التمهيد إعلامياً لنهب البلاد أمنياً... كيف تُغسل العقول قبل تنظيف الجيوب؟

يعمل حيتان النظام اليوم على استثمار الحرب الدائرة في البلاد على أفضل صورة، فهم ملوك وتجّار الحرب والأزمات، ودوائر صنع القرار في قبضتهم، ومؤسسات الدولة مختطفة من جانبهم، فما الذي يمنعهم من نهب المزيد؟

لكن ذلك لا يمنع من تمهيدٍ إعلاميّ بغية غسل عقول المواطنين قبل تنظيف جيوبهم، بقانون حكومي يبرّر مبدأ "الأتاوة"، ويلغي صيغة الدولة الحامية، وهي أبسط مهمات الدولة،....الأمن،..."ألف باء" واجبات الحكومة والدولة في أي بلدٍ في العالم.

حينما ندفع كمواطنين الضرائب المترتبة علينا لصالح الدولة، فإننا ندفعها مقابل الخدمات التي تقدمها تلك الدولة، والتي يأتي الأمن في مقدمتها.....فإن كانت الدولة ستوكّل مهمة الأمن لصالح شركات أمنيّة خاصة....مقابل أن يدفع المواطنون لهذه الشركات "أتاوة"،....فما معنى الضرائب التي ندفعها للدولة إذاً؟

دعنا نبدأ بالقصة من البداية:
كالعادة: مسؤولو حكومة النظام، إما يصمتون أو ينكرون أو يتهجمون، حيال ما يصدر عن جهات خاصة أو عامة في دول الجوار من أرقام بخصوص قضية المستثمرين السوريين الفارين إليهم، جراء الحرب الدائرة في البلاد.

تحوّل جديد: الدولة المختطفة من النظام تقرّ بعجزها عن حماية منشآتها والطرق الحيوية التي تزودها بالسلع والوقود.

واقعيّة مفاجئة: بعد إنكار لأشهر، حكومة النظام تقرر تكليف جهات خاصة بمهمات حفظ أمن منشآت حكومية وخاصة وطرق إمداد لوجستية.

البداية من النفط: فحجة تأمين المحروقات، وخطوط إمداد النفط والغاز، كانت الذريعة الأمثل في نظر مسؤولي حكومة النظام كي تُعتمد لتبرير اللجوء إلى الشركات الأمنيّة الخاصة.

ومتى كان في سوريا شركات أمنية خاصة؟
قد تُفاجأ حينما تكتشف أن رامي مخلوف يمتلك شركات من هذا النوع، وأن الرجل الذي نهب المواطن السوري لأكثر من عقد من الزمان من باب الاتصالات في سيرتيل، قرر أن يتابع نهبه من باب تأمين الأمن.

تمهيد إعلامي: بهذه الغاية يفاجئنا موقع موالٍ للنظام، يُوصف بأنه مقرّب من دوائر القرار فيه، بمادةٍ تُوحي السطور الأولى منها بأن الموقع المذكور قرّر "بق البحصة"....لكن سرعان ما تكتشف في السطور التالية، الغاية.

موقع "سيرياستيبس"ينتقد أداء الحكومة حيال قضية الاستثمارات السورية الفارة من البلاد....

لكن يبدو أن "بق البحصة" هذا ليس في سياق حرية الإعلام المزعومة تحت سقف النظام الحاكم بدمشق، بل هو في سياق تكريس نهجٍ أمنيّ يعمل النظام اليوم على قوننته، عبر سلسلة من القرارات التي يتم التمهيد لها إعلامياً عبر مواد كالتي سنستعرضها.

إقرار مفاجئ

ففي مادة حملت عنوان "الاستثمارات السورية تطير هرباً من تداعيات الأزمة...الحكومة اكتفت بالتشكيك وأرقام الدول الأخرى بدأت تُظهر حجم النزوح"، استعرض الموقع المذكور جملة من الأرقام حول هجرة المستثمرين السوريين خارج البلاد: "نشرت مؤخراً مجلة اقتصادية مصرية قائمة تضم أسماء 37 مستثمراً سورياً طلبوا تخصيصهم بأراض في مصر بغية إقامة مشروعات استثمارية عليها، مشيرة من جانب آخر إلى أن المستثمرين السوريين طالبوا السلطات المصرية تخصيصهم بمليون متر مربع لإنشاء مدينة صناعية سورية، بينما يؤكد رئيس هيئة تشجيع الاستثمار في الأردن أن الشهرين الأخيرين من العام الماضي شهدا تدفق استثمارات سورية تزيد قيمتها على 100 مليون دينار أردني أي ما يعادل 144 مليون دولار، وكذلك تؤكد المعلومات الواردة من الإمارات عن توجه العديد من المستثمرين السوريين لشراء واستثمار أموالهم في قطاع العقارات الذي عاد للتحسن بعد تداعيات الأزمة المالية العالمية....".

وكانت صحيفتنا"اقتصاد"قد نشرت ملفاً من ثلاثة أجزاء حول الاستثمار السوري في مصر، مزوداً بالأرقام وتفاصيل القطاعات التي استهدفها المستثمرون السوريون هناك، كما نشرت أيضاً مادة حول الاستثمارات السورية في الأردن.

دعوة ملغومة إلى كشف الحقائق
وفي سياق "بق البحصة" انتقد الموقع المذكور الأداء الإعلامي لحكومة النظام حيال الأرقام المعلنة من دول الجوار في قضية المستثمرين السوريين المهاجرين إليهم، حيث اكتفت المؤسسات الرسمية بدمشق، إما بإنكار تلك الأرقام دون عرض أرقام بديلة، أو الصمت حيال تلك التقارير التي تؤكد أن سوريا تخسر اليوم عشرات المليارات من الاستثمارات التي كانت مستقرة فيها، وبالتالي مئات آلاف فرص العمل، والمليارات من الليرات التي كانت تضخ في الدورة الاقتصادية للبلاد جراء تلك الاستثمارات.

وينتقد الموقع الموالي للنظام مساعي حكومته للإنكار أو التغطية على تلك النتائج الكارثية لحرب النظام على شعبه، معتبراً أن ما يحدث في البلاد لا يبرر لحكومتها السعي "إلى إخفاء حقيقة تأثيرات الأزمة ونتائجها السلبية على حياة الوطن والمواطن. إذ كان يفترض مثلاً بهيئة الاستثمار السورية أن تعد ملفاً خاصاً أو دراسة اقتصادية علمية منهجية تتضمن توصيفاً حقيقياً لواقع الاستثمارات في سورية خلال الأزمة التي تعيشها البلاد، تتحدث فيها بصريح العبارة عن حجم الاستثمارات السورية التي خرجت من سورية، وتلك التي بقيت وتعرضت لأضرار وخسائر نتيجة الأوضاع السائدة والاقتراحات والتوصيات الواجب على الحكومة اتخاذها في موضوع الاستثمار المحلي بهذه المرحلة.....".

ويستطرد الموقع في انتقاد أداء مؤسسات حكومة النظام، ومن ذلك، تلك التقارير التي عكفت هيئة الاستثمار السورية على إتحاف المواطن السوري بها حول عشرات المشاريع الاستثمارية المشملة تارة والمنفذة تارة أخرى، مستخفةً بعقل المواطن، يقول الموقع: "....فمن هو المستثمر الذي سينفق ملايين الليرات في وقت لا يضمن فيه أمن مشروعه ولا يجد مستلزمات الإنتاج ومنافذ التسويق المناسبة....الخ...".

هنا تجد الغاية
فعندما نصل إلى الحلول المطروحة من جانب الموقع الالكتروني المذكور لمعالجة هذه القضية نكتشف الغاية من المادة بأكملها، فالموقع يدعو إلى الاعتراف بالوقائع الموجودة على الأرض وعدم إنكارها، لا من أجل توصيف الطريق لتجاوز هذه الأزمة، بل لتبرير النهج الذي قرر النظام أن يعمل من خلاله على المكشوف، لكن بعد إخضاعه لروتوشات مؤسسات الدولة المختطفة من جانبه، عبر قوننته...

فإحدى أبرز الحلول التي طرحها الموقع هو العمل على حل مشكلات المستثمرين السوريين وتلبية متطلباتهم، وأبرزها الأمن، وذلك عبر الاستعانة بـ "...وحدات مشابهة لقوات الدفاع الوطني التي شكلت مؤخراً، بحيث تتولى هذه الوحدات حماية المنشآت الخاصة والمستثمرين المحليين...".


وهكذا يبدو أن الموقع المذكور قرّر رفع صوته عاليا ًحيال أداء حكومة نظامه الإعلامي والاقتصادي، كي يصب الحلول ختاماً في خانة ما يخدم مصالح النظام، ومن ذلك، تبرير تشكيل وحدات "الشبيحة" والذي يعمل النظام حالياً على قوننتها، والأخطر من ذلك، سنّ قانون يتيح لمؤسسات الدولة الاستعانة بشركات أمنية، حسب ما تقرر مؤخراً في جلسات حكومة النظام.

فحكومة النظام قررت التعاقد مع شركات أمنية خاصة لتوفير حماية خطوط النفط التي تعرضت للعديد من الهجمات مؤخراً، بحيث تشارك هذه الشركات بحصة تقدر بخمسة بالمائة مما يمر من النفط.

وهو باب جديد للفساد ونهب الثروات العامة من جانب رجالات السلطة النافذين مثل رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد الذي لديه شركة للخدمات الأمنية شكلها من الشبيحة وعناصر الموالاة أو غيره من رجالات السلطة الفاسدين.

ويبدو أن النظام يعمل إعلامياً على التمهيد لقرار جديد، يتيح للفاسدين والشبيحة وحاملي السلاح من أنصار النظام العمل وفق مبدأ "الأتاوة"، أي حماية المستثمرين ومنشآتهم مقابل نسبة من الأرباح، وهذه الشركات كما ذكرنا هي شركات مملوكة لرجالات السلطة النافذين، أو ربما، قد يكون ذلك تمهيداً لإدخال شركات أمنية من عراقيين وإيرانيين ولبنانيين يقاتلون لصالح النظام، تحت ستار القانون، وبحجة حماية المنشآت والمستثمرين.

ويبقى السؤال: أيّ مستثمر ذلك الذي قد يرغب في الاستثمار ببلدٍ تُوكِل دولته مهمة حفظ الأمن لشركات خاصة ورجال مدنيين مسلحين في ظل عجز مؤسساتها الأمنية والعسكرية؟

وهو ما يطرح سؤالاً آخر أيضاً: أليس الأفضل عزل ومحاسبة المسؤولين عن فشل الأجهزة الأمنية في حماية المنشآت والمواطنين بدلاً من الاستعانة بشركات أمنية خاصة ورجال مدنيين مسلحين لتحقيق غاية الأمن؟

وفي الختام، يبدو أن خير وصفٍ يمكن إطلاقه على النظام في سوريا، هو "المستثمر بالفشل"...ففشل النظام أمنياً وعسكرياً، بات باباً للاستثمار، ونهب البلاد وخيراتها، من نفط، ومن رؤوس أموال خاصة، ليبقى رموزه على كراسيهم، دون أي دورٍ فعلي يقومون به لخدمة الدولة والوطن، إلا "الممانعة والمقاومة" الزائفتين، واللتين لا تظهران إلا على الشعب السوري، لتختفيا وقت المواجهة مع العدو

ترك تعليق

التعليق