القصف الروسي المزدوج.. لسوريا وتركيا معاً

عند محاولتنا إيجاد رؤية متكاملة لأبعاد الموقف الروسي من الحالة السورية، فإنه لن تخفَ عنا –بالتأكيد- قائمة المصالح الروسية التي لم يعترِ (موسكو) أي شك في أن نظام بشار الأسد هو الطرف السوري الأكثر كفاءة في ضمانها، بدءً من التسهيلات اللوجستية-العسكرية ذات الوفرة الاقتصادية المهمة للبحرية الروسية عبر مرفأ طرطوس، مروراً بالطلب الفعال على السلاح الروسي الذي كان النظام زبوناً دائماً له، وصولاً إلى الموقع الجغرافي لسوريا، وما يلعبه وجود النظام كمعرقل لخطة اقتصادية خطيرة بالنسبة لروسيا ومتمثلة بنقل الغاز القطري عبر أنابيب إلى مرافئ البحر المتوسط وأوروبا، وبالتالي ضرب سطوتها "الغازيِّة" على السوق الأوروبية.

وإذا ما كانت روسيا تعتقد أن ضمان هذه المصالح أكثر أهمية مما جره عليها موقفها وتحركها العسكري الذي ثابرت عليه في سوريا على مدار الأشهر الأربعة الماضية، كما حصل عشية تدخلها في (أوكرانيا)، فإنه كان من البديهي أن تسعى لإلحاق الضرر ولو الاقتصادي على الأقل من خلال تحركها العسكري في سوريا، إلى جانب ما تتخذه من قرارات سياسية وعقوبات اقتصادية وتضييق على أطراف تعتبرها مناوئة لسلوكها الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط والملف السوري بالتحديد، في حال لم تنفع سياسة (الإغراء) التي دأب الروس على انتهاجها في مختلف أوجه نشاطاتهم الدولية.

فروسيا التي مارست هذا (الإغراء) لتمرير أي موقف سلبي تركي حتمي ضد تدخلها العسكري المباشر، عبر دعوة الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان) إلى موسكو قبل إشهار التدخل بأيام، وتوقيع اتفاقات تاريخية بين البلدين شملت دعماً روسياً لمشروع (غاز) ضخم، أضف إلى الدعم في تطوير القدرات النووية التركية السلمية، شعرت أنها أصيبت بسكين في الخلف، كما عبر عن مثل ذلك (بوتين) نفسه، عندما أسقطت تركيا الطائرة الروسية.

لتصبح عملية الإسقاط "الخلفية" هذه، نقطة انعطاف مهمة بالنسبة لتطورات الأوضاع بين البلدين ولا سيما فيما يتعلق بالملف السوري، فانقلبت روسيا عن سياسة الإغراء، وتحولت إلى وحش كاسر يضرب يمنة ويسرة، دون محرمات، متذرعة بهذه الحادثة كتغطيةٍ ومبرر "حربي" لضرب المعابر السورية التركية – من الطرف السوري- والطرق التجارية التي تبدأ منها وتمتد إلى مختلف المناطق السورية الخارجة عن سلطة النظام، والتي كان النظام نفسه قد أحجم عن التغول في ضربها في أغلب مراحل الحرب التي شنها على معارضيه.

فروسيا تعلم، أن هذه المعابر والطرق، هي طرق تجارية أساسية بالنسبة لتركيا، وتشكل منفذاً مهماً لمنتجاتها من السلع الغذائية ومختلف أنواع المستلزمات المدنية، وبالتالي فإن قصفها المتكرر، والذي غدا اعتيادياً خلال الأسابيع الماضية، بكل ما ينتج عنه من قتل واسع النطاق للمدنيين العابرين والسائقين، وتدمير لمقدرات مالية كبيرة لرجال الأعمال الذين ظلوا ملتزمين بالعمل على تدفق السلع إلى الداخل السوري، وتهديدٍ خطيرٍ للمصالح التركية، بل وضرب لها. كل ذلك من شأنه أن يجعل القصف الروسي هو في حقيقته قصف لسوريا وتركيا معاً، في ظل حالة من الوجوم والتردد تعتري الموقف التركي، أمام مخاوف متعاظمة في تمكن روسيا من تحقيق قطع نهائي أو تحجيم كبير لدور هذه المعابر والطرق، وبالتالي تمكنها من فرض حصار اقتصادي حقيقي على مختلف المناطق التي تسيطر عليها قوات مناوئة لنظام بشار الأسد؛ مما يعني انتقال مخاوف الجوع إلى مناطق اعتاد أهلها على القصف وتلاءموا معه وصمدوا أمامه؛ ليصبح التجويع والإفقار أداة جديدة في مشروع تهجيرهم المتناسب مع قوى قريبة على الأرض.

ترك تعليق

التعليق