الرقة في ظلال "الدولة"...وجه لا يعرفه الكثيرون

غادرها في مطلع تموز الفائت بعد أن ضاق ذرعاً بالأحكام الدينية المشددة التي فرضها تنظيم "الدولة الإسلامية" على بلدته الرقة.
لكنه في الوقت نفسه يقرّ بأن التنظيم أعاد الأمن وحفظ الحقوق وأمّن ظروفاً معيشية أفضل بمرات مما كان قائماً سابقاً في الرقة، حتى في عهد الأسد الابن، قبل الثورة.

علاء الشمري، ابن الرقة، يقول لـ"اقتصاد": "طلعنا بدنا حرية"، موضحاً أن تطبيق الشريعة الإسلامية لم يكن في أجندة مطالب المتظاهرين في أيام الحراك الأولى، لذلك لم يستسغ علاء قبضة "الدولة الإسلامية" على بلدته.

الرقة في ظلال "الدولة الإسلامية" فقدت الحرية دون شك، وحظيت بـ"استبداد ديني" متزمت للغاية، لكن بالمقابل، فإن تنظيم "الدولة" أعاد لسكان الرقة الكثير مما افتقدوه في عشرة أشهر خلال الفوضى التي رافقت سيطرة كتائب متعددة على المدينة بعيد طرد النظام في آذار 2013.
علاء الشمري يذهب إلى أبعد من ذلك، فهو يؤكد بأن إدارة تنظيم "الدولة" للشؤون الخدمية والمعيشية في الرقة، أفضل بمرات من إدارة نظام الأسد قبل الثورة للمدينة، إذ تغيب الرشوة، وتندُر حالات الفساد، وتُصان الحقوق، وتتأمن السلع التموينية الرئيسية بأسعار مقبولة.

علاء الشمري اليوم لاجئ في الدانمارك. كان يمتلك كافتيريا في الجامعة بالرقة، لكن التنظيم أقفلها في نهاية المطاف بعد سلسلة تحرشات. فهذا النمط من النشاطات الاقتصادية لا يتقبله التنظيم الذي منع الأراكيل والتدخين في الأماكن العامة، ومنع الاختلاط بين الجنسين.

"فادي الشام"، اسم مستعار للاجئ سوري آخر في الدانمارك، أكد لـ"اقتصاد" دقّة تفاصيل شهادة علاء الشمري. فتنظيم "الدولة الإسلامية" في الرقة أجاد في الإدارة، لكنه اشتق لنفسه خطاً متشدداً من "الاستبداد الديني".

سيطرت فصائل معارضة على الرقة في آذار 2013، حيث فقدها النظام تماماً. وخلال عشرة شهور تنافست فيها الكتائب داخل المدينة، عاش أهالي الرقة ظروفاً عصيبة، بين قصف مدفعية النظام وطيرانه، وبين فوضى الأمن، وشيوع السلاح.

خلال تلك الفترة العصيبة عرفت الرقة حالات سلب لثروات المدينة، وسرقة لصوامح القمح، وحالات اختطاف، وحالات اعتقال، وفقدان للسلع الغذائية الأساسية، مما جعل جزءاً كبيراً من أبنائها ينزحون عنها بعد أن كانت خزاناً بشرياً يحتوي نازحين من مدن وبلدات أخرى.

منذ مطلع العام الجاري أحكم تنظيم "الدولة الإسلامية" سيطرته المُطلقة على الرقة، وفرض أحكامه بشدة.

النساء يخرجن بالنقاب، لا اختلاط في الأماكن العامة، والرجال يُساقون إلى الصلاة في أوقاتها، وأي ناشط معارض لحكم "الدولة" يتعرض للاعتقال والتنكيل، ناهيك عن حالات الإعدام بسبب سبّ الله أو الرسول.

لكن في مقابل ملامح "الاستبداد الديني" سابقة الذكر، ساد الأمن أجواء المدينة، ولجم التنظيم "الثرثرية والزعران" الذين كانوا يعيثون فساداً في المدينة قبل سيطرته.

حدثنا "فادي الشام" نقلاً عن لاجئين آخرين من الرقة، حول الأوضاع المعيشية والأمنية فيها في ظلال سيطرة "الدولة": "الغرض الذي يقع منك في مكان، ترجع بعد فترة لتجده في مكانه، فالسرقة انعدمت تقريباً بسبب تطبيق التنظيم لحد السرقة (قطع اليد)".

وأضاف "فادي الشام": "إذا أساء لك أحد عناصر التنظيم تستطيع أن تشتكي عليه للمحكمة هناك، وفي الأغلب، إن لم تكن مشكلتك معه متعلقة بحكم ديني، أو بنشاط سياسي، فأنت تُنصف، وتأخذ حقك ممن أساء لك".

لكن "فادي الشام" أكد بأن التنظيم قام ببعض الممارسات المُناقضة لما هو معروف عن الإسلام، فقد كسروا صلبان الكنائس، ومنعوا المسيحيين من أداء شعائرهم الدينية، لكنهم لا يعتدون على المسيحي كفرد، إذا دفع الجزية.

منع التنظيم "البسطات العشوائية"، وحددوا مكان كسوق للـ "البسطات"، يمكن لمن يريد أن يعمل فيه بعد الحصول على ترخيص مُسبق. لكن بائعي "البسطات" يُجبرون على التوقف عن العمل وأداء الصلاة في أوقاتها.

علاء الشمري أضاف لـ "اقتصاد" تفاصيل أكثر. فقد أكد بأن الخبز بات متوفراً لسكان المدينة منذ سيطرة التنظيم عليها.

وبات لكل عائلة اسطوانتان من الغاز المخصص للاستخدام المنزلي شهرياً، مقابل 1200 ليرة للواحدة، يحصل عليها رب الأسرة بناء على "دفتر العائلة".

بالنسبة للمازوت، فالقضية هنا أكثر تعقيداً. بعد سيطرة فصائل المعارضة على الرقة، انتشرت "الحراقات" ومصافي التكرير البدائية، وسادت فوضى في استخراج النفط وتكريره وبيعه.

وبعد سيطرة التنظيم تماماً على الرقة، حصر الأخير مصافي النفط في مكان محدد بعيد عن السكن، لكنه ترك للسكان حرية العمل في تكرير وتجارة المشتقات النفطية بطرق بدائية.

يقول علاء الشمري ساخراً: "تعرفنا على عشرة أنواع من المازوت، أبو ريحة، وأصفر، وأخضر....إلخ".

ويضيف: "التنظيم مستفيد من هذه العملية، فهو يبيع النفط للناس، ويترك لهم حرية النشاط في مجال التكرير والتجارة فيه".

يعقّب علاء بأنه لولا النفط لمات سكان الرقة من الجوع، فهو الركيزة الأساسية للنشاط الاقتصادي هناك.

يبيع تنظيم "الدولة" النفط الخام لسكان الرقة بأسعار متفاوتة باختلاف الحقول التي يسيطر عليها، والمشترون يتحملون تكلفة النقل.

يقول علاء الشمري: "قد تجد طابوراً لصهاريج النفط أمام أحد حقول النفط يصل لـ 4 أو 5 كيلو متر".

لكن التنظيم يبيع لتر النفط الخام بأقل من نصف سعره الرائج عالمياً، فإذا كان السعر الوسطي لبرميل النفط عالمياً، 60 دولار، وسعة البرميل عالمياً، كما هو متعارف عليه، 159 ليتر، فإن سعر الليتر الواحد يكون 0.377 دولار.

أما سكان الرقة فيشترون برميل النفط من الحقول التي يسيطر عليها التنظيم بأسعار تتراوح بين 6 إلى 7 آلاف ليرة، وسعة البرميل كما هو متعارف عليه في المنطقة، 220 ليتر، فهذا يعني أن سعر الليتر الواحد 31.8 ليرة سورية، وبالسعر الوسطي الرائج للدولار في المنطقة، 205 ليرة، فهذا يعني أن سعر ليتر النفط الخام في الرقة 0.155 دولار، أي أقل من نصف سعر ليتر النفط الخام حسب الأسعار العالمية.

بالنسبة لأسواق العملة، يؤكد علاء الشمري بأن التنظيم لا يمنع تداول أي عملة، خاصة الدولار، ويشير إلى أن سوق الدولار بالرقة تحولت إلى واحدة من أكبر أسواق العملة في سوريا.

ويعود علاء الشمري مرة أخرى لقصة الأمن، فهي حرقة في نفسه بعد فقدانه لأشهر بعيد طرد قوات النظام، يقول علاء لـ"اقتصاد": "مقاتلو التنظيم ضبوا البلد، لا سرقات، ولا خطف، ولا واحد أزعر".

لكنهم بالمقابل ضيقوا على الحريات الشخصية للناس، فهم منعوا الأراكيل والتدخين في الأماكن العامة، وإذا أُلقي القبض عليك ومعك "كروز دخان" يقومون بإتلافه، أما إذا أمسكوا بك تبيع دخاناً، فعلى "كروز" الدخان الواحد غرامة 1000 ليرة، وتُسجن 15 يوماً.

فُرض على النساء النقاب، وخصص التنظيم "كتيبة نسائية" للتعامل مع المشكلات المتعلقة بالنساء، فعناصر التنظيم لا يحتكون بالنساء نهائياً، وإذا "تشاكلوا" مع امرأة يستدعون "الكتيبة النسائية" مباشرة.

لا تشيع الرشوة بين عناصر "التنظيم"، وهم ينظمون الوقوف بالدور على طوابير أفران الخبز بصورة محترمة، والفساد نادر بين عناصرهم الصغار الذين يحتكون بالناس مباشرة، ويحق لأي شخص أن يشتكي على أي عنصر أمام القضاء، ومما شاهده علاء قبل مغادرته الرقة أن القضاء تحت سيطرة "الدولة الإسلامية" بات منصفاً نسبياً.

يختم علاء الشمري لـ"اقتصاد": "إذا كنت مطلوبا للتنظيم وفررت، لا يعتقلون أحداً من عائلتك، ولا يتعرضون لأحدٍ منهم بسوء، فهم يعتمدون مبدأ (لا تزر وازرة وزر أخرى)، على عكس ما يفعله النظام".

علاء، رغم كل ما سبق، لم يرضَ بحكم "الدولة الإسلامية"، فهو، كما سبق وأشرنا في المقدمة، كان يطمح لدولة حرية مدنية لا تقييد فيها على الحريات الشخصية لأسباب دينية، لكن ذلك لا ينفي أن التنظيم مُنظّم ومُنصف في إدارة مصالح الناس في الرقة.

مما جمعناه من شهادات عيان لسوريين عاشوا في ظلال "الدولة الإسلامية" في الرقة، يتضح لنا أن الكثير من الناس في الرقة راضون بحكم التنظيم على خلاف ما يُشاع. رضاهم على مضض، لكن البسطاء منهم يقارنون حياتهم في ظل التنظيم بحياتهم في ظل من سبقه، حيث الفوضى كانت عارمة، وبحياتهم في ظل النظام حيث كانت الرشوة والمحسوبية الأداة الوحيدة لتحصيل الحقوق.

تنظيم "الدولة الإسلامية" وفّر لسكان الرقة الكهرباء والماء والمحروقات والأمن، لكنه سلبهم الحرية. إلا أن سكان الرقة لم يذوقوا طعم الحرية بالصورة التي تشجعهم على دفع أثمان الخروج على التنظيم من أجلها. فبعد خروج النظام، رافقت الحرية السياسية فوضى أمنية هائلة، وتدهور معيشي كبير، جعل الحرية في نظر البسطاء منهم تعني الفوضى، لذا يبدو حكم "الدولة الإسلامية" مقبولاً بالنسبة لهم.

يعتقد أنصار "الدولة الإسلامية" أنها "تتمدد"، أو سـ "تتمدد". لا يبدو أنهم مخطئون كثيراً، فهي "استبداد ديني" يقابل "استبداد بعثي علماني"، لكنها في النهاية "دولة" تقدم خدمات وتنظم حياة الناس، وفي نفس الوقت، تُخفف من قاموسهم جوانب الفساد الهائلة التي كانت تسود عهد حكم الأسد.

هل يمكن أن نفهم الآن كيف يتمكن التنظيم من التغلغل بسرعة وبصورة مفاجئة ويحظى ببيئات حاضنة مستعدة لتقبله، ولو على حساب الحريات الشخصية والسياسية؟

لا يهدف هذا التقرير إلى تلميع صورة هذا التنظيم، فمن ثار على النظام، كما قال علاء الشمري، خرج مطالباً بالحرية، لكن كوسيلة إعلامية نتحرى الحقائق على أرض الواقع لننقلها للسوريين في كل مكان، وللمهتمين والمعنيين منهم، كي نفهم ما يدور على تراب وطننا، وكيف حدث ولماذا...وبناء عليه، ما الذي يمكن أن يحدث في المستقبل...

ترك تعليق

التعليق

  • ماذا عن التعليم، ماذا عن الكهرباء، ماذا عن الخدمات الطبية?