عنين الناعورة في حماة.. لا يزال يعانق أشجان السوريين

"سمعت عنين الناعورة وعنينا شغل بالي هي عنينا على المي وانا عنيني على الغالي"، هذه الأغنية التراثية التي غناها الفنان الراحل "معن دندشي"، عن أهم المعالم السياحية في مدينة حماة، تعكس لمن يسمعها اليوم حالة الشجن والحنين التي يعيشها السوريون المتوزعون في جهات العالم الأربع، وتعيد إلى الذاكرة أيام كان أبناء المحافظات الأخرى يفدون إليها ليقضوا بين جنباتها وفي ساحة العاصي وحديقة أم الحسن بالذات أجمل لحظات التنزه والاستجمام.

للاستماع إلى الأغنية اضغط هنا

 ورغم مرور أكثر من 1800 سنة على إنشائها لا تزال هذه المشيدات التاريخية الضخمة تحافظ على بنيتها الإنشائية دون أي تعديل في هندستها، إذ عُثر في شارع الأعمدة في مدينة "أفاميا" منذ سنوات على لوحة فسيفسائية يرجع عهدها إلى القرن الخامس الميلادي أي العهد الهلنيستي تجسد شكل ووظيفة الناعورة كما عُرفت آنذاك، وهذا يعني أن هناك مراحل زمنية طويلة مرت بها الناعورة حتى اتخذت شكلها النهائي، ويعني كذلك أنها منذ نحو ثمانية عشر قرناً لم تتبدل ولم تتغير، وعاشت هذا الزمن الطويل غير عابئة بتبدل المكان أو تغيّر العصور.


ارتبطت النواعير بمدينة حماه كارتباط الاسم بالمسمى أو السوار بالمعصم، وأول إشارة وصلت عن علاقة المدينة بهذه النواعير وردت في كتابات "ياقوت الحموي"، إذ جاء "في معجم البلدان": "تتألف حماه من بلد يحيط به جدار من الحجارة بجانب بناء مشاد بحجارة كبيرة، ويتدفق نهر العاصي فيروي الحدائق ويدير دواليب المياه، وأحيانا كانت تترافق النواعير مع السدود بهدف زيادة سرعة وقوة ومضاعفة استطاعة النواعير".


وتُعد صناعة النواعير وترميمها من المهن التراثية التي رافقت نواعير حماة، والمادة الأساسية في صناعة الناعورة هي الأخشاب، وأهمها الحور والجوز والتوت والكينا والمشمش والأكاسيا والسنديان.. وغيرها، ومن الطبيعي أن هذه الأخشاب تؤخذ من الأشجار غير المثمرة أو التي غدت هرمة عديمة النفع في بساتين محافظة حماه وسواها من المحافظات، وأول مرحلة هي تصميم برج الناعورة، حيث يقوم عاملان بقياس دائرة الناعورة الكبرى مع توابعها وارتفاعها بوساطة قطعة طويلة من القصب على مرحلتين: الأولى من موقع قلب الناعورة إلى قعر مجرى الماء "البيب" أو "فتحة مياه الناعورة"، المرحلة الثانية من موقع قلب الناعورة إلى أعلى البرج "النقير"، ويرافق قطعة القصب حبل متين، وعلى الأرض المجاورة للناعورة يدق في منطقة وسطى مسمار كبير يدل على مركز الناعورة (قلبها) ويربط بهذا المسمار حبل القياس الكبير، ثم يقوم أحد العمال برسم دائرتين على الأرض صغرى وكبرى بواسطة مسمار حديدي آخر مربوط بنهاية الحبل، وبهذا يكون قطر الناعورة الأكبر والأصغر قد رسما على الأرض، وعلى هذا الأساس وتبعاً لقياسهما يجري تصنيع الأجزاء الخشبية وخاصة الوشاحات (الأضلاع) والدائرتين الكبرى والصغرى.


قلب الناعورة.. وشاحات وأعتاب

"أبو محمد قيطاز"، أحد قدامى العاملين في صناعة النواعير تحدث لـ"اقتصاد" عن مراحل تصنيعها قائلاً: "يقوم صنّاع الناعورة أولاً بتصنيع "الكفت" وهو قطعتان كبيرتان من خشب الجوز، ويجري "تقوير" (تفريغ) جزئه العلوي على شكل هلال كي يوضع تحت طرفي قلب الناعورة".

 أما قلب الناعورة نفسه –كما يقول قيطاز- فيجري تصنيعه يدوياً بقياس هندسي دقيق، ويجب أن يكون من خشب الجوز حصراً لمتانته وتماسكه، حيث أن وزن الناعورة قد يصل إلى أكثر من خمسين طناً.

ويضيف محدثنا :"بعد تصنيع القلب يجري تجهيز الأعتاب، وعددها ستة عشر، ويتم ربطها بالقلب مباشرة على شكل إطار الدواليب الهوائية، وعلى رأس كل عتبة يتم دق رأس وشاح، و"الوشاحات" قد يصل طول بعضها إلى اثني عشر متراً، ولكل ناعورة مهما كان حجمها ثمانية وأربعون وشاحاً ويتقابل كل وشاحين بمحاذاة بعض تفصل بينهما الأعتاب والدوائر".


ولكل ناعورة أربع وعشرون قطعة من خشب الجوز أو التوت يتصل بعضها ببعض فتشكل دائرتين صغرى وكبرى، وفائدة هاتين الدائرتين-كما يوضح قيطاز- ربط الوشاحات، وبهذا تصبح الناعورة بشكلها العام جاهزة ويركب الكف أولاً على جسم البرج الحجري، ثم يتم حمل القلب ليأخذ محله على وسادتي الكف ويجري بعد ذلك تثبيت الأعتاب حول القلب بواسطة أسافين (قطع خشبية مدببة الأطراف) فيما يجري تثبيت الأعتاب ببعضها البعض بواسطة المسامير الحديدية الخاصة بالنواعير.

ويتابع قيطاز واصفاً مراحل تجهيز الناعورة قبل تركيبها: "بعد تركيب الأجزاء الأخرى المصنعة، والتي تأخذ دورها ومكانها تباعاً على هيكل الناعورة، ومنها "الرادين" وهي قطع ذات رأس رفيع من جهة، ومن الجانب الآخر ذات صفحة منبسطة، ويجري إدخال رؤوسها الرفيعة السفلى في فتحات الدائرة العليا و(القبون) وتسمى صندوق الماء ويجري وضعها بين الرادين والرادين الذي يليه، و"المقدات" وهي على شكل ممر بحافتين وتوضع بمقدمة نصف "القبون" لتشكل "الميازيب" التي ينصب منها الماء".

جسر بيت الشيخ

وحول أعطال النواعير، أوضح "عبد الله المصري" الذي يعمل في هذه المهنة منذ عقدين من الزمن: "هذه الأعطال كثيرة لأن النواعير كما هو معروف مصنوعة بالكامل من الخشب، والخشب عرضة للاهتراء والتشقق والتغير بسبب العوامل الطبيعية من شمس وهواء وماء، لذلك تحتاج هذه المنشآت المائية التاريخية إلى ترميم دائم واستبدال لقطعها التالفة".

ولفت المصري إلى أن " لكل جزء من الناعورة نوعاً خاصاً من الخشب لا يجوز أن يستبدل به غيره وإلا اختل عمل الناعورة وفقدت توازنها، ونقوم كذلك بترميم بعض الأجزاء كالرادين والوشاحات والعينات والعضايد والزوايا الخارجية، وتدهن الأخشاب البديلة بمادة كيميائية هي CMS للحفاظ عليها من التشقق والجفاف، وهي مادة لم تكن متوفرة لدى بناة النواعير الأوائل".
 

ورغم أن وسط مدينة حماة بعيد نسبياً عن أجواء الحرب إلا أن قوات نظام الأسد لم توفر هذه المعالم السياحية من التدمير، إذ تداول ناشطون العام الماضي أن قوات النظام قامت بإحراق إحدى أقدم وأكبر النواعير في مدينة حماة وهي ناعورة الجعبرية أو
(المارستان), نسبة إلى البيمارستان النوري الذي كان مقابلاً لها من جهة الشرق، وتقع هذه الناعورة التي تعود للعهد الآرامي وسط مدينة حماة على نهر العاصي، وأشار المصدر أن "مجموعة من قوات الأمن كانوا يحتسون الخمر قرب الناعورة وبعد مغادرتهم على الفور بدأت ألسنة اللهب تتصاعد من المكان".


ونواعير حماة التي يبلغ عددها أربعين ناعورة هي عبارة عن آلات مائية خشبية تدور بالقوة المائية، وتنقل الماء منه بواسطة صناديق إلى حوض علوي ومنه يجري في قنوات محمولة على قناطر للاستفادة منها في الشرب وسقاية البساتين.

ترك تعليق

التعليق