نظرية غسان عبود وآخرون.. في إدلب


قبل أسبوعين تقريباً، وتحديداً في 28/11، أطل رجل الأعمال المعارض، ومالك مجموعة "أورينت"، السيد غسان عبود، في فيديو مسجل، تحدث خلاله عن قضية مثيرة للجدل، تتعلق بالطريقين الدوليين اللذين يمران عبر إدلب، (حلب –حماة) و(حلب – اللاذقية)، محذّراً من نية هيئة "تحرير الشام"، تسليم هذين الطريقين للنظام، بدفعٍ من "الضامن" في إشارة إلى تركيا. ودعا عبود سكان المنطقة، من أهالي إدلب، ومن المُهجّرين، إلى عرقلة عملية التسليم هذه، بألا يتم السماح لأي سيارة بعبور الطريقين الدوليين، مهما كان الثمن، إلا بعد إسقاط النظام ورحيل بشار الأسد.

بعد أيام قليلة على بث الفيديو المشار إليه، اندلعت اشتباكات بين هيئة "تحرير الشام"، و"الجبهة الوطنية للتحرير"، استمرت 48 ساعة، وانتهت باتفاق لوقف إطلاق النار. ومن خلال مراجعة مجريات تلك المعركة، يمكن أن يتضح لنا أنها كانت على علاقة وثيقة بالطريقين الدوليين المارين عبر إدلب، إذ تمكنت "تحرير الشام" من خلال تلك المعارك، من السيطرة على نقاط جديدة مطلة على أحد هذين الطريقين.

نشير هنا إلى أن اتفاق سوتشي الشهير، الذي جنّب إدلب حرباً مرتقبة ضدها، قبل بضعة أشهر، ينص في أحد بنوده، على استعادة حركة التجارة عبر الطريقين الدوليين المشار إليهما. وهذا البند بالتحديد ولّد الكثير من القراءات التي انسجمت لتنسج نظرية بوجود مؤامرة لتسليم المنطقة للنظام والروس، لأهداف اقتصادية بصورة رئيسية، تخدم كل من النظام والروس والإيرانيين، وكذلك الأتراك. وحسب تلك النظرية، فإن هيئة "تحرير الشام" عميلة للنظام والروس، أو للممول الخارجي (التركي على الأغلب)، أو في أقل الحدود، هي مخترقة تماماً من مخابرات تلك الأطراف.

هذه النظرية، هي التي قدم من خلالها، غسان عبود، طرحه، الذي دعا في ختامه إلى عدم السماح بتسليم الطرق الدولية، أو تحريك التجارة عليها. لكن، لا يبدو أن هذه النظرية تملك رؤية واضحة لكيفية التعامل مع متطلبين رئيسيين، العلاقة مع الحليف التركي للمعارضة، الذي يشكل العمق الجيوستراتيجي واللوجستي، الذي لا يمكن الاستغناء عنه، مطلقاً، في الوقت الراهن، وحاجات الناس المعيشية والاقتصادية في المناطق المحررة، التي تزداد بؤساً، يوماً تلو الآخر.

وننوه هنا إلى أننا لا نناقش المقدمات التي تقوم عليها النظرية. إذ أننا لسنا في وراد تبرئة ساحة تركيا، أو هيئة "تحرير الشام". ولسنا في الوقت نفسه، في وارد تصنيف هذين الطرفين، بأنهما معاديين لمصالح سكان إدلب والأرياف المجاورة، واللذين يشكلون آخر معاقل الحاضنة الشعبية المناوئة للنظام، بتعداد يقترب من 4 ملايين نسمة.

كما أننا نقرّ ببعض ما تقوم عليه تلك النظرية، من قبيل مثلاً، الفائدة الاقتصادية الكبيرة التي ستجنيها تركيا من فتح الطرق الدولية، من باب الهوى وصولاً إلى معبر نصيب على الحدود الأردنية، الأمر الذي سيتيح وصول الصادرات التركية إلى أسواق الخليج، عبر الطرق البرية، مجدداً، وهو ما يوفر كلفة النقل الجوي أو البحري. وهذا يتطلب إعادة تفعيل الطرق الدولية المارة عبر إدلب.

كما أننا نقرّ دون شك، بالفائدة العظيمة التي سيجنيها اقتصاد النظام، جراء الأمر نفسه. ونحن تابعنا في الفترة القليلة الفائتة، كم راهن النظام على معبر نصيب مع الأردن. كما راهنت عليه حكومة الأردن أيضاً، كما اتضح من السياق السياسي والإعلامي الذي رافق التفاوض باتجاه فتح المعبر.

ما سبق يخدم مصالح روسيا أيضاً، التي تريد تعويم النظام اقتصادياً وسياسياً، لتخفيف العبء الملقى على عاتقها، برعايته. لذا، فإن جانباً مهماً من مقدمات النظرية، يستحق الوقوف عنده بالفعل.

كما أن بعض النتائج التي تخلص إليها النظرية المشار إليها، من قبيل، العمل على عدم تسليم الطرق الدولية للروس أو للنظام، هي محل اتفاق وإقرار من مختلف الأطراف المحسوبة على المعارضة السورية، دون شك.

لكن، بعض الطروحات، من قبيل رفض تحريك التجارة على الطريقين الدوليين، إلا مقابل إزاحة بشار الأسد، تبدو أنها مزاودة، ومبالغة كبيرة. أما وجه المبالغة فيتعلق بقيمة التجارة على هذين الطريقين، في نظر النظام والروس. إذ لا يُعقل أن نتوقع أن تزيح روسيا بشار الأسد، كي تحرك التجارة عبر الطرق الدولية، المارة من إدلب!

أما وجه المزاودة، فتكمن في مطالبة سكان المنطقة بعرقلة حركة التجارة على الطريقين الدوليين. وفي هذا الطرح، الذي قدمه السيد غسان عبود، تجاهل كبير لمتطلبات الوضع المعيشي المتدهور للسكان. ففي إدلب والأرياف المجاورة لها، تكمن حاجة ملحة لنشاط تجاري، كالذي قد تحققه الحركة عبر الطريقين الدوليين. نعم، سيستفيد النظام، وسيستفيد الروس، وسيستفيد الأتراك.. لكن، كذلك سيستفيد سكان المنطقة فائدة عظيمة جراء النشاط التجاري، وعبور الترانزيت الدولي، من قراهم وبلداتهم.

دون شك، يجب رفض سيناريو تسليم الطريقين الدوليين للنظام والروس، رفضاً مطلقاً. كما يجب رفض القبول بالمقترح الروسي، بأن يكون الروس هم المسؤولون عن إدارتهما، رفضاً مطلقاً، أيضاً. لكن، من الواضح أن الأتراك لا يسعون بهذا الاتجاه. هم يسعون لأن يكونوا بالتنسيق مع فصائل المنطقة، المسؤولين عن إدارة هذين الطريقين الدوليين.

ولأهمية التجارة عبر هذين الطريقين، حاولت "تحرير الشام" تعظيم منافعها، عبر السيطرة على نقاط أكثر، مطلة عليهما. وكذلك تفعل فصائل أخرى في إدلب. فمن يسيطر على نقاط تتحكم بالطريقين الدوليين، سيصبح ورقة شائكة، في أي مفاوضات حول فتح الطريقين، يجب إشراكه فيها. وهو ما تعمل عليه "تحرير الشام".

وتعقيباً على ما سبق، تتضح مشكلة رئيسية تواجه مجتمع المعارضة، كحواضن شعبية، وكنخب سياسية وإعلامية، وتتمثل في طروحات حدّية، لا وسطية فيها. كان ذلك مقبولاً حينما كان الحراك الثوري في أوجه، وحتى في المرحلة التالية، التي كان فيها الحراك المسلح متقدماً في مساحات واسعة من التراب السوري. أما اليوم، حيث حُصِر المناوئون للنظام في بقعة صغيرة بالشمال الغربي من البلاد، وسط تهديدات حرب شعواء من الروس والنظام والإيرانيين، لإبادة آخر فصائلهم المسلحة، لا يجوز في الحالة الراهنة، إطلاق المزاودات، أو الحديث بنَفَسٍ مليءٍ بالمبالغة، دون حسٍ واقعي. هل يمكن لتلك الحاضنة الشعبية المناوئة للنظام، المكتظة في إدلب والأرياف المجاورة لها، أن تعيش دون حراك تجاري مع محطيها؟!.. هذا كلام غير واقعي، يدخل في باب المزاودات دون شك. وهو ما ينطبق أيضاً على التحريض ضد تركيا. فنحن لا ننفي أن تركيا تتلمس مصالحها، بالدرجة الأولى، لكن، في الوقت نفسه، فتركيا اليوم، هي العمق الذي يتنفس من خلاله، ذلك الجيب المعارض الصغير، المتبقي في سوريا، فهل يعقل أن نناكف باتجاه إغلاق ذلك المُتنفس؟!

ما الحلول؟.. الجواب في وسطية تجمع بين مصالح الأتراك، وسكان الجيب المعارض، بصورة تضمن مصالح المدنيين في الطرف الأخير. وبما أن المعارضة السورية، للأسف الشديد، فشلت في تشكيل نخبة موحدة، تتكلم باسمها، فلا بديل أمام الحاضنة الشعبية لتلك المعارضة إلا الركون للحليف التركي، وبذل الجهود لتعديل مواقفه وسياساته، بما يقترب من مصالح سكان الجيب المعارض في شمال غرب سوريا. وهو أمر ليس بالعسير، فالأتراك في نهاية المطاف، يرون في ذلك الجيب مشروع امتداد لهم، لا نرى في الأفق الراهن، أفضل منه كخيار مستقبلي للسوريين القابعين هناك.

هل هناك من حلول أو سيناريوهات أخرى، واقعية وقابلة للتنفيذ؟!.. إن تواجدت ليتم طرحها، وإلا، فمن غير المناسب تقديم رؤى حدّية، تحرض على صراع في أوساط أولئك القابعين هناك، بصورة تصب، في نهاية المطاف، في مصلحة النظام وحلفائه.



ترك تعليق

التعليق