كيف يمكن أن يقود إعمار سوريا إلى حرب أهلية؟


قد يكون توقعاً مفاجئاً للجميع، أن نقول، حالما تبدأ عملية إعادة الإعمار في سوريا، فإننا في الطريق إلى صراع أهلي جديد. قد يكون أشد من السابق، لأن الأول بدأ بحراك سلمي يطالب بالحريات، فيما سيكون الصراع الأهلي المرتقب، بدوافع اقتصادية ووجودية.

لكن، كيف خلصنا إلى ذلك التوقع؟.. ببساطة، فإن مواقف الكثير من القوى الإقليمية والدولية تُوحي أنها مستعدة للقبول ببقاء نظام الأسد، بل هي مستعدة للانخراط في عملية إعادة الإعمار بسوريا، وفق مقاربات يقبل بها نظام الأسد. لا ينطبق ذلك فقط، على روسيا وإيران والصين، المستفيدين الأوائل من عملية إعادة الإعمار المرتقبة. بل ينطبق أيضاً على قوى إقليمية، قالتها صراحةً، أو مواربة، أنها على أتم الاستعداد للانخراط في عملية إعادة الإعمار في سوريا.

في لبنان والأردن، وكذلك، في السعودية وتركيا، صدرت تصريحات ومواقف، بعضها نال قدراً كافياً من الضجيج الإعلامي، وبعضها الآخر، مرّ بهدوء وصمت.. تؤكد أن مختلف القوى المحيطة بسوريا، والقريبة منها، في حالة "سيلان اللعاب"، بانتظار المساهمة في الكعكة السورية.

الأسد استشعر ذلك منذ وقت مبكر، فكان معرض دمشق الدولي، في شهر آب المنصرم، وما رافقه من ترويج إعلامي وسياسي واقتصادي، تعبيراً عن توق النظام لتقديم فرصة الاستثمار في سوريا، على طبق شهيّ، لمن هو مستعد للقبول بالأسد، بوصفه "الطباخ الوحيد".

حالة "سيلان اللعاب" هذه، ظهرت أيضاً في أوساط غربية، أوروبية تحديداً. وبدأ الحديث يدور في تلك الأوساط عن إمكانية انخراط الأوروبيين في إعادة إعمار سوريا، مع القبول بمقاربات الأسد للحل السياسي المُنتظر في البلاد. حلّ سيكرسه هو وعصبته، أباطرة لسوريا الجديدة، المثيرة للاهتمام الاستثماري.

لكن، ماذا يمكن أن يحدث لو غضت جميع القوى الإقليمية والدولية الطرف عن جرائم نظام الأسد، وقبلت به حاكماً لهذه البلاد، وقبلت أن تساهم في إعادة إعمارها، وفق مقارباته؟.. الجواب لا يرتبط بأي أبعاد أخلاقية هنا، بل بأبعاد تتعلق بالجدوى الاقتصادية. فما هي قيمة الاستثمار في بلدٍ يرتقب صراعاً أهلياً جديداً. وربما أكثر من واحد.

يعلّق ستيفن هايدمان، على سيناريوهات إعمار سوريا وفق مقاربات الأسد، باعتبارها وصفة شبه مؤكدة، لحرب أهلية مرجحة في سوريا. وستيفن هايدمان، هو خبير مرموق في شؤون الشرق الأوسط، وصاحب كتاب "التسلطية في سورية، صراع المجتمع والدولة".

وفي تحليل ملفت، نشرته مؤسسة بروكينغز، في نهاية آب المنصرم، يُورد هايدمان معطيات مفادها أن 90% من البلدان التي شهدت حروباً أهلية منذ بداية هذا القرن، كانت قد اختبرت عنفاً جماعياً، سابقاً.

ونقلاً عن خبير متخصص، تشارلز كول، فإن "الإقصاء السياسي أهم العوامل التي تسهم في تكرار العنف السياسي".

بمعنى آخر، فإن البلد الذي يشهد صراعاً أهلياً عنيفاً، يخلص إلى نتائج لا تُوجد حلولاً لمسببات ذلك الصراع، مؤهلة بنسبة 90% لأن تختبر عنفاً جماعياً جديداً. بل ربما هي مؤهلة لأن تعيش دوامة من العنف المتكرر.

في الحالة السورية. عنف الثمانينات كان المقدمة التي مهدت للعنف الذي تلا العام 2011، سواء من جانب النظام، أو من جانب مجموعات ثائرة اضطرت لانتهاج العنف. ومع الخاتمة التي يريد نظام الأسد تكريسها اليوم، حيث إن المسببات التي أدت لنزول الناس إلى الشوارع عام 2011، أصبحت أضخم بكثير.. علينا أن نتوقع في مستقبل قريب جداً، صراعاً أهلياً أشد وأكثر عنفاً من ذاك الذي شهدناه خلال السنوات القليلة الماضية.

ببساطة، إن لم تزل مسببات العنف الأهلي الأول، فهو سيتكرر بصورة أعنف، في المستقبل القريب. اليوم، من يعرف ما يحدث في الداخل، في مناطق سيطرة النظام تحديداً، يستطيع أن يفهم ماذا نقصد؟.. فحالة التمييز وسيادة المحسوبية، وغياب القانون، وسيطرة لغة "الواسطة"، وتفشي الفساد، والإثراء غير المشروع، كلها أصبحت مضاعفة عشرات المرات عما كانت عليه، قبل العام 2011. والأهم من كل ما سبق، أنه أضيف إليها حالة فرز مجتمعي أشد وطأة من تلك التي عرفناها سابقاً. والأسد تحدث عنها صراحةً، حينما تحدث عن "المجتمع المتجانس" الذي خلصت إليه سوريا، في نظره. وهو تفكير "هتلري" بالفعل، حسبما وصفه عزمي بشارة. لكنه ليس تفكير بشار الأسد وحده، بل تفكير كل أنصاره، خاصة منهم المتورطين في القتال إلى جانبه. فهؤلاء يرون أن سوريا باتت حقاً لهم، وأن الحواضن الاجتماعية للثورة، متهمة دائماً، إلى أن يثبت العكس، ويجب معاملتها معاملة المتهم، وهو ما يتم الآن بالفعل.

هكذا مقاربة، مع دخول سيولة مالية هائلة للانخراط في عملية إعادة الإعمار في سوريا، ستزيد من الفروق المجتمعية على أساس القرابة من ذوي النظام، وستزيد من حالة القهر المجتمعي، الذي تعيشه شرائح واسعة من السوريين اليوم. ذلك سيؤدي في وقت قريب جداً، إلى انفجار أعنف من ذاك الذي شهدناه في ربيع 2011.

اقترح هايدمان سلسلة حلول، لتجنب الانتهاء إلى النتيجة السابقة. لكنها حلول تتطلب جرأة عالية من جانب المؤسسات والقوى الدولية، ركيزتها الأساسية، أن الأسد يجب أن يكون خارج حسابات أي مشروع لإعادة إعمار سوريا. اقترح هايدمان أن يسعى الغرب لإعادة إعمار المناطق التي هي خارج سيطرة النظام، اليوم. ويبدو أن الأتراك يراهنون على هكذا مقاربة عبر دعم تشكيل حكومة معارضة قوية وفاعلة. لكن المقاربة الأمريكية التي تراهن على الفصيل الكردي، تؤسس بدورها لبذور صراع أهلي، عرقي، هذه المرة، بسبب تورط ذلك الفصيل الكردي في عمليات تهجير وانتزاع أراضٍ وتغيير ديمغرافي. مما يجعل مقاربته نسخة عن مقاربة نظام الأسد. ومما يجعل أي مسعى لإعادة إعمار شرق وشمال سوريا، بطريقة فعالة، تمهيداً لصراع مجتمعي جديد هناك، أيضاً.

الحل يجب أن يكون بصيغة تنزع المبادرة من قبضة القوى المستبدة. وببساطة، الحل بأن تدعم القوى الدولية، تلك القوى المحلية، من مجالس ومؤسسات على مستوى البلدات والقرى، بعيداً عن أي سيطرة لفصيل مستبد. فذلك قد يكون أفضل السيناريوهات المتاحة. وهو سيناريو يمتلك الأوروبيون تحديداً، قدرة عالية عليه، نظراً للعلاقات الوطيدة التي نسجوها مع المجالس المحلية في المناطق التي خرجت عن سيطرة الأسد.

أما القبول بمقاربة الأسد لإعادة الإعمار، أو استنساخ مقاربة مماثلة مع فصيل كردي في شمال شرق سوريا، فهو تمهيد لسوريا فاشلة، ستبقى صداعاً لمحيطها، وكذلك تهديداً للسلم والأمن العالميين، بأكمله. إذ إن نسخاً جديدة محتملة من تنظيم "الدولة الإسلامية"، لن تكون أمراً مستبعداً في المستقبل القريب.

ترك تعليق

التعليق