اقتصاد سوريا..أعراض ما بعد منتصف الثمانينات، والمآلات المُحتملة


في الوقت الذي كانت فيه بعض الدول الأوروبية، تراهن على تأثير سريع للعقوبات الاقتصادية على نظام الأسد، في بدايات الثورة، عام 2011، كان العديد من المختصين الاقتصاديين السوريين، يؤكدون أن تأثير تلك العقوبات سيكون بعيد الأمد، وليس سريعاً. وأن ذلك التأثير يتطلب بضع سنوات كي يظهر بشكلٍ جلّي.

اليوم، يعتقد معظم المراقبين، أن تأثير الحرب المدمرة التي طالت معظم بنى الاقتصاد السوري، خلال ست سنوات، مترافقة مع عقوبات اقتصادية، وقطيعة سياسية مع العديد من دول العالم، مع فرار معظم الاستثمارات المحلية والعربية والدولية، بدأ يتجلى في اقتصاد البلاد، وفي أداء حكومة النظام في دمشق.

ويمكن للعديد من المراقبين أن يلحظوا اليوم أعراض ما بعد منتصف الثمانينات، في مناطق سيطرة النظام. تلك الحقبة التي تجلت فيها معالم إحدى أكبر الانتكاسات الاقتصادية في تاريخ سوريا.

ووفق المبدأ الشهير في التحليل الماركسي، فإن التراكم الكمي، يؤدي إلى تغير نوعي، يبدو أن التراكمات الكمية لآثار الحرب التي يديرها نظام الأسد ضد الثائرين عليه، منذ ست سنوات، بدأت تتحول إلى تغيرات نوعية قد تُنذر بحالة انهيار اقتصادي شامل، إن لم يستطع نظام الأسد لجمها سريعاً.

وبالعودة إلى حقبة ما بعد منتصف الثمانينات، نذكر أن حرب نظام الأسد الأب، ضد معارضته، وفي مقدمتها، الإسلامية منها (الإخوان المسلمين)، التي وصلت ذروتها بين عامي 1979 –1982، وما رافقها من معالم "اقتصاد الحرب"، حيث ساد اقتصاد "السوق السوداء"، ونشاط الميليشيات المسلحة، والنهب والفساد من جانب مراكز القوى الأمنية والعسكرية لموارد البلاد وخزينتها المالية، تراكمت آثارها الاقتصادية كمياً، لتؤدي إلى تدهور نوعي للاقتصاد السوري، تسارع بعد منتصف الثمانينات، حيث تردت قيمة الليرة السورية، 12 ضعفاً، وانكمشت القوة الشرائية بين أيدي الناس، وشحت السلع الأساسية في الأسواق.

ضيق اقتصادي هائل، ترافق يومها، مع تضييق أمني كثيف. لكن نظام الأسد الأب، تمكن حينها، من تلافي المآل الحتمي، لسلسلة التدهورات الاقتصادية، التي شهدتها البلاد في تلك الحقبة، عبر عاملين: النفط، الذي تعاظمت مساهمته في ميزانية البلاد، منذ منتصف الثمانينات، لتصل ذروتها، في منتصف التسعينات. والاستثمارات الخارجية، التي شرّع الأسد الأب، لها الأبواب، بسلسلة تشريعات قانونية غير مسبوقة، حينها، في تاريخ سوريا، منذ العام 1963، والتي ولجت الاقتصاد السوري في مطلع التسعينات، بعد أن تلمست ملامح استقرار الأمر لصالح الأسد الأب، ونظامه، وسحق معارضته، تماماً.

اليوم، تتكرر ذات الملامح الكمية للتداعيات الخاصة بالحرب. فالسوق السوداء باتت لغة التعاملات اليومية في سوريا، بدءاً بسوق العملة، وليس انتهاءً بسوق المحروقات. كما أن فوضى الميليشيات، وما يرتبط بها من نشاطات اقتصادية "ريعية"، تنال من النشاطات الاقتصادية الإنتاجية، وتحد منها، وصلت أيضاً إلى مراحل، ربما لم تشهدها سوريا، حتى في ذروة أزمة الثمانينات. أما الفساد ونهب موارد البلاد وميزانيتها، من جانب القوى الأمنية والعسكرية والبيروقراطية المرتبطة بالدائرة الضيقة لنظام الحكم، فهي في ذروة تجلياتها، اليوم أيضاً.

خلاصة الأمر، أننا نعيش أعراض اقتصاد ما بعد منتصف الثمانينات في سوريا، وربما بصورة أعمق أيضاً. فتلك الأعراض اليوم، أقوى منها في حقبة الثمانينات، بمرات. والمآلات الأكيدة لها، إن لم يتم علاجها سريعاً، هو حصول انهيار اقتصادي شامل.

لكن، ماذا نقصد بالانهيار الاقتصادي الشامل؟.. بكل بساطة، هو عجز مؤسسات الدولة عن تمويل نشاطاتها بشكل شبه كلي. وأبرز تعبير عن ذلك، يتمثل في العجز عن دفع الرواتب، أو انهيار كامل لقيمة الليرة السورية، التي تُدفع بها الرواتب، جراء طبعها دون تغطية، بسبب انهيار الاحتياطي الأجنبي.

ذلك الانهيار، وفق التوصيف الذي ذكرناه آنفاً، لم يحصل بعد في سوريا. لكنه مُرجح في الأمد القريب. وبشدة. إلا إن تم معالجة الأعراض الحالية الجلية في الاقتصاد السوري.

كيف عالج الأسد الأب، أعراض ما بعد الثمانينات؟.. بالنفط والاستثمار الخارجي. إذاً، لدى الأسد الابن، بوابتان للحل، الأولى هي النفط، ونحن نعلم أن سوريا كانت في طريقها لدخول نادي مستوردي النفط، حتى قبل الثورة عام 2011، فإنتاج سوريا من النفط، حتى قبل الثورة، كاد أن ينخفض عن مستوى الاستهلاك المحلي، مما يعني أن النفط لا يمكن الرهان عليه مطلقاً، حتى لو استعاد نظام الأسد كل المكامن النفطية التي خرجت عن سيطرته. رهان آخر قد يكون، على الغاز، وهو أيضاً، رهان غير مؤكد المعالم، فالاحتياطيات من الغاز، التي يمكن لها أن تشكل مورداً نوعياً لخزينة البلاد، يحل محل مورد النفط المتقلص، هي احتياطيات تقديرية تتطلب سنوات من الاستكشاف والتقصي، ولاحقاً، الاستخراج والتصدير.

أما البوابة الثانية للحل، وهي الاستثمار الخارجي، فهي تتطلب حلاً سياسياً، يؤدي إلى استقرار أمني، يستمر بضع سنوات، كي تطمئن رؤوس الأموال إلى ثبات الحال، فتعود إلى الداخل السوري.

ونحن نعلم أن الحل السياسي، يخيف نظام الأسد، لأنه يهدد سلطته المطلقة، وقد يهدد مكانة رئيسه تحديداً.

يبقى أن نذكر أن أعراض ما بعد منتصف الثمانينات، الاقتصادية، عالجها الأسد الأب يومها، بغياب تدخل خارجي نوعي، في صنع القرار بدمشق. أما اليوم، فالوضع مختلف تماماً. إذ بات جلياً أن الأسد الابن ليس صاحب الكلمة الأخيرة، والنهائية، في إدارة الحكم بدمشق. إذ تشاركه روسيا وإيران، وربما مراكز قوى أمنية وميليشياوية تفاقم نفوذها بفعل امتداد سنوات الحرب، وهناك تساؤلات جدية حول مدى قدرة نظام الأسد الابن، على ضبطها وتطويعها لصالحه.

بكل الأحوال، يبقى أن السوريّ الفرد، غير المرتبط بأجهزة أمن نظام الأسد أو زبانيته العسكرية والميليشياوية والبيروقراطية، هو الضحية الأولى والأخيرة، لأعراض ما بعد منتصف الثمانينات، التي تعيشها سوريا اليوم. لكن في الوقت نفسه، يبدو أن علامات استفهام كبرى تحوم حول مصير الأسد الابن، نفسه، إن لم يستطع معالجة هذه الأعراض، وفي حال أدت بالفعل، إلى انهيار اقتصادي شامل، لم تشهده سوريا من قبل.

ترك تعليق

التعليق