الدورة الاقتصادية الأسدية في عهد بشار

بعد تخرجي من كلية الاقتصاد وخلال دراساتي العليا وحياتي الوظيفية الحكومية التي امتدت لاثنتي عشرة سنة من عهد "بشار الأسد"، ظل مفهوم الدورة الاقتصادية يشكل هاجساً حقيقياً في حياتي ومعيشتي، ولكن بصورة مختلفة تماماً عن الإطار النظري والأكاديمي الذي تعلمته في كتب الاقتصاد الدراسية!!

الرفاهية (القمة)، الركود، الكساد، والانتعاش (الاستعادة)، هي مراحل الدورة الاقتصادية التي يمر بها أي اقتصاد وطني من الناحية النظرية، وعملياً –وكما هو معروف- ثمة تداخل في مميزات كل مرحلة، كما أنه لا ضرورة أن يكون الانتقال من مرحلة إلى أخرى ضمن التسلسل المذكور، ولكن على الأقل ثمة حدود فاصلة إلى حدٍ ما بين هذه المراحل، فهي تحدث في فترات زمنية متمايزة.

في "سورية بشار الأسد" التي عملنا وعشنا فيها، كانت ثمة دورة اقتصادية ذات خاصية قلما تجدها في مكان أو عصر آخرَين، فجميع هذه المراحل كانت موجودة في الوقت نفسه، حيث توزعت كل مرحلة على فئة معينة، مع انتقال حركي بطيء تارة وسريع تارة أخرى لجزء من هذه الفئة أو تلك بين المراحل الاقتصادية المختلفة.

وهكذا وجدنا الرفاهية قد انحصرت برجال الأعمال والصناعيين الكبار مع كبار المسؤولين، الذين توصلوا فيما بينهم لشراكات معلنة أو غير معلنة، محققة مستويات عليا من التضخم المصاحب عادةً لمرحلة الرفاهية والقمة، ولكن التضخم في "سورية بشار الأسد" كان خاصاً بها أيضاً، فهو تضخم يشمل الثروة وأشياء أخرى.

أما رجال الأعمال والمسؤولين الذين احترموا أصول العلاقة بين المال والسلطة، فقد تم مع الوقت جرفهم كما باقي الطبقة الوسطى العليا والدنيا إلى الركود، ركودٍ كان يسري في إطار المجتمع بصورة سرطانية، بالتزامن مع عملية تجهيز مستمرة لعينات من الفئة الكاسدة الغارقة في البطالة وآثارها، والتي كانت تشعر بالانتعاش عند أول رشوة أو عملية قبض مالية في صفقة غير مشروعة، لتجد نفسك فجأة أمام أناس بدأوا يتحدثون عن أجدادهم الأغنياء وقضايا ميراث بدأت تتحلحل، وأنهم يمرون بمرحلة "الاستعادة" لمجدٍ غابر.

هؤلاء سرعان ما تم غربلتهم وعند مستويات انتعاش مبكرة، قبل أن يكون القادرون منهم على المتابعة قد قدموا كل ما يمكن تقديمه من تنازلات قيمية وربما إنسانية أيضاً، ليصبحوا مؤهلين ليكونوا بدلاء أولئك المرفهين الذين فقدوا صلاحياتهم، وأخذوا يشكلون عبئاً أكبر من منفعتهم بالنسبة للنخبة الحاكمة المسيطرة.

ولأن "سورية بشار الأسد" كانت وستبقى حالة خاصة، فكان لابد أن تقع فيما وقعت به آليات السوق الحديث والتطورات الاقتصادية النوعية في ركودٍ وكسادٍ تضخمي قاتل، ولكن ضمن الخصوصية ذاتها، وفعلاً سرعان ما وجدنا أنفسنا نحن السوريين أمام نخبة كاسدة في قيمها ومتضخمة في ثرواتها وأشياءً أخرى، تدير ركوداً شعبياً عارماً في آماله وأعماله متضخماً في أوجاعه وآلامه، قبل أن تقفز شرارة من حريق (البوعزيزي) إلى وسط الركام، ليصل الحريق إلى حلب في غضون سنة لا غير، لتنقلب معها الدورة الاقتصادية الأسدية في عهد بشار رأساً على عقب، تلك الدورة التي امتدت على اثنتي عشر سنة كاملة، وتحاول اليوم أن تنبعث من جديد.

ترك تعليق

التعليق