الحميدية.. حيث التجار باتوا على البسطات


ليس سوق الحميدية بالنسبة لعموم السوريين مجرد سوق يرتادونه للتبضع، هو مشوار السوريين في أيام عطلتهم، أو عيدهم المسائي لتناول بعض البوظة في صيف الشام الجميل، ورفقة عائلية يحفظها الأطفال لأيام كبرهم القادمة حتى صار الحميدية طقساً لكل الدمشقيين وكل من يسكنها.

اليوم.. بعد خمس سنوات من الحرب ما زال السوق يشكل بعضاً من تلك الذكريات، ولكنها ممزوجة بالوجع والغلاء، والفقراء ما عادوا هم المرتادون.. ربما تقودهم أقدامهم عنوة إلى طريق حفظته بحكم العادة، ولكن اختفت مظاهر الشراء، وحلت مكانها مشاعر الحسرة والذكريات الجميلة.

تنافس غائب

من أول خطوة في الحميدية تنهال عليك العروض، المحال والبسطات تشدك إليها، وتبدأ لعبة الاقناع، وأما (الشقيعة) الذي يقفون لك بالمرصاد فبدؤوا يقلون عن ذي قبل، وهم الشبان الصغار الذين يسحبون الزبون إلى الداخل فأغلبهم هرب خوفاً من سوقهم للجيش، أو اعتقلوا.

هكذا كان السوق يعمل فأنت تجد ما يناسب جيبك ومقدرتك، وهذا ما كان يميز الحميدية عن غيره من أسواق العاصمة التي توضحت فيها اتفاقات التجار على البيع بشبه سعر موحد أو متقارب.

 وقبل سنوات الدم كان بإمكان المواطن أن يشتري بـ 1000 ليرة سورية بنطالاً وقميصاً، وللأولاد بالألف ليرة كان من الممكن كسوتهم بلبلس جديد للعيد، وبنفس المبلغ تتبضع سيدة لابنتها، أو يشتري خطيب لخطيبته هدية لائقة.

اليوم تبدو الهوة كبيرة، فأسعار الألبسة عادية الجودة أصبحت فوق طاقة المواطن على الشراء، فأسعار القطع لا يمكن لموظف راتبه لا يتجاوز الـ 25000 ليرة أي خمسين دولاراً أن يشتري ما يستر أبدان عائلته الصغيرة.

على سبيل المثال فالأسواق الشعبية التي تتفرع عن الحميدية كسوق البرغل والصوف وسواها تتراوح الأسعار فيها، كما يلي:

بنطال جينز رجالي 3500– 4500 ل.س
 كنزات رجالية "قطن"2500- 3500 ل .س
بنطال جينز ولادي 1000– 2500 ل.س
 كنزات ولادي"قطن" 1000– 2500 ل .س
بيجامات نسواني "قطن" 3500- 5000 ل .س

هذا فقط ما يتعلق بهذه الأصناف فكيف ببقية احتياجات الأسرة من قطنيات وقطع الحمام والألبسة الداخلية والاكسسوارات.

التجار.. انتهت أيامنا

تجار السوق حالهم ليست بأفضل من المواطنين فهم يشترون القماش والخيط بسعر الدولار، وهذا كله ضمن شروط الحصار أي أن السعر مضاف إليه عمولة التهريب الكبيرة، وعدم وجود قطع غيار لآلات المعامل، وتقنين الكهرباء الطويل، وغلاء أسعار المحروقات المرتفعة مما أثر على الورش الصغيرة التي بدأت تهرب خارج البلد، والعاملون إما اعتقلوا أو هاجروا..

كل هذا كما يقول (أبو سامر) أدى إلى أفول أيام العز، وتحول الجميع إلى تجار (شنطة) ومهربين، وظهر تجار جدد هم من يستطيعون العمل بطرق ملتوية ولهم شركاء في الأمن، وهؤلاء لا يهمهم سوى الربح، وليسوا ابناء (كار).

محمد (غ): "نحن توارثنا مهنة القطع النحاسية وبيعها وتصديرها أباً عن جد، وأحوالنا في أسوأ ما يمكن، فالحصار منعنا من المشاركة بالمعارض بالتعاون مع اتحاد الحرفيين، وكذلك أصبح سوقنا بارداً، وبالكاد نصرّف بضائعنا الكاسدة".

البسطات

بسطات الحميدية التي كانت تعيش صراع وجود مع التجار صارت للتجار الآن الذين تحول بعضهم إلى بائع بسطة كون المواطن لا يتوقف أمام المحال لقناعته بغلاء بضاعتها.

وأما الفقراء منهم الذين يبيعون الجوارب والقطنيات والألبسة الداخلية فهم كما يقول أبو حسن، يعملون على مبدأ (عيشني اليوم وموتني بكرة)، عدا عن مطاردة الشرطة لهم ومصادرة بضاعتهم، والمبالغ التي يدفعونها كرشاوى ليسمح لهم بالبيع في السوق وفي أوقات متأخرة أو يدفعون لشرطي النهار وشرطي المساء.

الحريقة.. جار الحميدية

سوق مختلف في أغلب منتجاته، وهنا ستجد الذهب حيث سوق الصاغة الذي يتواصل معه في البناء، وهنا شكوى مختلفة من (الصياغ) الذين يشكون من عدم الاقبال على الشراء بسبب عدم قدرة المواطن على الشراء وانخفاض الليرة بشكل يومي في سوق العملات.

كل هذا التقلب جعل من هذه الأسواق عرضة لاهتزازات كبيرة، أودت ببعض التجار للإفلاس، والبعض لللإغلاق أو السفر بحثاً عن سوق مستقرة فيما يتداعى اقتصاد البلاد التي كانت عامرة كرمى بقاء نظام لا يأبه لمواطن أو وطن.

ترك تعليق

التعليق