الدون كيشوت (أديب ميالة) ونهايته المتوقعة!!

لم تفارقني في أي متابعة لوضع الدولار الأمريكي في السوق السورية، والتي أستطيع وصفها بالدرامية، صورة ومواقف (أديب ميالة) حاكم مصرف سورية المركزي، ولا سيما في  المنعطفات المهمة التي مر بها سوق الصرف في سوريا خلال سني الأزمة الخمسة.
 
وعلى الرغم من سعي الإعلام والنظام وسعيه شخصياً لإظهار نفسه كعراب حقيقي للاقتصاد السوري، وربما رباناً ماهراً قادراً على الإمساك بالدفة والخريطة معاً، متجاوزاً كل المخاطر بحكنةٍ عالية وصولاً إلى بر الأمان، ظل (أديب ميالة) بالنسبة لي لا يمثل أكثر من ذلك الفارس الوهمي، الذي لم تسعفه حياته وخبرته بالتمكن من معترك الحياة التي اختارها أو اختير ليؤدي فيها هذه المهمة.

وعلى الرغم من بعض الاختلافات الشكلية وفق ما أعرفه عن الفارس ذي الوجه الحزين، إلا أنني أجزم لكم بأنه لم يكن يختلف كثيراً عنه، فكراً وممارسة ومقولات وتصرفات، لقد كان (أديب ميالة) دائماً هو (الدون كيشوت ديلامانشا) الخاص بالاقتصاد السوري، في مخيلتي على الأقل.

إن انسلاخ (أديب ميالة) عن الواقع ليس فقط لضعف خبرته السابقة بالنسبة للعمل الحكومي والمصرفي، ولا سيما فيما يتعلق بالمهام الحقيقية للمصرف المركزي، بل هو عائد إلى سعيه المستمر والانغماس الشديد في القراءة الاقتصادية والنظرية بالتحديد لشعوره بأن ذلك يؤدي إلى التعويض عن فقره العملي، وهو البلاء نفسه الذي ابتلينا به نحن السوريون بشخص (بشار الأسد) ذاته، الذي تلازمت شخصيته إبان فترته الأولى مع شخصية الشاب المتفلسف المتظاهر بالحكمة، وصاحب الخطابات التي تتمظهر بالشكل الأكاديمي، لتبرر إثارتها للملل، والبعد عن الواقع، والذي ما لبث أن قادته صفاته التي توهمها بشخصه بطريقة "دونكوشوتية" لخوض حروب وتجارب هنا وهناك بطريقة وهمية تارة كما حصل في (العراق) بعد الاحتلال الأمريكي، وعبثية تارة أخرى كما حصل في شمال سوريا مع الأكراد عام /2004/ أو في لبنان عام /2005/، فلم يكن بشار بعيداً عن أعراض (الدون كيشوت ديلامنشا).

وهكذا تمخضت تجربته باعتلاء كرسي الرئاسة بطريقة القفز على السلم، باعتمادها كأسلوب شبه رسمي في الارتقاء الوظيفي لأعلى مناصب الدولة، وكان (أديب ميالة) أحد المستفيدين الأساسيين، ليُقفَزَ به إلى كرسي حاكم مصرف سورية المركزي ويكون عام /2005/ عام ولادة (دون كيشوت) جديد، ومن نوع خاص جداً.

(أديب ميالة) لم يكن بعيداً عن طريقة (الدون كيشوت) في فكره وتدخلاته الإدارية في بداية فترة حاكميته، فهو صاحب القرار التاريخي بمنع (الوسادة) على كرسي الموظف، وأبدى قوة وحزماً شديدين في موضوع الاستفادة من إنارة النوافذ، أضف إلى طريقته الدرامية والكوميدية بنفس الوقت في إصدار وتطبيق قانون الحوافز الخاص بالمصرف والقرض السكني، وغيرها من المرويات التي كنا نحن موظفو مصرف سورية المركزي نشعر معها وكأننا غدونا (طاحونة هواء) في مواجهته، ما لبثنا أن طرحناه  أرضاً مصاباً برضوض قوية من أهوال السخرية والتهكم التي حامت حول صورته لدينا، الأمر الذي أجبره على تحاشينا عبر انتقائه لشخوص وأتباع دفع بهم إلى الواجهة بصفاتهم كنواب له من أمثال: (مازن الحاكمي) و(تيسير عربيني)، مشعلاً صراعاً بينهما، تمكن في نهايته الأخير من نيل لقب (سانشو).

ومع تشبعه أكثر بروح الفروسية الوهمية، شعر بضرورة رفع مستوى معاركه الخيالية، فكانت معركته مع (أغنام وخراف الفريق الاقتصادي)، والتي تمكن فعلاً عبرها من خط مرويات جديدة، باعتباره السبب المباشر بعزل خاروف من وزارة هنا، أو له دور في التضييق على غنمة في وزارة هناك، ودرجت خلال وجوده ظاهرة: وزير اقتصاد في كل سنة، وربما يعتقد (ميالة) أنه صاحب اليد الطولى بإلغاء منصب النائب الاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء، بل وتقييد عمل لجنة الرعي الاقتصادية.. إلى آخره من إنجازات معركته المتواصلة تلك، والتي لم يفقد فيها سوى ضرسين نتيجة تعثره عنده نزوله من أحد السلالم، وهو مزهواً بتحقيقه لإحدى الإصابات في أحد عناصر القطيع المذكور.

وخلال الأزمة، توضحت أكثر فأكثر شخصية (أديب ميالة) وأهمية معاركه الوهمية، فكان اختيار أسلحته في معركة الدولار متوافقاً مع الطريقة التي سلكها في مواجهته لموظفيه في بداية فارسيته، أو تلك التي اختارها في صراعه مع نظرائه في اللعبة الاقتصادية عندما تضخم وهمه بصورة منطاد؛ وهكذا كانت الأدوات التي اختارها ميالة لإنجاز الهدف بـ (حماية الليرة السورية) أدوات قديمة ومتقادمة، تتناسب مع المعارك الوهمية التي يجب عليه أن يظهرَ على أنه يخوض عبابها، فكانت القرارات الصورية ذات الخانات المتزايدة باطراد ثنائية ثم ثلاثية وبرموز وحروف غير مفهومة، قبلاً ثم تزامناً مع المزادات الشكلية، والتي أمنت معاً (القرارات والمزادات) تغطية قانونية لتهريب أموال الخزانة إلى أتباع النظام، ووصولاً إلى جلسات التدخل مؤخراً.

ومع الفشل الذريع الذي مني به (أديب ميالة) في أداته الأخيرة بمنح ولو الطمأنينة فقط من عدم استمرار الانهيار في قيمة الليرة السورية بما يتوافق مع الشعور العام الذي زرع الأمل بسوريا هادئة قادرة على استعادة عافيتها، أعلن (أديب ميالة) أول أمس الأربعاء 9/3/2016 معركته الأخيرة في مواجهة (مسرحية الدمى) منذراً أن: "أي مخالفة من مؤسسة صرافة لقرارات وتعاميم المصرف ستكون نتيجتها إغلاق المؤسسة بشكل فوري"، مبيناً أن: "المركزي يمول /95/ بالمئة من طلبات التمويل المقدمة باستثناء الطلبات المخالفة".

(معركة الدمى) هي المعركة التي نعرف أنها الأخيرة في قصة حياة الفارس ذي الوجه الحزين (الدون كيشوت ديلامانشا)، والتي رمى في نهايتها كل ما يملك بسخاء لمالك الدمى، قبل أن يدخل في احتضار أصابه فيه ندم كبير على ما خاضه من أوهام وخرافات هو مؤمن بها، ليدخل (أديب ميالة) عملياً في مرحلة النهاية لقصة خسر فيها الكثير من الأشياء إلى جانب ضرسيه قبل أن يخسر حياته ذاتها وفق ما أتوقعه له.

ترك تعليق

التعليق