر في سبل حفظ "تحويشة العمر"، خاصة أن جزءاً كبيراً منهم في الوقت الراهن، حسب محللين ومراقبين، يستنزف مدخراته المالية القديمة لكي يعيش، فالعمل نضب في معظم المهن، وظروف الاستثمار باتت ضيقة للغاية، وأصبحت "الحربئة" أكثر ضرورة للنجاة، في هذه الأيام، من ضنك العيش، وفقدان الإعالة المالية.

ترك تعليق

التعليق