كار الصاغة في حمص.. مهنة عريقة توارثتها الأجيال


تداول ناشطون على صفحات "فيسبوك" إعلاناً قديماً يعود إلى 16 تشرين الثاني من عام 1969 صادر عن نقابة صياغة المعادن الثمينة في دمشق ويتضمن قائمة بأسعار الذهب المحددة بالغرام حيث بلغ سعر الغرام عيار 21 مبيع 450 ليرة، وشراء 440 ليرة، وبلغ سعر الغرام من عيار 18 مبيع 385 ليرة، وشراء 375 ليرة، والخياس عن كل غرام 20 قرشاً سورياً.


 ويعيد هذا الإعلان إلى الأذهان تاريخ مهنة صياغة الذهب في مدينة حمص التي عرفت فن صياغة هذا المعدن الثمين منذ أمد طويل، وكانت الحلي الذهبية تشكل على الدوام مصدراً لإبراز المظاهر الجمالية للجسد إضافة إلى دلالاتها على المستوى الاجتماعي والطبقي والانتماء الحضاري في هذه المدينة، واستُعمل في صياغة هذه الحلي مختلف الطرق كالتخريم والضغط والترصيع ونسج الخيوط الذهبية والسحب والتطريق وغيرها وذلك بمهارة نادرة تظهر في جمال القطع الأثرية ودقة صنعها.

 ومن النماذج التي تدل على عراقة حمص في صياغة الذهب عدد من قطع الزينة والحلي التي عُثر عليها في مملكة قطنا (شرق مدينة حمص) متوضعة داخل تابوتين من البازلت وهي عبارة عن قلادات وحلي ذهبية نقش عليها موضوعات هامة تعكس تأثر الفن السوري القديم بالفنون المصرية، وكشفت هذه الُلقى عن طريقة تفكير أهل قطنا وطقوسهم الغريبة التي تمثلت في أنهم كانوا يكدّسون الهدايا الذهبية والأحجار الكريمة والمجوهرات الثمينة في جرار أو مزهريات كبيرة ويضعونها أمام الأموات.

وفي تدمر التي غدت محطة كبرى في الشرق القديم للقوافل التجارية العالمية، انتشر البذخ والترف بين حسنواتها اللواتي أصبحن يطلبن الحلي الجميلة والأقراط والأساور المميزة، ويُستدل على ذلك بالتماثيل التدمرية الكثيرة التي اكتُشفت في مواقع تدمر القديمة مما يوضح مدى اهتمام النساء التدمريات بالحلي وميلهن إلى التزين، ويكفي أن نذكر أنه في تدمر وحدها كان هناك ما يشبه الآن نقابة لصائغي الذهب والفضة مما يدل على كثرة الممتهنين لفن الصياغة، وتروي كتب التاريخ أن "الملكة زنوبيا كانت تتجول بنفسها في أسواق الصاغة التدمريين وتلتقي بهم وتتأمل إبداعهم الفني بل إنها كانت تتزين من إنتاجهم المحلي الذي كان يغزو العالم آنذاك"، ولم يمنع المظهر العسكري الرجولي لزنوبيا من الاهتمام بمظهرها وأناقتها، فقد كانت ثيابها ثمينة تحليّها المجوهرات، وكانت بذلك تقلّد البذخ الفارسي، وكانت زنوبيا تلبس في المناسبات ثوباً من الأرجوان موشّى بالجواهر ومشدوداً عند الخصر، وتترك أحد ذراعيها عارياً حتى الكتف، وكانت تركب والخوذة على رأسها في عربة ملكية تشّع بالأحجار الثمينة كما كانت تقلد كليوباترا بشربها في أقداح ذهبية تحليّها الجواهر النفيسة.

وتمتاز حرفة صياغة الذهب عن غيرها بميزات كثيرة، أولاً العراقة والقدم، وثانياً الدقة الكبيرة التي تتطلبها، وضرورة التدرب الطويل من أجل اكتسابها، لذلك تستعصي على أيٍ كان على عكس بعض المهن الأخرى التي يريد أن يتعلمها.

شيخ كار الذهب

صياغة الذهب في حمص كما في غيرها من مدن بلاد الشام مهنة تتوارثها الأجيال، فالحرفي الصائغ لا يُورث هذه المهنة إلا لأولاده حتى لا تخرج عن نطاق العائلة، وأكثر الحرفيين خبرة وعراقة في المهنة كان يُختار كشيخ للصاغة، "شيخ كار الذهب"، وغالباً ما كان شيخ الصاغة يرث هذا الكار عن أبيه على أن يكون متصفاً بالأمانة والصدق والمعرفة بأسرار المهنة والتعامل السليم، وكان شيخ الصاغة يتقاضى أجراً متفقاً عليه مقابل تفرغه لهذه الوظيفة إلى جانب عمله الخاص في مجال صياغة الذهب وتجارته.

وورثت عائلة نقرور في حمص مهنة صياغة الذهب وتولت مشيخة كارها منذ أكثر من قرنين ونصف، و"كان أفراد هذه العائلة يمتازون بالحرفية العالية والدقة والإتقان الفني في وقت كانت فيه هذه الحرفة تعتمد على اليد قبل دخول الآلات والمسابك والمخارط الكهربائية وقبل دخول الليزر إلى المهنة" -كما يقول شيخ صاغة حمص- سري نقرور لـ"اقتصاد" مشيراً إلى أن "الذهب كان يُجلب كسبائك خام ويتم صهرها في بوادق ثم تُسكب في قوالب /ريزك/ للتحول إلى أسلاك بواسطة آلة سحب ويتم ذلك على عدة مراحل: الترقيق أولاً وإدخال السلك في الآلة حتى يطول ويُرفع إلى مرحلة التيل /السلك الرفيع/ المربع ثم يُوضع في آلة أخرى لجعله مدوراً بالقطر الذي يحتاجه الحرفي، وكانت هذه المهنة تعتمد على الجهد العضلي والفن والإتقان".
 
وفي عام 1958 انتهى دور شيوخ الصاغة ونشأ تجمع للصاغة في أول تنظيم نقابي لهم وكان هذا التجمع نقلة نوعية في عالم هذه الحرفة وسُمي هذا التجمع نقابة الصاغة، ثم تحولت النقابة إلى جمعية حرفية ضمن الجمعيات الحرفية التي نشأت في سوريا لكل مهنة من المهن في عام 1966.
الصياغة والعمل اليدوي

لا غنى عن العمل اليدوي الفني في حرفة الصياغة لذا كان لا بد للصائغ الحرفي أن يتقن تفاصيل العمل الفني والحرفي لإنجاز بعض القطع أو لصياغة بعضها الآخر، رغم أن المكننة دخلت هذه المهنة من أبوابها الواسعة إلا أن خصوصية مهنة الصياغة لا زالت قائمة واللمسات اليدوية الحرفية شيء أساسي لإضفاء جماليات خاصة على المصاغ الذهبي.

 وتتصف حرفة صياغة الذهب في حمص كما في غيرها من المدن السورية- بحسب سري نقرور - بعياراتها العالية مقارنة مع مثيلاتها في دول أخرى، وتتمتع الحلي الذهبية في حمص بسمعة طيبة فمعظم هذه الحلي مصنوعة من عيار 21 وهي النسبة المثلى في عالم الذهب وهناك عيارات أخرى منها 22 و 18 و 14 ولكنها قليلة أما عيارات الحلي المصنوعة في باقي الدول ومنها الدول المجاورة فمعظمها من عيارات خفيفة كعيار 14 و 12 وغيره.

 وأشار شيخ كار الذهب أن مدينة حمص هي المحافظة الوحيدة التي كانت تستخدم أقدم ختم في العالم،  وهو "ختم السمكة".

ويقع "سوق الصاغة" ضمن أسواق حمص القديمة وهو يمتد من شارع السوق المسقوف المعروف بـ"السلحفة" إلى بداية سوق الحشيش، وأشار ناشطون إلى أن أصحاب محلات هذا السوق بدأوا بتفريغها من محتوياتها منذ النصف الثاني لعام 2011 وبعضهم تمكن من تهريبها إلى خارج حمص عندما بدأت قوات النظام تتعامل بالقوة مع المتظاهرين السلميين.

ترك تعليق

التعليق