ماذا سينهار في سوريا نتيجة "الهروب الاستباقي" لروسيا؟!

أثناء التطورات العسكرية المهمة التي جرت في سوريا خلال السنين الماضية، تعرف السوريون على العديد من المصطلحات القتالية التي لاقت رواجاً وصدىً مهماً في حياتهم، وشكلت دلالات راسخة قاموا باستخدامها في حياتهم المعيشية، ومن أهم تلك المصطلحات مصطلحين مترادفين هما: الانسحاب التكتيكي، وخطة إعادة التجمع، والتي برع جيش النظام في أدائهما بصورة شكلت لدى بعض المعلقين الموالين للنظام دروساً سيتم تلقينها في كبريات الأكاديميات العسكرية الدولية.
 
في الوقت نفسه، أدت حالة الاستقطاب الشديدة التي فرضها النظام على البلاد إلى تصنيف مختلف الشرائح التي يحتويها المجتمع السوري ما بين موالٍ ومعارض، ثم بين وطنيٍ وإرهابي، وكانت الحياة الاقتصادية ميداناً مهماً حاول النظام أن يشكل هذا الاستقطاب معلماً أساسياً فيها، وقد تزايدت فعلاً حالة الاستقطاب في الحياة الاقتصادية بصورة مطردة مع تطورات الأحداث، لتؤدي إلى تحويل الاقتصاد السوري إلى ما يشبه حالة اقتصاد عسكري، تم تسليم قيادته لتجار وصناعيين وطنيين، إلى جانب تشكل فئة جديدة من المنتفعين من الأزمة، وبإشراف مباشر من مسؤولين حكوميين مرتبطين بالنخبة الحاكمة، عملوا على تجنيد مقدرات الدولة ومؤسساتها لخدمة النظام وحلوله العسكرية تحت شعارات وطنية رنانة كما هي العادة.

وهكذا شكل دخول روسيا بصورة مباشرة على خط الأزمة السورية انتعاشاً عاماً في صفوف النظام ومواليه، العسكريين منهم والتجار والصناعين، والمنتفعين، وكذلك المسؤولين الذين يديرون المؤسسات الاقتصادية للدولة.

وعلى الرغم من تأخر النتائج العسكرية، وعدم انعكاس التدخل الروسي على دعم المؤشرات الاقتصادية المهمة في مناطق سيطرة النظام، بل تراجع بعضها، ظل الانطباع بوجود دور إيجابي للتدخل الروسي هو الطاغي فعلاً على مختلف مناحي الحياة التي يسيطر عليها النظام، ومنها الحياة الاقتصادية ذات الاستقطاب الحاد.

وما إن بدأت بعض نتائج التدخل العسكري الروسي تظهر على الأرض عبر تمكن النظام من السيطرة على العديد من المناطق المهمة في شمال وشرق حلب وجنوب درعا وريف اللاذقية، حتى وقعت مفارقة غريبة تمثلت بهبوط كبير في قيمة الليرة السورية عن المستوى الذي كانت عليه قبل التدخل (تجاوز الـ10%) وارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية، وذلك بالتوزاي مع اقتراب موعد استحقاقات الحل السياسي وفق ما يتم التخطيط له وتطبيقه في مفاوضات جنيف3.

وفي ذروة المماحكات السياسية والتجاذبات التي لازمت الجولة الجديدة من مفاوضات جنيف3، وبالتزامن مع الذكرى السنوية الخامسة لانطلاق الثورة السورية، وبعد ساعات على اللقاء الصحفي الذي عقده وزير خارجية النظام (وليد المعلم) والذي ألقى فيه –كعادته- بطريقته الباردة والاستفزازية بعضاً من التعابير الساخنة والمثيرة للجدل، حتى قدم الروس لتلاميذهم في النظام، بل وللعالم أجمع، أحد أهم التطبيقات العسكرية في تاريخ الأزمة السورية، وربما في تاريخ العلوم العسكرية، والذي أطلقت عليه شخصياً مصطلح "الهروب الاستباقي"، تاركين وراءهم حالة من التخبط والفوضى لم يسبق لها مثيل في صفوف النظام أو في كل ميادين سيطرته ونفوذه واستقطابه، وعلى رأسها اقتصاده المُعسكَر، لتبدأ الليرة السورية في انحدار غير معتاد، بل ومتواصل، واستقراراً صورياً في أسعار الذهب على الرغم من انحدار سعره عالمياً، مروراً بارتفاع إضافي في أسعار السلع، وسيطرة حالة من الوجوم والخوف الشديدين بين صفوف التجار والصناعيين "الوطنيين"، تكاد تعدمهم القدرة على الكلام؛ ليُشكل "الهروب الاستباقي"، هذا التطبيق العسكري الروسي الخالد، فضيحة حقيقية وكبرى لمستوى وعمق العسكرة التي تعج بها الحياة الاقتصادية الذي يسيطر عليه النظام، وليكون هذا الاقتصاد المُعسكر أكثر قرباً من أي وقت مضى من حالة الانهيار والفوضى الشاملة.

ترك تعليق

التعليق