ما هي أسباب صمود الاقتصاد في ظل حرب النظام على شعبه ؟


 دعم الليرة قضم 50% من احتياطيات المصرف المركزي السوري

إيران تمول النظام بسخاء على حساب اقتصادها الغارق في أزمة العقوبات


العراق كفيل بضخ كميات من العملة الصعبة في شرايين اقتصاد النظام


 ازدهار الاقتصاد المبني على السرقات ..والشبيحة يبعيون "الطرقات"
 
كيف يعمل الاقتصاد السوري في ظل الحرب الدائرة اليوم في البلاد؟
 للوهلة الأولى يظن المتابع للشأن السوري، أن الاقتصاد السوري على شفير الانهيار...ففي بلد مزقته حرب النظام على شعبه، في ظل دمار غير مسبوق في البنية التحتية، وأضرار هائلة طالت أبرز قطاعات الإنتاج من زراعة وصناعة وغيرها، وركود يقارب الانهيار يطال قطاع السياحة،...يُفاجَأ المراقب أن دورة الاقتصاد ما تزال جارية، وإن بصور مشوّهة، والنظام بدمشق ما يزال قادراً على دفع رواتب معظم موظفيه، وتمويل آلته الحربية الشرسة، وتمويل شبيحته وعناصر المرتزقة القادمين إليه، كما أن النظام بدمشق ما يزال قادراً على ضبط تردي قيمة الليرة السورية حتى الآن، فرغم التراجع المتواتر للعملة المحلية خلال السنتين الماضيتين، إلا أن انخفاض قيمتها كان أقل من التوقعات التي راهنت على انهيارها السريع،....وفي الوقت نفسه ما تزال العملة الصعبة تسري في أوردة الاقتصاد وشرايينه، ومن مصادر غير واضحة المعالم بالنسبة للكثيرين.
 
فكيف يعمل الاقتصاد السوري اليوم؟
 
يجيب المختصون إنه اقتصاد الحرب...وآخرون يستخدمون تعبيراً غريباً على المتابع العادي "التخادم المتبادل بين المتحاربين"...بينما يصفه آخرون ب "اقتصاد حرب أهلية" قادر على البقاء بصيغته المشوّهة ربما لسنوات على غرار ما حدث في لبنان بين عامي 1975-1990.


 المراهنة على انهيار الليرة السورية


 منذ بداية الحراك الثوري، واستخدام النظام القوة المفرطة ضد معارضيه والثائرين عليه، توقع مراقبون انهياراً لقيمة العملة المحلية...والانهيار هنا لا يعني فقط التراجع البطيء في قيمة العملة بل التردي في قيمتها بصورة كبيرة وسريعة، بمئات الليرات، وليس بعشرات الليرات كما يحصل اليوم.
 وكمثال على هذه المراهنة، تنقل رويترز في نوفمبر- تشرين الثاني 2012 توقعات الخبير الاقتصادي السوري سمير سعيفان الذي عمل لفترة في ظل مركز دراسات يتبع لأمن الدولة بدمشق، قبل أن يخرج عن النظام بعد انطلاق الثورة، يقول سعيفان: "إذا لم يحصلوا على قروض كافية من حلفائهم في روسيا وإيران سيطبعون النقود وسيقفز سعر الدولار من مئة إلى 200 و300 ليرة."
 وأضاف "الدولة تخشى من طبع النقود لأن ذلك يوجد قنبلة اجتماعية موقوتة...لكنها قد تضطر إلى ذلك لدفع رواتب الجيش."
 
ما يزال الكثير من المراقبين المتخصصين يتوقعون، كما يفعل سعيفان، لحظة الانهيار الكبير، حينما يصبح الدولار الواحد بمئات الليرات السورية، لكن هؤلاء رغم إصرارهم على أن تلك اللحظة آتية لا محالة، إلا أنهم لا يُخفون تعجّبهم من أنها تأخرت أكثر بكثير مما توقعوا....فما هي الأسباب؟
 
تمويل الخليج للمعارضة وتدخّل المركزي...عاملان في إحياء الليرة


في مادة بعنوان "سوريا: نشوء اقتصاد حرب يطيل عمر النزاع" نشره موقع "برس نت" بتاريخ 24/12/2012 جاء ان أحد أسباب صمود الليرة السورية حتى اليوم: "لا يمكن دفع رواتب المقاتلين في صفوف المعارضة السورية إلا بعد تبديل الدولارات القادمة من الخارج بليرات سورية وهذا ما يفعله القادة الميدانيون، وهم بذلك يدعمون الليرة السورية بشكل كبير، وفي غالب الأحيان يتم «استلام وتسليم مبالغ الدولارت أو الليرات السورية» عبر تواصل بين المناطق المتحاربة."
 
في هذا السياق لا يستطيع أحد أن ينكر دور التدخل المتكررللمصرف المركزي السوري في ضبط عملية تردي قيمة الليرة، لكن هذا التدخل لوحده غير كافٍ، بل في الحقيقة يبدو أن الطرف المغمور من جبل جليد دعم الليرة السورية يتعلّق بـ "...المساعدات النقدية التي تصل ليس فقط من دول الخليج والغرب الداعمين للمعارضة بل أيضاً من قبل حلفاء النظام الذين يضخون أموالاً في الحلقة النقدية في البلاد....".
 
دعم الخليج للمعارضة يصب في صالح دعم الليرة السورية، عبر تحويل الدولار إلى ليرة لتمويل نشاطات وحياة المقاتلين، هذا جانب، الجانب الآخر رجال الأعمال السوريين الفارين خارج البلاد: "...الذين هرَّبوا أموالهم إلى الخارج أكان في لبنان أم في قبرص أو دول الخليج خصوصاً دولة الإمارات يضخون من حين لآخر مبالغ في الدورة الاقتصادية في عمليات تجارية أو عقارية كما يحدث في كل الدول التي شهدت حروباً أهلية وثورات...."، من ذلك مثلاً تمويل هؤلاء لصفقات شراء عقارات لسوريين يريدون مغادرة البلاد بسبب تدهور الأوضاع الأمنية، وبأسعار بخسة، تحقق لهم أرباحاً كبيرة.
 
ينقل موقع "برس نت" عن أحد رجال الأعمال قوله: "...العمليات التجارية ومن ضمنها عمليات صرافة ضخمة لا تزال تجري بشكل يومي بين المناطق التي يسيطر عليها المتقاتلون. فيتم «شحن» الليرات السورية من دمشق نحو الشمال ليتم تبديلها بالدولارات الآتية من الخارج خصوصاً من دول الخليج. وتعود الدولارات من الشمال إلى الجنوب والغرب السوري والعاصمة لتشكل قوة ضاربة للبنك المركزي ليتدخل في الأسواق كلما تراجع سعر صرف الليرة، حتى لا يكون هذا مؤشراً على انهيار النظام، وكذلك الأمر بالنسبة للمساعدات التي تصل النظام من حلفاءه بالعملة الصعبة....".
 
ورغم أهمية تدخّل المركزي لضبط تراجع الليرة السورية، إلا أن هذا التدخّل سرّع من نزيف الاحتياطي الأجنبي لدى المركزي، والذي تختلف التقديرات حول تراجعه، لكن أكثر التقديرات تفاؤلاً تؤكّد أن 50% من احتياطات المركزي قد قُضمت لصالح دعم الليرة السورية.
 
مثلث إحياء اقتصاد النظام


 جانب آخر من جوانب بث الحياة في شرايين الاقتصاد في ظل حرب النظام الدائرة اليوم، ذلك الجانب يتعلّق بمثلث الحلفاء الأوثق للنظام، أولئك الذين يمدونه بإكسير حياته السياسية والاقتصادية والعسكرية، روسيا وإيران والعراق.
 
روسيا تشتري من النظام سلعاً لتبيعها لصالحه بصورة غير مُعلنة إلى أطراف ثالثة، وتبيع له حاجته من السلع المفقودة في السوق السورية، فتستفيد وتُفيد.
 إيران تموّل النظام بسخاء غير مسبوق، على حساب اقتصادها الغارق بأزمة العقوبات، وعلى حساب عملتها المترنّحة هي الأخرى بفعل الضغط الاقتصادي الغربي عليها، لكن رغم ذلك فإن سخاء إيران في دعم النظام السوري مالياً يقترب من انعدام الجدوى الاقتصادية، فإن كانت روسيا تربح مالياً في صفقات دعمها للنظام، فإن إيران تمنح النظام سيولة مالية تجاوز المعلن منها حتى الآن عدة مليارات من الدولارات، على شكل تسهيلات ائتمانية لدعم قطاعه المصرفي العام، ودعم عملته المحلية، وتسمح له بتصدير بضائعه وسلعه معفاة من الرسوم الجمركية إلى أسواقها، وتستثمر في قطاعات لا يعتقد أي اقتصادي عاقل أنها ستجني أرباحاً في ظل الحرب الدائرة في البلاد. أي أن إيران تحرق أموالها لإبقاء نيران حرب النظام على شعبه ملتهبة.
 أما العراق فيكتفي بفتح سوقه الضخمة القادرة على استيعاب كميات هائلة من السلع أمام الصادرات السورية. وهو كفيل بضخ كميات هائلة من العملة الصعبة في شرايين الاقتصاد السوري.
 
المعارضة حينما تُحيي اقتصاد النظام


 جانب جديد، قلّما ينتبه إليه أحد في أسباب صمود الاقتصاد في ظل الحرب الدائرة اليوم، ففي مقال للكاتب السوري اليساري، ورد كاسوحة، بعنوان "اقتصاد الحرب الأهلية: سوريا ولبنان نموذجاً" في جريدة الأخبار اللبنانية (5-12-2012)، يجيب الكاتب عن التساؤل حول سرّ صمود النظام السوري اقتصادياً، فيقول:".... هنالك في اقتصاد الحروب قاعدة اسمها التخادم المتبادل بين طرفي الصراع. وما يفعله التدخّل الخارجي هو تنظيم هذا التخادم على نحو يجعل منه الأساس لخدمة مشروع الحرب لا العكس. فمثلاً لا تزال مؤسّسات الدولة هنا تدفع رواتب الموظفين المنتمين إلى البيئات الحاضنة للحراك. يستثنى من ذلك طبعاً حملة السلاح الذين فصلوا من وظائفهم، وباتوا يتقاضون بدل أجرهم الجديد من مموّلي وسماسرة الحرب. في المقابل يحافظ هؤلاء على بقاء الدورة الاقتصادية في أماكن هيمنتهم ولو في حدّها الأدنى. وهذا يتطلب الإبقاء على شعرة معاوية بينهم وبين النظام الذي يقاتلونه بضراوة. أيضاً هنالك العمولات التي يدفعونها لأطراف استخبارية (رسمية) بعينها لقاء تسهيل عملية تهريب السلاح وأشياء أخرى لا نعرف عنها الكثير اليوم. كلّ هذا الفساد الموازي قائم ويحدّثونك عن فقدان النظام للموارد الأساسية التي تغذّي آلته الحربية الفتاكة! طبعاً ما يتدفّق على المعارضة من أموال طائلة لا تجري الاستفادة منه كما يفعل النظام مع الأموال التي تتدفّق عليه من إيران والعراق وباقي الحلفاء. وهذا أيضاً من الأسباب التي تفسّر قدرة ماكينة النظام على المجابهة، رغم الخسائر الفادحة التي لحقت بها في الآونة الأخيرة......".
 
شبكات الفساد والتهريب


 في نفس السياق، يظهر عامل آخر يتمثّل في شبكات الفساد وتهريب السلاح ومواد التدفئة ومشتقات النفط والمواد والسلع الأخرى الضرورية لاستمرار الصراع والحياة في نفس الوقت، وهي شبكات تجري في عروقها جوانب هامة من التمويل المقدّم للطرفين المتصارعين، ومن بينهما النظام.
 
اقتصاديات بديلة


 وفي مادة حول الأوضاع الاقتصادية في سورية نشرها موقع القدس العربي بتاريخ 11/12/2012، يقول جهاد اليازجي، بعد 21 شهراً من الثورة وخروج أراض عن سيطرة النظام، لم يعد في الإمكان الحديث عن اقتصاد سوري واحد. هناك فسيفساء اقتصادية.
 فقد نشأت اقتصاديات بديلة في سوريا، يمكن لنا أن نلحظ في هذا البلد اليوم أنظمة عيش مستحدثة مع دورات اقتصادية موازية نشأت من أموال الخطف والسلب، وبيروقراطية رسمية مستمرة في استيفاء الرسوم ودفع رواتب الموظفين.
 ومن ذلك، ما تنقله صحيفة القدس العربي عن ناشطين في الداخل السوري حول "...الاقتصاد المبني على السرقات، المزدهر اليوم، ففي حمص، نشأ في حي النزهة سوق يتم فيه بيع كل ما سرق في المناطق السنية التي انتزعها الجيش من المقاتلين المعارضين، بحسب ما يروي أحد السكان، و بأسعار بخسة جداً. وهذا المشهد لا ينحصر على حمص بل يتكرر في مناطق ومحافظات أخرى...."
 ويبيع الشبيحة الموالون للنظام طرقات، بمعنى أنهم يتقاضون أموالاً للسماح لأشخاص بسرقة منازل في شوارع معينة. ويتحدث صحافي عن مصادرة منازل الشبيحة في الشمال حيث تنتشر المجموعات المقاتلة المعارضة. كما تم الاستيلاء على سيارات فخمة يتم بيعها في السوق السوداء، بعد تغيير لوحاتها.
 كما أن عمليات الخطف لقاء فديات منتشرة في كل المناطق تقريباً، وقد تدنت قيمة الفدية أخيراً لأن رجال الأعمال غادروا المنطقة، ومجموعات مسلحة عديدة متورطة في عمليات الخطف هذه. أمام بعض الفديات التي كانت تطلب في الأشهر الماضية لقاء الإفراج عن مخطوفين ينتمون إلى عائلات ثرية، كان يمكن أن تصل إلى 120 ألف دولار. أما الآن، فقد تراجعت إلى حوالي عشرة آلاف دولار. ويُضاف إلى ذلك، تقاضي خوات على الشاحنات والمؤسسات.
 ويقول صاحب شركة نقل في حلب: لدى مرورنا على الطريق، يجب أن ندفع على الحواجز التابعة للعسكريين والأخرى التابعة للثوار ليسمح لنا بالمرور. وتزدهر حركة التهريب بين تركيا وسوريا منذ أن سيطر المقاتلون المعارضون على معظم المعابر الحدودية مع تركيا."
 
اقتصاد الوسطاء
 وفي وسط كل هذه المعمعة، ينتعش اقتصاد الوسطاء، من ذلك مكاتب تحويل الأموال، التي حققت في سوريا في الفترة الأخيرة أرباحاً غير مسبوقة، "إذ تتقاضى نسبة 4 في الألف على المبالغ المرسلة من منطقة إلى أخرى"، حسب صحيفة القدس العربي.
 
اقتصاد حرب

 هل يعني ما سبق أن الاقتصاد في سوريا يعيش دورته الطبيعية؟...أو أنه يخدم غاياته الأساسية؟...دون شك لا، فهو اليوم اقتصاد حرب بكل ما تعنيه الكلمة، اقتصاد تنحصر أهداف النظام الأساسية منه في: ضمان تمويل آلته الحربية ومقاتليه، وضمان تمويل موظفي الدولة كي يحافظ على ستار "الشرعية" الذي يتدثر به خشية الانكشاف التام لعورته، وضمان الحد الأدنى لمعيشة السوريين الخاضعين لسيطرته خشية حصول اضطرابات اجتماعية تقوّض استقرار مناطقه "الآمنة"، التي تشكّل مجال ارتكازه للاستمرار في حربه ضد باقي الشعب السوري في باقي المناطق التي باتت خارجة عن سيطرته.
 
الاقتصاد السوري اليوم، ليس اقتصاداً بالمعنى المتعارف عليه، فالزراعة فيه في أسوأ حالاتها، والصناعة في كارثة حقيقية، أما السياحة فدخلت في غيبوبة ملحوظة، وتبقى التجارة والخدمات القطاعين الوحيدين الناشطين في اقتصاد بات وقوداً لحرب مستعرة، لا تظهر حتى الآن المؤشرات الكافية لتوقّع نهايتها.
 
ويبقى المواطن السوري، الذي فقد عمله، أو مكان سكنه، أو بدأ يصرف مدخراته، أو نزح خارج بلده....الضحية الأولى والأخيرة لنيران حربٍ قرّر طاغيةٌ شنّها على شعبه لأنه قال له "ارحل".

ترك تعليق

التعليق