حلب والماسونية في نادٍ عائلي


عندما كنت أمر بجواره وأنا أسير من بيت أهلي إلى بيت جدتي في (الميدان)، مخترقاً حديقة الصاخور، كان يلفت نظري تجمع أعداد كبيرة من السيارات الفخمة أمامه، منظره الخارجي لا يوحي بأنه من الممكن أن يتسع لأعداد كبيرة، حتى أنني كنت أظنه صالة أفراح، كان هذا هو المقر الصيفي لنادي حلب العائلي (الاجتماعي)، أما في الشتاء فلا يمكن أن تمر من شارع (قسطاكي الحمصي) في حي العزيزية، دون أن يلفت نظرك بناء مميز على بابه تعامد المسطرة المعمارية مع الفرجار الهندسي، إنه المقر الشتوي لنادي حلب العائلي، نادي الماسونية في حلب.

من المعروف في إطار نظام البعث الدور الذي كان يُمنح ظاهرياً للمؤسسة الحزبية في الترشيح للمناصب العامة، وكذلك في إطار ما كان يُسمى بالجبهة الوطنية التقدمية، حيث كان يمنح للأجهزة الأمنية دور في تدقيق ملفات المرشحين ولعب دورٍ ما في ذلك.

ومن المعروف أيضاً ما كان يُذيعه الحزب القائد للدولة والمجتمع من شعارات الاشتراكية، والتنديد بالبرجوازية التي كانت تقدم على أنها مظهر من مظاهر الرجعية.

في سوريا بشكل عام، وفي حلب بشكل خاص، كان ثمة تأثير أخذ يتزايد عبر عشرات السنين بعدما سمي بالحركة التصحيحية، لفئة جديدة من رجال الأعمال وجماعات المصالح التجارية والصناعية، فيما يشبه إعادة إحياء للحركة البرجوازية (الرجعية حسب مفاهيم البعث)، بعدما سحق البعث اليساري وعبد الناصر قبله، كبريات العائلات المسلمة السنية، عبر التأميم، بذريعة تطبيق النظام الاشتراكي.

بدأ تأثير هذه الفئة ينتقل إلى مؤسسات الدولة بشكل فاعل ومؤثر منذ بداية الثمانينيات، حيث بدأ النظام يقيم اشتراكيته الخاصة به مع تلك الفئة، إنها اشتراكية السلطة والمال، والنفوذ المتبادل والمنسق على حساب الدولة ومصالح الشعب السوري، وبدا تأثير ذلك فيما يشبه (اليد الخفية) من وراء ستار الحزب ومؤسسات الدولة وأجهزته الأمنية، وأيضاً جماهير الشعب الكادحة!!

ترأس تلك الفئة في دمشق (بدر الدين الشلاح)، الذي لعب دوراً أساسياً في منع انتقال حالة العصيان المدني الشهير إلى قلب العاصمة خلال أحداث الثمانينيات، منبهاً النظام حينها إلى الدور المفصلي الذي يمكن أن تلعبه تلك الفئة في أيام الشدائد.

 (بدر الدين) ورَّث كرسيه لابنه (راتب). أما في حلب –وكما هي العادة –كان ثمة عدة رؤوس، لذلك كان لابد من مؤطر لها بأسلوب نوعي فريد، وعلى ما يبدو كان نادي حلب العائلي إطاراً مقبولاً إلى حدٍ جيد، حيث كان يتمتع بواجهة توحي بأهمية خاصة عبر شخص قانوني وبرلماني مميز هو (عبد الله موصللي)، ولكن دون أن تعرف مدى أهميته ودوره في التأثير الجديد للرجعية المتجددة عبر شخص آخر يلعب دور المحرك "الدينامو" في بلد غدا فيه كل ما تحت الشعارات يُباع ويشترى؛ كان يشغل هذا الموقع في فترة من الفترات شخص اسمه (جورج إنطاكي). لكل منهما دور مختلف، ولكن في إطار ميدان واحد وعلى مستوىً عالٍ من التكامل والتنسيق.

(عبد الله موصللي)، الحائز على شهادة الحقوق من جامعة (القديس يوسف اليسوعي) في عام /1947/، كان عراباً ومرجعاً، ليس قانونياً وحسب، وإنما كعارف في البيئة الاجتماعية لحلب في مرحلة الانقضاض على النفوذ والسلطة والمال الذي كانت تتمتع به العائلات المسلمة السنية الحلبية، فكان رئيس قسم (العطوى) بحلب في الاتحاد القومي في دولة الوحدة مع مصر خلال أعوامها /1958-1961/، جنباً إلى جنب مع كونه (الخازن) في المكتب التنفيذي للاتحاد القومي في محافظة حلب، التي كانت ميدان نشاط التأميم الناصري، أضف إلى كونه عضو مجلس الأمة لدولة الوحدة خلال عامي /1960-1961/.

وبعد انهيار الوحدة وجد مكاناً له كأمين سر نقابة المحامين في عام /1961/ ولعدة سنوات، ثم ليعاود اتساع نفوذه الاجتماعي باستلامه أمين سر مجلس إدارة فرع "حلب" لمنظمة الهلال الأحمر حتى أواسط السبعينات؛ إلى جانب رئاسته لنادي الشبيبة "الكاثوليكية" خلال تلك السبعينات "التصحيحية"، والذي تحول فيما بعد إلى نادي (الجلاء)، الذي غدا عنواناً للهوية المسيحية في حلب وسوريا، وتجمعاً اجتماعياً لأبنائها، ولمن كانوا يعملون على استقطابهم في معركة هوية حلب.

 وقد تم الانطلاق منه في مشروعه الاجتماعي الأوسع (نادي حلب العائلي الاجتماعي)، كرئيس له منذ عام /1975/ وعلى مدار عقود ثلاث، كان فيها أيضاً عضواً وبرلمانياً لامعاً في (مجلس الشعب السوري)، وأحد المخولين بتحديد ملامح الوجوه التي يمكن أن تمثل المدينة؛ فهو (أبو الدستور) كما سماه (حافظ الأسد) بعد قصة برلمانية أشبه بـ"النكتة"؛ عبر هذه القناة أصبح رجال الأعمال الجدد في حلب ممثليها البرلمانيين في مجلس الشعب، إلى جانب الفنانين ورجال دين السلطة.

وهكذا بسط (عبد الله موصللي) الواجهة المقبولة لقناة تربط بين المجتمع والدولة في إطار اجتماعي مقبول، وكان لابد من (الدينامو)، القادر على تفعيل هذا الإطار في سبيل بناء الاشتراكية الأسدية مع برجوازية مُصنَّعة بإتقان، وهذا بالتحديد ما كان يمثله (جورج أنطاكي).

وكما هو المحرك الفاعل في أي جسم، مكانه في العمق، مخفي، مرتبط مع الجميع بشبكة معقدة، ويحمل ماركة معينة مرموقة، كان (جورج أنطاكي). فهو قنصل إيطاليا في حلب، وهو رجل الأعمال البارز، وهو "الماسوني" الذي لا يشق له غبار، وهو رجل العلاقات الخاصة مع مختلف الأوساط التجارية والدينية والسياسية مع الخارج، وهو بنفس الوقت عراب وقناة فاعلة للوصول إلى المقاولات والتعهدات والعطايا ذات القيمة العالية للعديد من المؤسسات الحكومية في سوريا.

أوجد (إنطاكي) لنفسه مكاناً في كل نشاط تجاري أو صناعي، فهو عراب التجارة المرتبطة بالحديد والمنتجات الصناعية لأدوات الصرف الصحي الإيطالية التي لاقت رواجاً منقطع النظير في أسواق حلب، وهو أحد مالكي (معمل إلفا للأدوية) في مرحلة مهمة من مراحل تطور الصناعة الدوائية في سوريا، وكان لديه نفوذ كبير في المؤسسة العامة للسكك الحديدية وعلاقات ممتازة مع مديرها العام (إياد غزال) الذي كان مديراً أيضاً للقصر الجمهوري، وهو العلوي اللوائي النافذ صديق بشار الأسد، وكانا معاً (أنطاكي وغزال) عرَّابي الفساد في صفقات بمليارات الليرات السورية، حيث ارتبط (أنطاكي) بعلاقة وثيقة مع شركة (ايتالفير) الإيطالية، وهي الفرع المتخصص بالدراسات السككية في الخطوط الحديدية الإيطالية، وكان شخص اسمه (جوزيف أسود) هو وكيلهم الصوري في الصفقات الفاسدة تلك، إلى جانب غيرها من شركات أجنبية أخرى. كما افتتح باسم أحد أقربائه هو (كريم ديوب)، شركة تجارية مصرية (المصرية للتوكيلات)، في مرحلة كانت مهمة في إطار تطور العلاقات الاقتصادية بين سوريا ومصر في تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الجديد، وكانت تقدم عروضها للحصول على المناقصات الحكومية السورية كشركة مصرية.

وكل ذلك بالتأكيد لا يشكل إلا ما ظهر عن رجل أعمال وقنصل نافذ عمل على التخفي قدر ما استطاع إليه سبيلاً، وراء واجهة قانونية وبرلمانية هو (عبد الله موصللي)، في إطار اجتماعي ناشط هو (نادي حلب العائلي)، في تنفيذ خطة ماسونية مهمة، وهي محاولة تغيير وجه (حلب) إلى الأبد.

كان نادي حلب في الحقيقة نادٍ للفاعلين سواء فيما يخص أعضائه بحد ذاتهم، أو مدى اتساع وعمق شبكة العلاقات التي كان أعضاؤه يضربونها في المجتمع المحيط بهم: بمسؤولين ورجال أعمال وأشخاص آخرين من أصحاب الفعاليات والحضور الاجتماعي البارز على مختلف المهن كالمحاماة والفن والطب..الخ، مع بعض الملحقات الاجتماعية الأخرى التي كانت تبدو منفصلة، ولكنها في الحقيقة كانت في الدائرة نفسها، ومن أجل المهمة ذاتها، كنادي الجلاء مثلاً.

وليس غريباً عن أي شخص عاش في حلب في العقد الماضي، أنه كلما تقدم به المسير في حياته في حلب، بالقرب من الحزب أو الجامعة أو مؤسسات الدولة المهمة، أو خالط بصورة مستمرة بيئة المال والأعمال فيها، كلما شعرت باليد الخفية تلك، وتأثيرها النافد، والذي وضع حلب إلى هذه اللحظة في جيب النظام.

ترك تعليق

التعليق