خيارات الدفء القاسية



الشتاء دخل سريعاً هذا العام، ولم  تعد نظرية (بين تشرين أول وثاني صيف ثاني)، فالجو البارد الجاف سيطر خلال الأسبوعين الماضيين على دمشق وريفها، وهذا يعني البرد الشديد ليلاً، ونهار مقبول يجلس فيه المواطنون أمام بيوتهم خصوصاً النساء والأطفال من أجل الحصول على دف الشمس.

السنوات القليلة الماضية جعلت الكثر من السوريين يضع يده على قلبه بشأن تأمين وسائل الدفء وهذا الأمر لا يتعلق بالمناطق المحررة فحسب بل وبالمناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، وخصوصاً ما يتعلق بعدم عدالة توزيع مادة المازوت وارتفاع سعرها، والسرقات المعهودة لمؤسسات نظام الأسد، مما يجعل هذه المادة رهينة بين أيدي الموزعين والمهربين، وبالتالي ارتفاع سعرها إلى أضعاف ما هي معلنة، ففي حين تحدد سلطات النظام السعر بـ 130 ليرة، وصل سعر اللتر الحقيقي ما بين 17-200 ليرة في الشتاء الماضي.

الأكثر دهشة في الأمر أن مهمة توزيع المازوت أوكلت إلى أفسد مؤسسات النظام (الشرطة)، وتم سحبها من أيدي البلديات المشهود لها بالفساد، ولكن تم نقل التوزيع على رأي أحد المواطنين من (تحت الدلف للمزراب).

100 لتر فقط

حسب ما قررته حكومة النظام، فيجب توزيع وقود التدفئة على دفعتين، تبدأ الأولى مع نهاية شهر آب وهي 200 لتر، والثانية في أوائل 2016 وكميتها أيضاً 200 لتر، لكن ما تم توزيعه، وليس على جميع المواطنين (دمشق وريفها)، هو 100 لتر فقط، والسبب كما يقول الموزعون هو لتوزيع أكبر قدر ممكن من المادة، إلى جانب صعوبة تأمين المادة وإيصالها.

أما الحقيقة التي يرويها المواطنون فهي غير كل هذه الأسباب، ففي مدن الريف الغربي لدمشق، تم توزيع 100 لتر للمواطن، وذهبت المائة الأخرى للموزعين وللمهربين في جبل الشيخ.

أبو مراد، أحد مواطني ريف دمشق، يقول: "جاء الموزع حسب القوائم التي تحملها دورية الشرطة وأنا أسكن في بناء فيه كل خزانات المازوت على السطح، وهذا يعني ضياع الكثير من اللترات في خرطوم التعبئة، وعندما كشفنا على الكمية تبين أنها 80 لتراً أي أنهم يسرقوننا مرتين".


توزيع طائفي

الأوامر واضحة من الأجهزة الأمنية، التي هي السلطة العليا في البلاد، وهي البدء بالتوزيع من عائلات الضباط أولاً، ومن ثم  عناصر الأمن، ويليه الدفاع الوطني والشبيحة والموالين من بقية الطوائف، وأخيراً المواطن.

في الأعوام السابقة، قامت أجهزة الأمن باختطاف سيارات توزيع المازوت وإفراغها في مساكن الضباط علانية، وبعض هؤلاء لم يدفع ثمن ما أخذ بحجة أنهم على الجبهات وغيرهم من "الخونة" يصله المازوت إلى بيته و"يقبض ثمن خيانته من قطر والسعودية وتركيا"، هذا ما نقله لنا المواطن أبو سعيد، من إحدى قرى جبل الشيخ (السنية)، بينما باقي القرى المجاورة المحاصرة مثل (بيت تيما وبيت جن وبيت سوى)، لم تصلها قطرة مازوت واحدة.

طن الحطب بـ 50000 ليرة وممنوع نقله

وهنا الطامة الكبرى، وما يلحق بالبلاد من بلاء، فالغطاء الشجري الأخضر يتعرض لخطر الزوال، وهذا سببه اضطرار الناس في المناطق المحاصرة للتدفئة على الحطب، وبالتالي أدى هذا إلى انعدام جزء كبير من الغطاء وزوال بساتين بأكملها خصوصاً في غوطتي دمشق الغربية والشرقية.

قبل عامين قفز سعر طن الحطب من 5000 ليرة سورية إلى 20000 ليرة دفعة واحدة بسبب البرد الشديد وعدم وصول المازوت، وأصدرت حينها سلطات النظام -لتزيد الضغط على المواطن- قرارات بعدم قطع الأشجار ومصادرة الخشب، وزاد الخناق على
المواطن أكثر، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار طن الحطب إلى أرقام جنونية وصلت لحدود 50000 ليرة سورية بسبب الحصار والرشاوى الكبيرة التي تطلبها الحواجز الأمنية والعسكرية لتمرير الحمولات.


أحذية وألبسة قديمة للتدفئة

في محاولة من المواطن لإعادة الدفء لأوصال أطفاله المرتجفة لا بد من وسائل بديلة وهي حرق كل ما يجلب الحرارة للمدفأة الخالية من المازوت، وهنا عمد المواطنون إلى حرق الأحذية والألبسة القديمة، وهذا مع علمهم بما سيترتب على ذلك من أمراض في الجهاز التنفسي ورائحة كريهة وتلوث للهواء، وإضرار بمرضى الربو والحساسية الصدرية المرتفعة.

سعر المدفأة حقق ارتفاعات جنونية

أسعار المدافئ (الصوبيا)، هي أيضاً لم تسلم من الارتفاعات الجنونية، إذ وصل سعر المدفئة، قياس متوسط، إلى 20000 ليرة، وسعرها قبل عامين ما بين 3000-4000 ليرة للماركة الممتازة (شمس). بينما وصل سعر المدافئ التي لا يتجاوز سعرها فيما سبق 2000 ليرة إلى 15000 ليرة، وهي رديئة الصنع ومن معادن سيئة الجودة.

يقول حسن، وهو أب لأسرة مؤلفة من 7 أشخاص، إنه اضطر في السنة الماضية إلى حرق كل الأحذية الصيفية وأحذية أبنائه الرياضية وملابس العائلة الصيفية والقديمة، من أجل أن يُشعر أبناءه بالدفء، وهو يقطن في منطقة شديدة البرودة مجاورة لجبل الشيخ. (يبتسم)، "والحمد لله كانت سنة خير حيث هطل الثلج ما يزيد عن خمس مرات وبعضها كان مخيفاً".

سوق المدافئ الكهربائية

مع عدم وجود كهرباء إلا فيما ندر، توقف ارتفاع أسعارها، ولكن مع ذلك، بقيت عالية السعر، فالمدفأة بثلاث وشائع كهربائية ومولدة هواء ساخن (تيربو)، سعرها يتجاوز 25000 ليرة، والصغيرة سعرها ما بين 13000-15000 حسب الماركة، بينما الحصائر الكهربائية بقياسات متنوعة ما بين 4000-10000 ليرة.

المواطن (أحمد. ر)، يرى أن ضرورتها تأتي من إمكانية توفيرها لمصروف المازوت، رغم أنها قليلة الدفئ (ولكن الكحل أفضل من العمى)، ويمكن استخدامها في النهار حيث تكون الحرارة مقبولة، ولكنها لا تغني عن المازوت في الليل، حتى لو كان بالإمكان استخدامها.

الحدائق وشجر الأرصفة صالح للحرق

في مناطق كثيرة من الريف الغربي، قطع المواطنون أشجار الحدائق والأشجار التي كانت تزين الأرصفة، ومنها شجر الزيتون الذي لم يسلم من مناشيرهم أيضاً، وهو ما صنع خلافاً في بعض المناطق كونه اعتداء على ما بقي من الطبيعة بعد زوال بساتين وأشجار معمرة.

يقول أحد المهندسين الزراعيين: "البعض وجد في المشكلة مصدر رزق فصار بحجة البرد وعدم توفر المازوت يقوم بقطع الأشجار من أجل التجارة، في ظل غياب أصحاب البساتين، إما لكونهم معتقلين أو خارج البلد. لكن أن يصل الأمر إلى ما بقي من أشجار على الرصيف، فهو فوق الاحتمال وادعاء الحاجة".

النظام صاحب المحرقة الأكبر

لم يدمر النظام المجرم البلد فحسب، بل أوجد الأسباب التي  ستفضي إلى إكمال الخراب، ففي المناطق المحررة ما من خيارات إلا شراء المازوت بأسعار فلكية أو التدفئة بالحطب، وهذا ما جعل الغوطة الشرقية تخسر خصوصيتها في أنها إحدى رئتي العاصمة بعد استخدام أشجارها بالتدفئة وقيام النظام بتجريف بساتينها.

بالمقابل، في المناطق التي يعيش فيها المواطنون السوريون على اختلاف مذاهبهم، هم أدوات للحرق، ويعيشون تحت رحمة فئة واحدة وطائفة واحدة، تتمتع بكل حقوق المواطنة والدفء مع اقتناعها ونظامها أنهم الأولى بكل خيرات وموارد سوريا..البلد الذي لا يرتجف فقط من البرد، ولكن من احتمالات المستقبل المجهول.

ترك تعليق

التعليق