اقتصاديات.. ما الذي ينتظر ميالة بعد الاستغناء عنه؟


حسم بشار الأسد وضع وزير الاقتصاد أديب ميالة، منهيا حياة الرجل السياسية، بعد ست سنوات من الهجوم المركز عليه والتي لم يوفر فيها إعلام النظام أية وسيلة للنيل منه واتهامه بأنه كان السبب وراء انهيار الاقتصاد السوري بين العامين 2014 و 2016، وهي الفترة التي فقدت فيها الليرة السورية أكثر من 70 بالمئة من قيمتها وكان فيها ميالة حاكماً للمصرف المركزي.

ميالة من جهته، كان على يقين في الفترة الأخيرة، أن نهايته أصبحت وشيكة وذلك عندما انتقل الهجوم عليه من المصرف المركزي إلى وزارة الاقتصاد التي تولاها منذ أقل من عام، إذ بدأت وسائل الإعلام بانتقاده وقبل أن يباشر عمله وقبل أن يتضح خيره من شره..

ثم عندما انطلق العمل في الوزارة، بدا واضحاً أنه يتم تحضير الرجل لإلباسه جريمة أكبر من حجمه، كي يكون كبش فداء، أمام الرأي العام، على أنه كان المسؤول الفعلي عن تدهور الوضع الاقتصادي في البلد، وذلك بعد فشل جميع الحكومات التي تم تشكيلها بعد العام 2011، في إيجاد السياسة الاقتصادية المناسبة للتكيف مع أزمة طويلة الأمد.. وهو أمر يتحمل مسؤوليته النظام السياسي في البلد بالدرجة الأولى، والذي حاول على الدوام أن يصور الأزمة على أنها مؤقتة، وأنها تقترب من الخلاص، ولكن في حالة الأنظمة الديكتاتورية، فإنها تبحث دائماً عن الحلقة الأضعف لتحميلها المسؤولية، وهل هناك من هو أضعف من أديب ميالة في هذه الحلقة..!!، لكن لماذا..؟

بالعودة إلى العام 2004، وهو العام الذي تولى فيه أديب ميالة، منصب حاكم مصرف سوريا المركزي، فلقد فاجأ هذا التعيين الأوساط الاقتصادية، على اعتبار أن ميالة ليس هو الشخص المناسب لهذا المنصب، وكونه غير مختص بالنقد، ولا يفهم به لا من قريب ولا من بعيد.. لكن التعيين جاء بناء على اقتراح المؤسسات النقدية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي كان النظام يسعى لفتح صفحة جديدة معها، باسم سياسة الإصلاح الجديدة والانفتاح الاقتصادي، فكانت أن طلبت هذه المؤسسات أن يتولى مسؤولية النقد، رجل تستطيع أن تتعامل معه، وأن يكون مستقلاً عن الخطاب السياسي الحزبي.. وهكذا وقع الاختيار على أديب ميالة وباقتراح من هذه المؤسسات، كونه يحمل الجنسية الفرنسية، وكان يعمل سابقاً في الملحق التجاري في السفارة الفرنسية بدمشق، إضافة إلى أنه مسيحي ولا ينتمي إلى حزب البعث..

لقد أثار تعيين ميالة حاكماً لمصرف سوريا المركزي، في حينها، موجة من الانتقادات، وقلة قليلة من الاقتصاديين، طلبوا إعطاء فرصة للرجل كي يثبت وجوده.. وكل من تابع أداء ميالة في الفترة من العام 2004 إلى العام 2010، لا بد أنه لاحظ أن شيئاً كبيراً قد تغير في أداء هذه المؤسسة، التي كانت من قبل مغلقة على الإعلام والرأي العام، ولا تختلف كثيراً عن أي فرع مخابرات في البلد..

ما قام به ميالة، أنه فتح أبواب المصرف المركزي للإعلام، وحدث تطور لافت، من خلال البيانات الدورية والتصريحات التي تتحدث عن واقع النقد في سوريا وموجودات المصرف المركزي من العملات الصعبة، وهو أمر كان شبه مستحيل في السابق، وكانت هذه البيانات أشبه بالمعلومات العسكرية التي يجب أن لا يعرف بها سوى الرئيس وبعض المقربين منه، بينما رئيس الوزراء لم يكن بمقدوره معرفة هذا الأمر.!!

أما التطور الأخر الذي حدث، هو أن ميالة فتح أبواب المصرف المركزي لمسؤولي صندق النقد والبنك الدوليين، من أجل الكشف على البيانات بأنفسهم.. وهي عملية كانت تقوم بها هاتان المؤسستان، مرتين في العام تقريباً، وكان النظام في السابق يمنع دخولهما إلى المركزي والاطلاع على البيانات النقدية فيه أو أنه يحاول عرقلة هذا الأمر باستمرار وتقديم بيانات مضللة عن الواقع النقدي لديه..

باختصار، لم يكن النظام راضياً عن وجود ميالة على رأس هذه المؤسسة، وإنما قبل بالأمر بضغط دولي، وحتى عندما بدأت الثورة، احتفظ النظام به، على أمل أن يكون أحد المداخل لتحسين علاقته مع الغرب، وقد استفاد كثيراً منه، عندما استثنته العقوبات الغربية، وسمحت له بحضور الاجتماعات الدورية لصندوق النقد الدولي..

في العام 2011، وعندما بدأت الثورة السورية، توقع الكثيرون، أن ينضم أديب ميالة لها، وأن يكون أحد المنشقين عن النظام، وقد انتشرت الكثير من الشائعات حول هذا الأمر، والسبب أن ميالة كان على الدوام محارباً من قبل أجهزة السلطة والمخابرات، وكانوا يعتبرونه ممثلاً ومنفذاً لسياسات المؤسسات المالية الدولية أكثر منه ممثلاً للحكومة السورية.. وميالة بدوره كان يشعر بهذا الأمر، لكنه بنفس الوقت كان يدرك أنه مدعوم غربياً ومسألة تغييره أو المساس به لن تمر بدون ضجيج..

ما قام به النظام، أنه سلط أجهزته الإعلامية عليه، وسمح بنقده دون سقف أو حدود، وحاول في أكثر من موقعة أن يحمله مسؤولية انهيار الليرة السورية، رغم أن ميالة في العامين 2014 وحتى 2016، كان ينفذ سياسة النظام في الموضوع النقدي، وعمليات الضخ في مؤسسات الصرافة، لم يكن يقوم بها من تلقاء نفسه، وإنما بتوجيهات عليا.. غير أن النظام استخدم فيما بعد هذه الورقة في وجه ميالة وأخذ يلوح بها عبر وسائل الإعلام، بأن هناك مبلغ يتجاوز الـ 5 مليار دولار، قام المصرف المركزي بضخها في أسواق الصرافة بحجة المحافظة على سعر صرف الليرة السورية، وأن هذا المبلغ لولا أنه خرج من خزائن المركزي، لكان الوضع الاقتصادي أفضل مما هو عليه..

ومع ذلك، كانت المفاجأة عندما قام النظام بتعيين أديب ميالة وزيراً للاقتصاد منتصف العام الماضي، وهو ما أثار الكثير من إشارات التعجب حول موقف النظام الحقيقي منه..!!

غير أن وجود ميالة على رأس وزارة الاقتصاد، تبين وبعد أيام قليلة، أن الهدف منه، كان توريط الرجل أكثر في قضايا فساد وقرارات خاطئة غير مسؤول عنها لوحده، ولكن باعتباره الحلقة الأضعف، وكونه بالأساس متهم بشرفه الوطني، فإنه من السهل الإيقاع به وحرقه بالكامل ومن ثم رميه لأجهزة الرقابة والمخابرات، التي بدأت بتحضير ملف كبير حوله، تتهمه فيه بالفساد، كما سلطت عليه مسؤوليين سابقين، كانوا قد عملوا معه، وفتحت لهم صحيفة الوطن وبعض المواقع المولية، مساحة خاصة لكي يدلوا بشهاداتهم في حق ميالة ويتحدثون عن أخطائه التي تسببت بتردي الأوضاع الاقتصادي في البلد..

نعتقد أن ميالة اليوم، وبعد قرار الاستغناء عنه كوزير للاقتصاد بمرسوم من بشار الأسد، أنه في موقع لا يحسد عليه، وتنتظره أيام سوداء، وهو نتيجة طبيعية لقبوله بأن يكون ألعوبة بيد النظام وأن يكون منفذاً لسياساته، رغم إدراكه منذ البداية بأنه كان مستهدفاً دون سواه من المسؤولين.. لهذا ينطبق على ميالة اليوم المثل الشعبي القائل، بأنه أصبح مثل مؤخرة البقرة، "لا هو مع اللحم مطبوخ، ولا مع الجلد مسلوخ".. فهو كان المسؤول الوحيد غير المحسوب على النظام مئة بالمئة، وبنفس الوقت لم ينضم للمعارضة بحسب كل التوقعات، وكذلك خسر موقعه الدولي عندما قبل بالانضمام إلى حكومة النظام وزيراً للاقتصاد، ولم يعد ينتظره سوى تلقي الصفعات من قبل إعلام النظام وأجهزته الرقابية، والتي سوف تستخدمه كـ "ملطشة" كلما أرادت التنفيس عن الأخوة "المواطنين"..

ترك تعليق

التعليق