اللقاء مع اليهودي الأمريكي – (الفصل الثاني من "الترليونير السوري")


"ديفيد باركر".. أحد ألمع كتّاب الزوايا في "نيويورك تايمز"، لكنه أكثر من ذلك بكثير، وهذا هو بالتحديد ما جعل لمقالاته الأسبوعية صدىً كبيراً في أوساط صناع القرار حول العالم.. يعتقد الكثيرون في عالم السياسة والمال، أن باركر أحد أيقونات محفل سرّي، لقادة العالم السرّيين، الذين يديرون الكرة الأرضية، أو معظمها، من وراء الستار.. نظرية تلقى الكثير من التأييد في أوساط المؤمنين بـ "نظرية المؤامرة".. لكن جمال الدمشقي، بحكم شبكات علاقاته، وتجاربه التي أتاحت له التعرف على شخصيات كثيرة مثيرة للجدل، ومؤثرة للغاية، عالمياً.. يؤمن تماماً، بوجود محافل سريّة، وقادة سرّيين، إن لم يكونوا يديرون العالم تماماً، فهم يعملون على ذلك.. و"ديفيد باركر" أحد أيقوناتهم، إذ كانت تذكرة دخوله إلى ذلك العالم، يهوديته أولاً، ومن ثم، نجاحاته المتسارعة في عالم التحقيق الصحفي، ودهائه الشهير في محاورة الساسة وصناع القرار في عالم المال والأعمال..

وفيما يُرجع البعض تميز باركر إلى انتمائه لمؤسسة إعلامية عريقة، من قبيل الـ "نيويورك تايمز"، يعتقد آخرون أن بقاء "نيويورك تايمز" أيقونة صامدة وبرّاقة، في عالم الإعلام، مرده إلى جهود ديفيد باركر نفسه، إلى جانب ثلة من الصحفيين العباقرة، الذين أدركوا في اللحظة المناسبة، اتجاه الرياح، فماشوها، بالصورة التي حولت "نيويورك تايمز" إلى واحدة من أقوى الصحف الالكترونية العالمية، بآليات وتقنيات مُبتكرة، وغير معتادة سابقاً..

ومع اندثار الصحافة الورقية رويداً رويداً، كانت "نيويورك تايمز" واحدة من أبرز الصحف التي اشتقت سبيلها بنجاح في عالم الخبر الالكتروني، بناء على نهج جعلها جذابة للغاية لرجال المال والأعمال، الأمر الذي حولها إلى قبلة للاستثمار والدعم المالي والدعاية، فتحولت إلى واحدة من أكثر الصحف الالكترونية ربحية في العالم..

كان ديفيد باركر، أحد العقول المدبرة لهذا التحول في "نيويورك تايمز".. وقد يكون ذلك أحد أبرز العوامل التي جعلته مقرباً من الشخصيات الفاعلة في صنع القرار، من وراء الكواليس، في واشنطن، وكذلك في عواصم غربية عدة..

لا يُخفي ديفيد باركر اعتزازه بيهوديته، بل أكثر من ذلك، يُحتسب على الصهيونية، وهو أحد شخصيات "إيباك" المؤثرين، الأمر الذي جعله موضع ترحيب، ورهبة، في آن، في أوساط جميع أصحاب الطموح السياسي والمالي في الولايات المتحدة الأمريكية، وأيضاً، خارجها، ممن ينشدون علاقات طيبة مع أقوى مجموعات الضغط اليهودية في أمريكا..

***

ببشرة حنطية، وعينين سوداوتين، وشعر فاحم، يتخلله بعض الشيب، ولحيةٍ تنحصر بالذقن وتتصل بالشاربين، ويتبدى البياض في وسطها.. صافح ديفيد باركر، جمال الدمشقي، بحرارة.. ملامحه لا تُوحي بـ "أمريكيته" نهائياً، باستثناء هندامه، وماركات ثيابه، وربما تلك "السكسوكة" التي تعبّر عن موضة منتشرة بكثافة في أوساط نخبة المثقفين الغربيين، هذه الأيام.. ما عدا ذلك، تُوحي ملامحه بـ "شرق أوسطية" متبدية للعيان..

يدّعي ديفيد باركر أنه ينتسب بالفعل إلى "بني إسرائيل".. السلالة الفريدة المتحدرة من النبي يعقوب.. لكن اسمه، وأصول أجداده البريطانيين، لا تؤكد ذلك.. يبقى الإدعاء الذي أطلقه يوماً في إحدى مقالاته الشهيرة، الدليل الوحيد على "إسرائيليته" بالنسب، لا بالمعتقد فقط..

بادله جمال المصافحة، لكن بشيء من التحفظ.. وحرص على وجود مترجمه الخاص معهما، رغم إتقان جمال للإنكليزية بلكنتها الأمريكية، لكن فضّل وجود المترجم لتدقيق الكلام، تجنباً لأي سوء تفاهم، مقصود أو غير مقصود، قد يُرجعه باركر لاحقاً إلى تعذر فهم المقصود من كلام جمال..

جلسا قبالة بعضهما، حول طاولة دائرية مستديرة مرتفعة، يتسع محيطها لشخصين لا أكثر، وجلس المترجم على بعدٍ منهما يُتيح له الاستماع وتسجيل الملاحظات على المحادثة، لتدقيق الترجمة لاحقاً مع باركر، قبل نشر اللقاء الصحفي المطوّل، حسب الاتفاق المسبق بين ديفيد وجمال..

وضع باركر آلة التسجيل على الطاولة.. لكنه لم يشغلها مباشرةً، وبدأ المحادثة بمحاولات لكسر جليد اللقاء الأول بينهما.. كان جمال متحفظاً، ويُبدي شيئاً من الجمود على وجهه، بردود مقتضبة ومتحفظة، وابتسامات محدودة، تُوحي بـ "عدم الثقة" التي يشعر بها حيال باركر..

كان جمال يستهدف إيصال هذا الشعور لـ باركر.. فهو يعلم جيداً أن زيارته لثلاثة أهداف، الأول، هدف مهنيّ، فأن يحظى إعلامي بلقاء مطوّل مع شخصية عالمية، كـ جمال الدمشقي، لا بد أنه أمر يهمّ باركر دون شك.. أما الهدف الثاني، فهو نقل رسائل مشفرة، ربما، أو مباشرة، من الأطراف التي يمثلها باركر في نيويورك تحديداً.. أما الهدف الثالث، دراسة شخصية جمال الدمشقي، ومحاولة التعرف إلى بعض نقاط ضعفه..

بعد بضع عبارات للتودد، أطلقها باركر، باشر المحادثة متسائلاً:

-    هل أشغل المسجل؟، مستعد لأن نبدأ؟
-    نعم، دون شك.. لكن اتفقنا يا ديفيد، نص الحوار ستتم مراجعته مع مترجمي الخاص، قبل النشر.
-    بالتأكيد.. لفت نظري أن ما يُشاع عن بذخ هائل تحيط نفسك به، دقيق إلى حدٍ ما، يظهر ذلك جلياً في هذا القصر الرائع، كل زواياه تنضح بالفعل، بالأُبهة.
-    أُقرّ بذلك..
-    لكن.. سمعت أن هذا الأمر يثير استياء شريحة واسعة من السوريين.. ما تزال جراح الشعب السوري لم تشفى تماماً، وأنت تبذخ بطريقة قد تكون مستفزة.. هذا ما قرأته في بعض تعليقات السوريين في وسائل التواصل الاجتماعي..
-    صحيح، هناك بعض السوريين مستائين من ذلك.. لكن، أعتبر من جانبي أن ذلك حقّي، فأنا أبذخ من مالي الخاص، وهذا القصر، دفعت أضعاف ثمنه الحقيقي للحكومة.. ناهيك عن أنني لم أقُصّر نهائياً في تمويل عمليات إعادة إعمار البلاد.. أنت تعلم باركر.. إنها مئات المليارات من الدولارات..
-    نعم صحيح.. أعلم.. بهذه المناسبة، هل تستطيع أن تعطيني رقماً دقيقاً لما قدمته لسوريا، هل صحيح أنه يتجاوز الـ "ترليون" دولار، بكثير..
-    نعم..
-    كم تحديداً؟
-    ترليون و400 مليار دولار..
-    إذاً.. ثروة جمال الدمشقي كان من المفترض أن تتجاوز الـ 2 ترليون دولار، لولا دورك في تمويل عملية إعادة الإعمار في سوريا.
-    بالتأكيد..
-    أصدقك القول.. إنه عمل جبّار.. كانت لي زيارة إلى دمشق، يوم أخرجتم "داعش".. عام 2032.. كانت المدينة في حالة يرثى لها.. اليوم، دمشق متألقة حقاً..
-    نعم، بحمدالله.
-    لكن، هل يعني ذلك أن سوريا مدينة لـ جمال الدمشقي بأكثر من ترليون دولار..
-    لم يقل أحد ذلك.. لقد كنت واضحاً أكثر من مرة.. مساهماتي في إعادة إعمار سوريا، ليست ديوناً..
-    إذاً ما المقابل؟
-    أن أرى دمشق متألقة، كما رأيتها أنت اليوم..

كح ديفيد باركر قليلاً.. شعر أن مسار الحديث لم يخدم الغاية التي يريد.. واستغل جمال الدمشقي ذلك، فداهمه بتساؤل مرفق بابتسامة تُوحي بالتحدي:
-    ما أخبار أصدقائك في نيويورك؟

ارتبك باركر للحظة.. لكنه سرعان ما سيطر على انفعالات وجهه كي لا يظهر ارتباكه جلياً.. ضحك، أزال نظارته عن عينيه، وأبعدها شبراً، ودقق في عدساتها، ثم أعادها إلى ناظريه، وحدق في جمال، وقال:
-    أرسلوا تحياتهم برفقتي..
-    وصلتني تحياتهم عبر مدير أعمالي في نيويورك.. ووصلتني معها تهديدات مبطنة..
-    أنا هنا لا أمثلهم سيد جمال.. لكن بمناسبة أنك غيّرت مجرى الحوار.. ليكن.. فهو في نهاية المطاف، سؤال، يجب أن نمرّ عليه.. يُشاع أن هناك اتفاقاً سرّياً بينك وبين الإسرائيليين، عُقد في مزرعة أحد أصدقائك البريطانيين، في ويلز.. صحيح؟
-    صحيح.. وأنا صارحت به السوريين..
-    هل ما يزال هذا الاتفاق قائماً؟
-    بالطبع..
-    لكن الإسرائيليين يتحدثون عن تجهيزات عسكرية، تشمل بنى تحتية وأنفاقاً ونشاطات مقلقة على الجبهة السورية، وراء حدود الجولان..
-    بطبيعة الحال.. نحن لسنا في حالة سلام، بل في حالة هدنة..
-    هدنة عمرها اليوم أكثر من 66 سنة.. على ما أذكر.. منذ وقف إطلاق النار عام 1974.. يقول بعض الناس أن جمال الدمشقي أعاد إحياء اتفاق سرّي تاريخي عقده حافظ الأسد مع الإسرائيليين، وبفضله، عاشت الهدنة ثلثي قرن.. حتى اليوم..
-    من حيث المبدأ، ربما كلامك صحيح، لكن من حيث المحتوى، فالاتفاق الذي عُقد في ويلز، والذي أتحمل شخصياً مسؤوليته التاريخية أمام الشعب السوري، يحتوي بنوداً لم يحتويها اتفاق وقف إطلاق النار بين الأسد الأب والإسرائيليين..
-    هل يمكن أن تذكرنا بها.. على لسانك، شخصياً..
-    عدم تغيير الوضع القائم في القدس الشرقية، وتحديداً فيما يخص المواقع المقدسة للمسلمين والمسحيين هناك. عدم القيام بأي إجراءات تؤدي إلى ترانسفير فلسطيني لسكان الضفة أو قطاع غزة. عدم استخدام عنف مفرط في المنطقتين (الضفة، غزة). عدم الاعتداء على سوريا ولبنان.. بالمقابل، تعهدنا بعدم الاعتداء من جانبنا على إسرائيل، ما دامت شروط وقف إطلاق النار مُحترمة من جانب الإسرائيليين..
-    لماذا وُصف الاتفاق بأنه اتفاق وقف إطلاق للنار، رغم أنه لم يسبقه أي تبادل لإطلاق النار بين سوريا وإسرائيل،.. هل يرجع ذلك إلى اتهاماتكم بتورط إسرائيل في محاولة اغتيالكم في بيروت، عام 2033؟
-    لا.. هذا التوصيف شاع في وسائل الإعلام.. وقبلنا به ربما لأنه يمثل، كما قلت، إعادة إحياء لاتفاق قديم بين سوريا وإسرائيل، وإن بحِلة جديدة..
-    هل تخشى من انهيار الاتفاق؟
-    لا أخشى.. نحن ملتزمون من جانبنا به.. وخرقه إن حصل، فسيكون من الجانب الآخر..
-    حينها ماذا سيكون ردكم؟
-    الخيارات مفتوحة.. الاتفاق واضح، تحدثنا في ويلز حينها، للوسطاء، أنه في حال خَرقِ الإسرائيليين للاتفاق، فكل الخيارات ستكون مفتوحة أمامنا، في ذلك الحين..
-    هل لدى سوريا القدرة على مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل..
-    نعم..
-    هل أنتم مستعدون لهكذا مواجهة؟
-    نعم..
-    إذاً، أنت غير واثق بسلامة النوايا الإسرائيلية؟
-    بالطبع لا..
-    إذاً، تتفق معي أن توصيف "رجل السلام" الذي أُطلق عليك عقب اتفاق ويلز الشهير، غير دقيق..
-    هل معنى أن أكون "رجل سلام"، أن أكون ساذجاً؟.. إن كان كذلك، أتفق معك.. لست رجل سلام..
-    لا أقصد ذلك.. لكن عليك أن تسعى للسلام بالفعل مع إسرائيل، كي تستحق لقب "رجل سلام"، هذا ما قصدته.. أما ما تقوم به أنت الآن، من تحضيرات لمواجهة مرتقبة، فهو يؤجج احتمالات المواجهة بالفعل..
-    حسب علوم السياسة والحرب، ونظرياتها التقليدية الشهيرة، التي تعرفها دون شك، فإن "توازن القوى" و"القدرة على الردع"، يحدان من الحروب..
-    لكنهما يدفعان الطرف الآخر إلى الاستعداد للحرب، والخشية من نواياكم..
-    دون شك، وهذا ما قد يدفع الطرفان للجلوس على طاولة مفاوضات جدية، وتقديم تنازلات مؤلمة في سبيل السلام، بدلاً من التورط في سباق تسلح يثقل كاهل الطرفين..
-    هل يثقل سباق التسلح كاهلكم؟
-    ميزانية التسلح في سوريا مستقلة تماماً عن ميزانية إعادة الإعمار، وأنا تكفلت بها أيضاً.. فالأمن لا يقل أهمية عن الإعمار..
-    ألا تخشى أن تؤدي تجهيزات الردع، حسب ما تدعوها، إلى وقوع سوء تفاهم حدودي، يؤدي إلى المواجهة..
-    هناك خط حدودي فاصل، تديره قوى دولية كما تعلم.. لا يوجد أي مبرر لحصول "سوء تفاهم حدودي"، كما وصفت.. إلا إن كان أحد الطرفين يستهدف الإطاحة بـ "اتفاق وقف إطلاق النار"، بالفعل..
-    ألست في وارد القيام بخطوات حسن نية، لطمأنة الطرف الآخر..
-    من قبيل؟
-    تصريح ما، يتعهد بالالتزام بوقف إطلاق النار، مثلاً..
-    أطلقنا هكذا تصريح بالفعل، عبر القنوات الرسمية في الحكومة السورية..
-    وبخصوص التحضيرات على الجانب السوري من الحدود.. يقول الإسرائيليون إنك تحضر لحرب، دون شك..
-    في عالم السياسة لا يجوز الحكم على النوايا.. الحكم يكون على الأفعال.. هل خرقنا "وقف إطلاق النار"؟
-    لا.. لكن، أيضاً في عالم السياسة لا يجوز أن تقول لعدوك، انتظر إلى أن أصبح جاهزاً لمواجهتك.. واكتفي بمراقبتي حتى ذلك الحين..
-    ديفيد.. أنت تعلم، إسرائيل لم تتوقف يوماً، قبل وبعد اتفاق "وقف إطلاق النار"، عن تطوير قدراتها العسكرية، وتحصيناتها الحدودية، ومهارات مقاتليها.. لماذا يُعاب علينا ذلك؟، أم علينا أن نكتفي بالمشاهدة؟
-    إسرائيل لها أعداء كُثر، وتهديدات لا تنحصر بجبهتكم..
-    مثل؟.. أعرف أن كل دول الطوق المحيطة بإسرائيل، ملتزمة باتفاقات سلام أو وقف إطلاق نار معها.. ولم يعد هناك تهديد من حزب الله بعد حلّ ذراعه العسكري.. أما إيران، فباتت في حالة أقرب إلى الصداقة، مع الإسرائيليين.
-    لمن تعيدون بناء جيشكم؟، من المستهدف؟
-    لا توجد حكومة رشيدة في العالم، لا تعمل على تعزيز قدراتها العسكرية بما يصون أمنها واستقرارها، ورفاه شعبها..
-    إذاً، ألا يمكن أن يُنزع فتيل التوتر بينكم وبين إسرائيل، بإجراء حسن نيّة من جانبكم.. يكون فعّالاً أكثر من مجرد التصريح..
-    من قبيل؟
-    كأن تدعو لجنة عسكرية مؤلفة من دول محايدة، للإطلاع على التحضيرات التي تقومون بها على الحدود في الجولان، لطمأنة إسرائيل بأنها تحضيرات دفاعية، وليست هجومية..

عندما أطلق باركر العبارة الأخيرة، حدّق جمال فيه بنظرات يتطاير منها الشرر.. ثم قهقه بعصبية بادية، وقال:
-    أبداً..

يتبع في الفصل الثالث..

مواد ذات صلة:

من شرفة القصر بالمالكي – (الفصل الأول من "الترليونير السوري")

ترك تعليق

التعليق