"الحل الأمني لليرة"...بروباغندا النظام لتخويف السوريين في المشهد الأخير لعملتهم المحلية

 


تتعاضد المؤشرات في الأيام الأخيرة على أن مصرف سوريا المركزي بات عاجزاً أمام انهيار مرتقب لليرة السورية.
 تلك المؤسسة التي كانت حتى الآن أداة الأسد النقدية في ضبط تدهور الليرة السورية للحفاظ على حد أدنى مقبول للمعيشة في ظل النظام تجنباً لتفاقم الغضبة الشعبية من كل الجوانب، يبدو أنها وصلت إلى الحدود القصوى للممكنات المتاحة أمامها.

 بطبيعة الحال، لا يمكن الجزم بأن الأمر بات في خواتيمه، فالليرة السورية ما تزال في تذبذب مثير للحيرة، بين تراجع سريع الوتيرة، يتلوه ارتفاع مضبوط، ليعود التراجع مرة أخرى ويسيطر على المشهد.

 هذه ليست المرة الأولى التي تهتز فيها العملة المحلية السورية بهذه الصورة في السنتين الأخيرتين، ولا بد أننا جميعاً نذكر الهزّة التي تلقتها الليرة في مثل هذا الوقت تقريباً من العام الماضي، حيث كسرت حينها لأول مرة حاجز المئة أمام الدولار.

 لكن المشهد اليوم يحمل مؤشرات مختلفة، جديدة، أبرزها ما أوردته "اقتصاد" من مؤشرات عن بدء "دولرة" التعاملات التجارية في العاصمة دمشق، حيث باتت الليرة السورية تفتقد لمقومات الثقة حتى على صعيد التجارة، خاصة إن كانت مبنية على اتفاقات آجلة، فتذبذب العملة المحلية بات مصدراً رئيسياً لاضطراب العمل التجاري وتفاقم الخلافات في مسألة تقييم السلع، لذا بدأ الحل المتوقع في هذه الحالة يسلك طريقه بصورة "فطرية"، الانتقال إلى الدولار، لضمان استقرار المصالح والقيم.

 مؤشر آخر يثبت أن المشهد هذه المرة مختلف حقاً، يتمثّل ذلك في ساسية مصرف سوريا المركزي اليوم.
فهذه المؤسسة التي فاجأت، في مشهد العام المنصرم، الكثير من المراقبين حينما دخلت خط المضاربة على الدولار والليرة عبر بيع مبالغ محددة بملايين الدولارات باتفاقات محددة مع بعض مكاتب الصرافة تقتضي أن تبيع تلك المكاتب الدولار بسعر متفق عليه مع المركزي، فنجح الأخير في ضبط تدهور الليرة، وكانت خطوة، للأمانة، ذكية، كحل عاجل، لكنها كانت، للأمانة أيضاً، متهوّرة كحل بعيد المدى، فكانت نتيجتها استنزاف احتياطي المركزي من العملات الأجنبية.

 يبدو أن صانع القرار المالي في سوريا كان يراهن في مطلع العام المنصرم على حل سياسي أو حسم عسكري ينهي الأزمة التي هي السبب الطبيعي لتدهور الليرة السورية، وبناءً على توقعاته تلك، قامر بمئات ملايين الدولارات من احتياطي البلاد في سبيل ضبط تدهور الليرة، فنجح حينها، لكنه اليوم يقف حائراً، على ما يبدو، بعد أن أصبح عاجزاً عن التدخل بقوة كما فعل العام الماضي.

 ما يزال مسؤولو النظام الرسميون ينكرون تقلص الاحتياطي الأجنبي في المصرف المركزي، لكن حديث حاكم المصرف الأخير عن حرب تشن على الليرة، مشبهاً المقامرين فيها بـ "حاملي السلاح ضد الجيش"، وتوجهه نحو المواطن بخطاب شاعري يخاطب فيه "العِشرة" بين المواطن والليرة، ليقول له "إن تخليت عن الليرة تخلت عنك"....هكذا خطاب من المركزي يؤكد عجزه عن التدخل بفاعلية.

 لم يطرح حاكم المصرف في حفنة "إجراءاته" لإنقاذ الليرة أخيراً، إلا خطاباً شاعرياً مُترعاً بالشعارات التي لا تراعي معيشة المواطن ومصالحه، وكأنها تقول له "مُت كي تحيا الليرة ويحيا الأسد"، مضافاً إلى ذلك إجراءٌ مالي يثبت قلّة حيلة المركزي، عبر الحديث عن إصدار شهادات إيداع بفوائد مرتفعة لتشجيع السوريين على إدخار أموالهم بالليرة في البنوك السورية.

 إجراء المركزي المذكور لقِي صدمة من جانب خبراء من داخل البلاد، تحدثوا عن عبثية هذا الإجراء، فهو لا يُراعي الميل الفطري للإنسان في الحفاظ على ما يملك، فنجد مثلاً صحيفة موالية للنظام، من قبيل الوطن السورية، تنقل عن باحث اقتصادي تشكيكه بجدوى إجراء شهادات الإيداع، ويتساءل الباحث في الصحيفة المذكورة "من يضارب على الليرة السورية يحقق أرباحاً كبيرة، فهل يستبدل المضارب مضاربته بشهادات الإيداع التي أعلن عنها حاكم المركزي؟". ويضيف الباحث: "لماذا هذه الالتفافة الطويلة بالتأثير في السيولة لتؤثر في طلب القطع، ثم بدورها على المضاربة كي نصل في النهاية إلى إمكانية التأثير في سعر الصرف؟."

 تساؤل الباحث المشار إليه آنفاً، كان تساؤلاً مبطناً لحاكم المركزي السوري، يقول فيه الرجل، على ما يبدو، بنوع من التقيّة: ألم يبقَ لديكم دولارات للتدخل؟

 يمكن للمدقق في الصحف والمواقع الموالية أن يجد آراءً لباحثين وخبراء أكثر حدّة، تثبت إدراك هؤلاء لحقيقة الأمر، فيمكن لك مثلاً أن تجد رأياً لأحدهم يدعو إلى "حل أمني لليرة السورية"، يقول صاحب هذا الرأي: "ننتظر من هذه السلطة أن تقول أوعزنا إلى السلطات المختصة لاعتقال الشخص الفلاني والفلاني لأن أيديهم تلطخت بدماء الشعب السوري، ويجب أن يُلاحقوا، باعتبار أن جزءاً مهماً من المشكلة هو نتيجة تلاعب التجار ومضاربتهم وليست عوامل العرض والطلب التي تحدد هذا الارتفاع في الليرة”.

 دعوة لافتة وصريحة لاعتقال بعض المضاربين بالليرة السورية. المشكلة التي تواجه هذه الدعوة لها شقان: الأول- بنيوي: فالكثير من المتعاملين في السوق السوداء يُسرّون لك الحديث بأن أبرز المضاربين في السوق هم من "عضمة الرقبة" عند النظام، مسؤولين أو أقارب لمسؤولين أو رؤوس أموال يتمتعون بالحظوة عند رأس الهرم في النظام ودائرته الضيقة، أما الشق الثاني فإجرائي: فهل يمتلك النظام الاحتياطي الكافي من "رجال الأمن" للدخول على خط الحرب في السوق السوداء، في ظل ما تواجهه مؤسسات أمن النظام من جبهات ضد مناوئيها.

 تصريحات أديب ميالة الأخيرة تشي بشيء من التلميح إلى خيار "الحل الأمني لليرة السورية"، لكن لا نعرف هل هو تلميح "العاجز"، أم "تلميح" القاصد؟...هل يعتزم المركزي فعلاً أن يسلم ملف الليرة السورية إلى أجهزة الأمن متبعاً بذلك درب رأس هرم النظام، الذي سلّم كل مقدرات البلاد ومفاصل اتخاذ القرار فيه لأجهزة الأمن، فكانت الكارثة التي نحياها اليوم؟

 وإن كان ذلك ما ينويه المركزي حقاً...هل سيُطاوعه متخذ القرار في رأس الهرم بدمشق، وهو يعلم أن الأهل والعشيرة والأصدقاء المقربين اتخذوها "تجرة" في زمن الأزمة، ليزيدوا من حجوم أرصدتهم المتراكمة في بنوك الإمارات وروسيا وإيران؟
 وإذا حصل ذلك....هل يمكن لأجهزة أمن النظام المُترعة بالفساد أن تنجح في لجم تجار الأزمة، وهم حلفاء النظام ورموز الأمن فيه؟.....وكم سيدفع التجار لضباط الأمن لتمييع القضية؟....لتستمر لعبة "حاميها حراميها"، وتستمر لعبة التجارة بأزمة الوطن، تحت شعار "الصمود والممانعة"؟
 
حقيقة الأمر أن النظام كان يملك عبر أداته المالية "المركزي السوري" وسيلة رئيسية وحيدة لضبط تدهور الليرة، وهو احتياطي العملات الأجنبية الذي استخدم المركزي جزءاً كبيراً منه في سياسة قصيرة النظر، لضبط تدهور الليرة خلال السنة الفائتة.

 أما الآن، فليس لدى المركزي خيارات متاحة كثيرة، فهو يصرف مبالغ طائلة لتمويل المستوردات للتجار بسعر المركزي للدولار، كي يحافظ على أسعار السلع بعيدةً عن قفزات تضخم كارثية، وعدم تدخل المركزي لضبط تدهور الليرة حتى الآن عبر طرح الدولار في السوق من احتياطه، يثبت أن ذلك الاحتياطي من العملات الأجنبية بات عاجزاً عن حمل "بطيختين بإيد وحدة"، فتمويل المستوردات أَولى، وأقل كلفة، من ضبط الليرة، على ما يبدو في نظر المركزي.

 لذلك لم يجد المركزي اليوم، بتوجيه على ما يبدو من عقول أمنيّة، إلا طرح "الحل الأمني لليرة السورية" كبروباغندا لتخويف السوريين البسطاء من تحويل مدخراتهم الباقية إلى الدولار، بعد أن هرّبت "القطط الكبيرة" ثرواتها إلى الخارج، ولم يبقَ لدى المركزي إلا أن يتبع أدوات نفسية لإيهام المواطن البسيط بأن النظام ما يزال ممسكاً بزمام الأمور المالية، وأنه سيتدخل بقسوة ليردع المضاربين "فلا تجازف بليرتك".

 هي عادة مسؤولينا، الاستخفاف بعقل المواطن السوري الذي أثبت أنه أكثر حنكة من "نخبته"، فهو يعرف "البير وغطاه"، ويعلم تماماً أن المتلاعبين بالسوق السوداء، هم أزلام النظام من جهة، وأن النظام العاجز عن اقتحام داريا على بعد عشرات الأمتار من أكثر أحياء دمشق حساسية أمنيّة، لن يستطيع أن يضبط المضاربين بالليرة عبر حلول أمنيّة، من جهة أخرى.

 وهكذا يبدو أن مشهد الليرة السورية يُشارف على الانتهاء، وأن هذه العملة العزيزة على قلوب السوريين تذوي لتصبح ربما في القريب العاجل، عبئاً على كل من يحملها، بعد أن قضمت جزءاً كبيراً من قيمة ما كان يملكه السوريون في السنتين الأخيرتين.

ترك تعليق

التعليق