"هنا كانت دمشق"!...الموجة الثانية لمخطط سرقة عاصمة الأمويين

في نهاية السبعينات من العقد الماضي خسر "أبو حاتم" منزلاً في منطقة المزرعة قرب ساحة الميسات بدمشق، بسبب قانون الإيجار القديم الذي عززته مراسيم صدرت في مطلع عهد الأسد الأب، لتساهم، إلى جانب مساعٍ أخرى، في تغيير الطبيعة الديمغرافية للعاصمة السورية دمشق، وتُحوّل سكانها الأصليين، "الشوام"، إلى أقلية في مدينتهم.

يرقب "أبو حاتم" اليوم ما يصفه بـ"الموجة الثانية من مخطط تغيير ديمغرافيا دمشق"، عبر قرار إحداث منطقتين تنظيميتين في العاصمة، يطال، تحديداً، الأحياء الأكثر تجانساً فيها، من سكانها الأصليين، ويتغاضى عن عشوائيات أخرى تكتظ بأنصار النظام وموالييه.

ففي غمرة الحرب الشعواء الدائرة على تراب الوطن، وفي وسط الجَلبَة الضخمة التي تعتمل في مدن وبلدات سوريا، والتي تقترب من شوارع وميادين عاصمتها الرئيسية، يعقد رأس النظام، منذ أيام، اجتماعاً مخصصاً لبحث آخر التطورات على صعيد إحداث المنطقتين التنظيميتين المُشار إليهما.

من يعرف دمشق جيداً، يعرف لماذا اسُتهدفت تلك المناطق والأحياء دون غيرها...فـ "أبو حاتم" ليس أول من تحدث بهذا الخصوص، لكن خطوة بشار الأسد الأخيرة، التي أظهرت كم يُولي من اهتمام لقضية تغيير المشهد الديمغرافي بالعاصمة، أعادت القضية إلى السطح مجدداً.

"أبو حاتم"، سبعيني، يسكن اليوم في أحد بيوت شقيقه المُغترب في الخليج، بعد أن فقد منزله بقذيفة دبابة في إحدى ضواحي العاصمة دمشق...يروي "أبو حاتم" لـ "اقتصاد" قصةً يمكن تعميمها على العديد من الدمشقيين، ويعرفها الكثير من سكان العاصمة الأصليين. قصّة قانون الإيجار القديم، الذي نص على عدم أحقية المالك بطرد المستأجر، وأوجب على الأول أن يطلب إيجاراً مبنياً على تخمين مئوي من سعر البيت، وكانت المشكلة في التخمين الذي اعتمد على الأسعار الرائجة في العام 1952، تاريخ صدور القرار، وبقي التخمين في الأسعار، بناء على ذلك العام، سائداً حتى مطلع السبعينات، حيث عزز حافظ الأسد هذا القانون بمرسومين تشريعين آخرين، بحيث انتهت قضية الإيجار السكني لصالح المستأجر، واضطر الكثير من الدمشقيين لبيع بيوتهم لمستأجرييها، مقابل 40% فقط من قيمتها الحقيقية، حسب نص القانون حينها.

"أبو حاتم" قال لـ "اقتصاد" بمرارة: "بيتي القديم في المزرعة كان يساوي قبل الثورة 15 مليون ليرة على الأقل، حينما بعته في نهاية السبعينات، حصلت فقط على 40% من قيمته الحقيقية، واضطررت لشراء منزل في ركن الدين بدلاً عنه، وبسبب ضيق الحال، بحكم عملي كموظف حكومي، بعت بيت ركن الدين لأنتقل إلى الريف، وبعد الثورة واقتحام قوات النظام للبلدة التي أسكن فيها، تعرض منزلي هناك لقذيفة دبابة، وبت مشرداً أنا وعائلتي، وأنا في سنّي المتقدم هذا، لأسكن في منزل أعطاني إياه شقيقي المغترب في السعودية، بعدما أشفق على حالي المزرية".

"أبو حاتم" الذي تجاوز السبعين اليوم، بات بلا منزل، وأمله الوحيد في أن ينتصر الثوار ضد الأسد، وأن تقوم دولة تتجسد فيها قيم العدالة، فيتم تعويضه عن منزله المُدمر في الريف على الأقل، فهو يريد أن يترك تركة ما لأولاده يذكرونه بها، حسب ما أخبرنا.

لكنه لا يُخفي عن "اقتصاد" خشيته من الحساسية المناطقية بين أهالي الريف، وبين "الشوام"، سكان العاصمة الأصليين، والتي تصاعدت إلى أوجها لأسباب عديدة، بُعيد الثورة.

"يُحمّل البعض الدمشقيين ذنب عدم النهوض ضد النظام، وكأنّ دمشق للدمشقيين اليوم!"، يقول "أبو حاتم".


رفيق، شاب دمشقي، شارك بالحراك الثوري في أيامه الأولى، أخبر "اقتصاد" بأن النظرة السائدة لدى أبناء باقي المحافظات السورية تجاه الدمشقيين ظالمة نسبياً، وتنمّ إما عن جهل بالطبيعة الديمغرافية للعاصمة، أو عن "حقد مناطقي" كما وصفه.

أضاف رفيق: "تعرفون جيداً أن مناطق بساتين الرازي وكفرسوسة والميدان والشيخ محي الدين وأحياء أخرى، كانت من أوائل الأحياء المنتفضة ضد النظام، وهي اليوم مستهدفة بالتغيير الديمغرافي عبر طرد سكانها بحجة إحداث منطقتين تنظيمتين، والتخلص من حالة التماسك السكاني والانسجام بين سكانها".

يضيف رفيق: "الأحياء الأخرى بدمشق، لمن يعرف، إما أحياء مُختلطة، الدمشقيون فيها أقلية، أو أحياء البورجوازية الثرية، التي لا يمكن أن يُختصر الدمشقيون بهم، فهُم في نهاية المطاف، لا يشكّلون أكثر من 10% من سكان العاصمة الأصليين. فالدمشقيون ليسوا جميعاً أثرياء، كما يظن بعض أبناء المحافظات الأخرى".

يستطرد رفيق: "ناهيك عن الكتلة الضخمة للدمشقيين التي كانت تسكن ريف العاصمة، والتي شارك معظمها في الحراك الثوري، ودفعوا أثماناً باهظة، من أرواح أبنائهم، ومن ممتلكات عائلاتهم".

حسام، شاب دمشقي آخر، يسكن حتى اليوم في منطقة مساكن برزة، القريبة من برزة البلدة التي كانت إحدى أبرز البلدات المنتفضة ضد الأسد، والمحسوبة على دمشق الإدارية. بالنسبة لمساكن برزة، كان الحراك فيها محدوداً تم ضبطه بسرعة، بحكم الاختلاط الكبير فيها، وتواجد شريحة واسعة من أنصار النظام وموالييه.

يقول حسام: "في عمارتي التي أسكن فيها عشرة شقق، ثلاثة منها فقط لدمشقيين، وسبعة لأبناء محافظات مختلفة، منها منزلان لعلويين".

يؤكد حسام أن حالة عمارته تلك من حيث الاختلاط تنسحب على كامل أحياء مساكن برزة، وعلى الكثير من الأحياء والمناطق المُختلَطة بدمشق. لذلك يعتقد حسام أن عدم تحرك تلك الأحياء ضد النظام، بالصورة المأمُولة، كان نتيجة عدم الانسجام الاجتماعي بين سكانها. في حين أن الأحياء المنسجمة سكانياً، كالميدان وكفرسوسة وبساتين الرازي، تميزت بحراك مشهود.

حسام الذي كان والده قد فقد منزله أيضاً بسبب قانون الإيجار القديم، يؤيد "أبو حاتم" في نظريته بأن هناك مخططا لتغيير ديمغرافيا دمشق. يقول حسام: "النظام يريد أن يحكم السيطرة على العاصمة، فهي موقع حساس بالنسبة له، لا يريد فقدانه، وكان الأسد الأب قد بدأ منذ بداية عهده باستقدام أبناء الطائفة العلوية بأعداد غفيرة وإعداد كانتونات خاصة بهم في مداخل العاصمة وأطرافها، وعمل على تدعيم قانون الإيجار القديم بحيث يتمكن الكثير من العلويين، ومن أبناء المحافظات الأخرى، خاصة من أبناء الريف، من استلاب المنازل من أصحابها الدمشقيين، بغية تخفيف حدّة الانسجام والتماسك الاجتماعي بين سكان العاصمة، وقد تمّ له ذلك، إلا في بضعة أحياء، هي تلك التي انتفضت ضد ابنه في الأشهر الأولى من الحراك الثوري الأخير. لذا يعمل الأسد الابن اليوم على تكرار مخطط أبيه، عبر تغيير الطبيعة السكانية لتلك المناطق، التي حتى لو تم تعويض مالكي الأرض فيها بشقق معدودة في الأبراج المزمع إنشاؤها هناك، فإنهم سيتحولون، في نهاية المطاف، إلى أقلية في منطقتهم".

"أبو حاتم" بخبرنا أن جدّه قال له يوماً إن هناك نُبوءات عن أنه في المستقبل القريب سيمر الناس قرب دمشق فيقولون: "هنا كانت الشام". يعتقد "أبو حاتم" أن التغيير الديمغرافي الجاري العمل عليه الآن بدمشق يحقق ذلك بالفعل، فدمشق لم تعد لسكانها، ومن يوجه اللوم للدمشقيين على عدم انتفاض العاصمة بالصورة المأمولة، فليأتِ إلى العاصمة، ويحتسب نسبة سكانها الأصليين، من المقيمين فيها حقاً.

ويبقى أن آراء "أبو حاتم" المُغلّفة برؤى غيبية تتعرض لتدعيم من الواقع، فمن بين كل العشوائيات المسيئة لمظهر دمشق الحضاري، اختار الأسد تحديداً الأحياء التي يسكنها دمشقيون أصيلون، انتفضوا ضده في الأشهر الأولى من الثورة، متناسياً كانتونات وعشوائيات مسيئة لعين الناظر من كثرة الفوضى العمرانية القائمة فيها، لأن تلك الأخيرة، يسكنها جنود أوفياء، وأنصار مُخلصون. فهل يأتي يوم حقاً يقول فيه الناس: "هناك كانت الشام؟!".

ترك تعليق

التعليق